الحمد لله رب العالمين لله رب العالمين الغفور الشكور العزيز الغفور، سبحانه سبحانه جعل عبادة الشكر أعلى العبادات عند حضرته شأناً وأرفعهم لديه قدرا، فجعلها عبادة الأنبياء والمرسلين، وجَّه إليها عز وجل النبيين والمرسلين فقال:
وأثنى على النبيين الذين قاموا بهذه العبادة حق القيام، فقال عن نوحٍ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام:
“إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا” (3الإسراء).
وقال عن إبراهيم أبي الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام:
“شَاكِرًا لانْعُمِهِ” (121النحل).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، طلب من المسلمين أجمعين لزيادة النعم وتكثير الخيرات ومزيد الفضل والبركات في جميع الأوقات أن يكونوا له دائماً من الشاكرين، فقال عز شأنه:
“لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ” (7الرعد).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الشاكرين وسيد العابدين وأول الحامدين لله في الدنيا ويوم الدين، الذي كان يقوم الليل بين يدي مولاه حتى تتورم منه الأقدام، فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلَّم:
(يا عائشة أفلا أكون عبداً شكورا).
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هُداه، ووفقنا للعمل بشرعه واتباع سنته في الدنيا، وارزقنا لواء شفاعته والرُفقة معه في الجنة أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
إن عبادة لشُكر لله عز وجل هي العبادة الواجبة على المؤمن لربه في كل وقتٍ وحين، فلو تدبَّر الإنسان في النعم التي أفاءها عليه مولاه، إن كان في نفسه أو كان في ولده أو كان في ماله او كان في حياته أو كان فيما عند الله في الدار الآخرة لوجد نفسه غارقاً بالكلية في نعم رب البرية ولا يستطيع عدَّها ولا إحصاءها فيُردِّد قول الله عز وجل فيها:
“وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا” (34الرعد).
لم يقُل الله عز وجل: وإن تعدوا نعم الله، وإنما قال: وإن تعدوا نعمة الله، ويعني نعمة واحدة من نعم الله يُفيضها علينا ويمتعنا بها، لو أردنا ما فيها من الخير والبر والفضل العظيم من الله العلي الكبير لن نستطع عدَّه ولن نستطع حدَّه، لأنها نعم العلي العظيم الوهاب الجواد الكريم عز وجل.
هذه النعم تحتاج لكي نحافظ عليها أن نشكر الله عز وجل عليها، ولكي نستزيد منها أن نُسارع دوماً في شكر الله عز وجل عليها، ولكي نُثاب في الآخرة عليها أن نكون في الدنيا من عباد الله الشاكرين.
فالشكر على النعم يحافظ عليها، والشكر على النعم يزيد الإنسان منها، والشكر على النعم يجعل الإنسان ذا جاهٍ كبير ومنزلة عظيمة في يومٍ يجمع الله الناس فيه ليومٍ لا ريب فيه.
كيف نشكر الله عز وجل على نعمه التي لا تُعد؟
ظنَّ كثيرٌ من الناس أن قوله الحمد لله يكفي في شكر الله عز وجل، لكن الشكر في حقيقته:
أن كل النعم التي أسبغ الله بها على الإنسان ظاهرةً أو باطنة فإنها فضلٌ من الله وإكرامٌ من الله وهبةٌ من الله وعطاءٌ من الله جل في عُلاه، والإنسان ما عليه إلا أن يقبل هذه النعم بشكر الله ليزيده عليها الله عز وجل.
أما حقيقة الشكر العملي فهو الذي قال فيه الله لداود وأهله:
أن يشكر الإنسان الله عز وجل بكل نعمة أنعم بها الله عز وجل عليه، بأن يتسخدمها في الطاعات ويمنعها عن المعاصي والذنوب والسيئات وهي:
نعمة اللسان:
فنعمة اللسان هي شكر الله عز وجل على هذه النعمة، وهي أن يستخدمه الإنسان في ذكر الله وفي تلاوة كتاب الله وفي توجيه النُصح لعباد الله وفي أي عملٍ صالحٍ ينفعه في دنياه وأُخراه، ولا يستخدمه في السبِّ ولا الشتم ولا اللعن ولا أي شيئٍ يُغضب الله جل في عُلاه.
