• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

20 ديسمبر 2013م

خطبة الجمعة_خطة النبى لإصلاح وتأسيس المجتمعات

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

الحمد لله ربَّ العالمين، أفاض علينا من خالص رحمته، وشملنا بأعظم نعمه وأكمل مِنَّته، فكتب في قلوبنا الإيمان وجعلنا من عباده المسلمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يُعزُّ مَنْ أطاع نبيَّه واهتدى بدينِه وأقام شَرْعَه، ويجعلهم بعد الذِّلة أعزَّة، وبعد الفاقة أغنياء، وبعد الدنيا وما فيها من أعباء سلاطين أعزِّة بالله على جميع الأشياء. وعد الله عزَّ وجلّ المؤمنين إذا استقاموا على نهجه الكريم في قوله عزّ شأنه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (97النحل).

وأشهد أن سيِّدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة. أقام الله عزَّ وجلَّ به الشريعة السمحاء وأذلَّ به جميع الأعداء، وجمع المؤمنين وجعلهم إخوة متآخين متوادِّين على الدوام. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيِّدنا محمد وارزقنا جميعاً الاهتداء بهديه، والعمل بشرعه، والسير على منهاجه، نحن وإخواننا المسلمين أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

أيها الأخوة جماعة المؤمنين:

جعل الله عزَّ وجلَّ في رسالة النبيِّ وحياته، روشتَّاتٍ لكل أدوائنا وأمراضنا الحياتية، ولذا أمرنا عزَّ وجلَّ في محكم الآيات القرآنية  – كلما زللنا، وكلما ضللنا، وكلنا حدث لنا أمرٌ ذي بال – أن نرجع إلى سيرته، وأن نطالع سنَّته، لنأخذ منها الدواء الذي يأتي بالشفاء الذي ليس بعده داء!! اسمع إلي الله عزَّ وجلَّ وهو يقول لنا أجمعين – ولمن قبلنا ولمن بعدنا من المسلمين: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ﴾ (21الأحزاب).

هاجر النبيُّ صلي الله عليه وسلم إلى المدينة، وأهلها من الأوس والخزرج بينهما حروبٌ إمتدَّت إلى مائة وعشرين عاماً، حروبٌ مستمرة!! وكان العرب – في ذلك الحين والدهر – تنشأ بينهم الحروب لأتفه الأسباب!! سباق بين الجمال يوشك أو يفوز بالسباق جملُ زعيم قبيلة، فيقف رجلٌ من القبيلة المناوئة ويهشه ليفوز جملهم، فتقوم الحرب بينهم لمدة أربعين عاماً!! تنشـأ الحروب بينهم لأتفه الأسباب!! والعداوات في النفوس!! والإحن في الصدور!! والبغضاء في القلوب!! والأمثلة يعجز عنها اللسان لضيق الوقت وضيق الزمان.

ما خطةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم التي نفذَّها – والتي هي أحوج ما نكون إليه الآن؟!! لأني أرى البغضاء وقد إنتشرت، والشحناء في النفوس وقد ظهرت، والعداوات وقد تأجَّجت، والفرقة وقد بَذَّتْ وظهرت في كل زمان ومكان، وأصبح الأخوة الذين يقول فيهم النبي: (ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كجسدٍ واحد) – المؤمنون وإن زادوا على المليار ونصف من البشر كأنهم رجلٌ واحد – (إذا اشتكى عضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى) (البخاري ومسلم وغيرهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما).

وفكِّر معي وقدِّر يا أخي: هل تضرب اليد في الجسد رأس هذا الجسد؟!! هل تُسبب القدم في هذا الجسد بدون مشكلة تفتعل مشكلة لتؤذي وتؤلم هذا الجسد؟ المؤمنون جسدٌ واحد على إختلاف أشكالهم، وألوانهم، وألسنتهم، ودولهم وبيئاتهم، يقول الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ (10الحجرات).ـ

كل المؤمنين أخوة، لا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا أحمر ولا أصفر، إلاَّ بالتقوى، (والتَّقْوَى هَا هُنَا) (صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)، محلها القلب فكيف يباهي أحدنا بنفسه ويظن أنه أتقى من أخيه؟!! ولا يطلع على القلوب إلا علاّم الغيوب عزَّ وجلَّ!! وكيف يُظهر رأياً ويرى أنه صواب وهو يعلم أن هذه الأمة فيها علماءٌ مؤيدون بنصِّ الكتاب، ألهمهم الله الحكمة وفصل الخطاب؟!! فإن كان له رأىٌ فلا يتعصَّب له، وإنما يتَّسِعُ صدره لجميع المسلمين، لأن هذا دِينُ الله عزَّ وجلَّ، وهذا هَدْىُ سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلّم.