نعمة العين:
ونعمة العين أن ينظر بها في نفسه وفي الآفاق ليرى آثار نعم الله عليه في نفسه وفي الآفاق:
وينظر بها في كتاب الله، يتحسَّس بها أحوال الفقراء والمساكين، لكي يعطف عليهم لينال فضل الله وإكرام الله، وأن ينظر إلى أحوال العجزة فيعطف عليهم رغبةً في إرضاء الله، وأن يحترم الأكابر ويرحم الأصاغر عملاً بوصية حبيب الله ومصطفاه.
ولا ينظر بها إلى المناظر التي حرمها، فلا ينظر بها في عالم البشر إلى ما لايُبحه له خالق البشر، فلا ينظر بها إلى العورات ولا ينظر بها إلى المحرمات ولا ينظر بها حتى في عالم النت إلى المناظر التي تُسوِّد الصُحف وتجعل الإنسان بعيداً عن مولاه ويستحق في كل لحظة غضبه عز وجل ولا ينال رضاه.
نعمة الأُذن:
ونعمة الأُذن الشكر لله عز جل عليها أن يستمع بها إلى آيات كتاب الله أو أحاديث حبيب الله ومصطفاه، أو النُصح من الناصحين، أو الوعظ من الأئمة أهل الخشية والمتقين، ولا يستمع بها إلى الغيبة والنميمة ولا قول الزور ولا الأخبار التي تُثير الشك والريبة وتُفرِّق بين الأنام.
وهكذا نعم الله في الإنسان وفي جوارح الإنسان التي سخرها لنا الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا.
نعمة المال:
أما نعمة المال فشكر الله عز وجل عليها بأن أجمعه من حلال أحلَّه الله لي، ولا أجمعه من حرام، وأن أُنفقه في الطُرق الشرعية التي أباحها كتاب الله والتي بينها لنا رسول الله صلوات ربي وتسليماته عليه، فليس الإنسان حراً في إنفاق ماله كما يدَّعي البعض، فأنت حرٌّ في إنفاق هذا المال ما دام في دائرة كتاب الله، وما دام في دائرة سنة رسول الله.
أما إذا أنفقته على حسب هواك، فإن ذلك قد يُخزيك في دنياك وأُخراك لأن الله عز وجل يُوقف الإنسان أمام حضرته، ويسأله عن كل قرشٍ جمعه وأنفقه في الدنيا سؤالين:
من أين إكتسبته ـ وفيم أنفقته.
من أين اكتسبته أمن حرامٍ أم من حلال، وفيم أنفقته أي في حرامٍ أم في حلالٍ لأنه نعمة من نعم الله العُظمى يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(نعم المال الصالح للرجل الصالح).
نعمة العُمر:
أما أكبر النعم على الإنسان في حياته فهي عُمره الذي وهبه له الله في هذه الحياة، وهي أنفاسه التي تتردَّد بين جنبيه، نفسٌ يخرج وربما لا يعود، ونفسٌ يدخل وربما لا يخرج، وكل نفسٍ من هذه الأنفاس يُحاسب عليه المرء يوم يلقى رب الناس عز وجل فيم أنفقته؟
أفي طاعة تسرُّك يوم أن تلقى الله؟ أم في معصية الله فتكون عليك غماً وهمَّا وكرباً عظيماً يوم لقاء الله عز وجل.
هذه النعم كلها تحتاج إلى شكر الله:
إذا كنت في نعمةٍ فارعهــــــــا فإن المعاصي تُزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقـــــــــــم
وقد علمنا صلى الله عليه وسلَّم دعاءاً نبوياً لطيفاً نردده صباحاً ومساءاً، فإذا أديناه صباحاً ومساءاً فقد أدينا ما علينا من الشكر لله ما دمنا قد حفظنا الجوارح من معاصي الله، واستخدمناها في طاعة الله، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(من أصبح فقال: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ـ فقد أدَّى شكر ليلته، ومن أمسى فقال: اللهم ما أمسى بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فقد أدَّى شكر يومه).
أو كما قال:
(أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين لله على نعمائه، والشكر لله عز وجل على جميع خيره النازل لنا في أرضه وسمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصَّنا بأعظم نعمة في الوجود في الدنيا والآخرة وهي نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يعيننا على شكره عليها وأن يُثبت الإيمان في قلوبنا حتى يتوافانا مسلمين ويُلحقنا بالصالحين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الأتقياء وسيد السعداء وصاحب الوجاهة العُظمى يوم العرض واللقاء.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا في الدنيا اتباع هديه وشريعته، واجعلنا في الآخرة من أهل لواء شفاعته واجعلنا في الجنة أجمعين من أهل جوار حضرته في جوارك يا أكرم الأكرمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلَّم فيم رواه له أمين الوحي جبريل:
كيف سيحاسب الله الخلق يوم القيامة على نعمة الشكر؟ فقال صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه:
(خرج من عندي الآن ـ أو في رواية: خرج من عندي آنفاً ـ جبريل فكان فيما أخبرني به أن رجلاً أقامه الله في جزيرة في عرض البحر طولها ثلاثين فرسخاً، وعرضها ثلاثين فرسخاً، وبينها البحر عرضه أربعة آلاف فرسخاً، وهيأ الله له في هذه الجزيرة عين ماء يشرب منها ويتوضأ ويغتسل منها، وجعل له فيها شجرة رمان تُخرج له في كل يومٍ رمانه يصوم يومه فإذا حان الغروب أخذها وأفطر عليها وتفرَّغ لعبادة الله، وطلب من الله عز وجل أن يُطيل عمره فأطال الله عز وجل عمره حتى عاش خمس مائة عام في طاعة الله عز وجل، وطلب من الله عز وجل أن يقبضه وهو ساجد، وأن لا يجعل للأرض سبيلاً على أعضائه، أي لا تأكله الأرض.
قال لي جبريل: فنحن نمر عليه صعوداً وهبوطاً ونجد له في علم الله عز وجل أن الله عز وجل يقول له يوم القيامة:
(أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ـ فيقول: بل بعملي يا رب ـ فيقول الله تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ـ فيقول: بل بعملي يا رب ـ فيقول الله تعالى: أدخلوا عبدي النار، فتأخذه الملائكة تجاه النار فيستغيث بالله عز وجل ـ فيقول الله تعالى لهم: رُدُّوه ـ ثم يقول الله عز وجل لهم:
من الذي هيأ لك الجزيرة في عرض البحر لتعبدني فيها؟ ومن الذي أخرج لك الماء العذب وسط الماء الأُجاج فيها؟ ومن الذي جعل لك في كل يومٍ رمانة وهي لا تُثمر إلا مرةً واحدةً في العام؟ ومن الذي قوَّى أعضاءك على طاعتي؟ ومن الذي قبضك ساجداً وحقق طلبك؟ ـ فيقول: أنت يا رب ـ فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، ثم يقول: نعم العبد أنتَ في طاعتي، فيقول جبريل: يا محمد إنما الأشياء برحمة الله عز وجل).
فلا نستطيع أن نعبد الله إلا برحمته، ولا نستطيع أن نمتنع عن معضيته إلا بحوله وقوته، فعلى المؤمن أن يُحسن التوكل على الله، وأن يُتم الإعتماد على الله، وأن يعلم أن الأمور كلها بتوفيق الله ورعاية الله ومعونة الله، ولا ينسب لنفسه فضلاً إلا إذا نسبه أولاً إلى مولاه.
فإذا تحدَّث عن توفيق حدث له يقول: هذا توفيقٌ من الله عز وجل لي، هذا فضل الله عز وجل عليّ، هذه مننٌ من الله عز وجل إليَّ، فلو نسبنا الأمور إلى الله ونسبنا الفضل كله لله، كنا بحمد الله من عباده الشاكرين الذاكرين الحاضرين مع حضرته في كل وقتٍ وحين:
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك واجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء، وارزقنا التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وفي قُوتنا ما أحييتنا، وبارك لنا في أولادنا وزوجاتنا وبناتنا، واجعلهم دوماً من عبادك الطائعين المهديين، واحفظهم من رفقاء السوء والمنكرين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا إلى فعل الخيرات واستباق الصالحات، والمداومة على فعل الطاعات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات يا أرحم الرحمين.
اللهم وفق حكامنا وحكام المسلمين للعمل بشريعتك، ولتنفيذ سنة خير أحبتك، وارزقهم البطانة الصالحة، ووفقهم لما فيه خير العباد والبلاد.
اللهم اهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، واجعل تخطيط اليهود في نحورهم إلى يوم الدين.