الأساس الأول:

كانت خطة النبيّ لإقامة هذه الدولة الكريمة العظيمة – والتي وعدنا صلى الله عليه وسلّم أنها ستعود وتتكرر في هذا الزمان إن شاء الله – أول خطته: العمل بقول الله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ (47الحجر). (نَزَعَ)!! والنزع يحتاج إلي شدّة – نزع من القلوب الغلَّ والحقد والحسد، والشُّحَّ والحرص، والأثرة والأنانية، وكل هذه الأوصاف والأمراض التي تجعل الإنسان يُفرِّق بين نفسه وبين إخوانه، ويشعر أحياناً بالغرور، وأحياناً بالعُجب، وهذا يتنافي مع خشية الله وتقواه عزَّ وجلَّ.

وكان يُركّز على هذه الخُصلة!! فأنتم تعلمون جميعاً أنه صلى الله عليه وسلّم كان جالساً بين أصحابه ذات يوم وقال: (يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة) (أحمد والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم عن أنس رضي الله عنه)، فدخل رجلٌ أعضاؤه يتساقط منها الماء من أثر الوضوء، ويحمل نعله بيديه، وفي اليوم الثاني كرَّر صلى الله عليه وسلّم المقولة – وكان نفس الرجل: (يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة) وكان نفس الرجل!! وفي اليوم الثالث كذلك، فأراد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما – وكان يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله – أن يَعْلَمَ ما يزيد فيه هذا الرجل عنه في التقرب إلي الله، وفي العمل الصالح الذي يعمله ابتغاء وجه الله. فذهب إليه وتظاهر أن هناك خلافاً بينه وبين أبيه، وطلب منه أن يضيِّفه لمدة أيامٍ حتى ينتهي الخلاف – وهو يريد أن يرى ما عليه هذا الرجل من العمل الصالح مع الله – فرأى الرجل لا يقوم في الليل إلا إذا اقترب الفجر، فيتوضأ ويقول له هيا بنا لنُصلّي الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وفي الصباح يقدّم الفطور ويفطر معه.

علم أنه لم يقم الليل ولم يصُم النهار، فظنَّ أنه كان مُتعباً أو شاكياً، لكنه وجده في اليوم الثاني كذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، فقال له: يا هذا ليس هناك خلافٌ بيني وبين أبي، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول – ثلاث مرات في ثلاثة أيام: (يدخل الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة)، وكنت أنت ذاك الرجل في المرات الثلاث، فأحببت أن أعرف ماذا تفعل؟ فقال: لا أزيد عما رأيت – ثم نظر إلي الأرض ورفع رأسه وقال – غير أنِّي أبيتُ وليس في قلبي غلٌّ ولا غشٌّ لأحدٍ من المسلمين. فقال عبد الله: هذه!!! أى هذه هي التي بلَّغتك هذا المقام، ورفعتك هذه الدرجة العظيمة، التي تحدّث عنها الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

والنبي صلى الله عليه وسلّم قرَّب الحقيقة لنا، فقال لأنسٍ رضي الله عنه: (يا بُنيَّ إن إستطعت أن تبيت وليس في قلبك غلٌ وغشٌ لأحدٍ من المسلمين فافعل، فإن ذلك من سنتي، ومن فعل سُنتي كان معي في الجنة) (الطبراني في الأوسط عن أنس بلفظ: ” يا بني إن قدرت أن تمسي وتصبح ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني إن ذلك من سنتي فمن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة”)

الأساس الثاني

فلما اقتلع صلى الله عليه وسلّم شجرة الحقد والغلِّ من النفوس، زَرَعَ مكانها شجرة المحبَّة حتى صار بها المؤمنون جميعاً أحبَّة، يوادُّون بعضهم، ويحرصون على منفعة إخوانهم، ويذبُّون الغِيبة عن بعضهم. لا تنطق ألسنتهم بقبيح نحو إخوانهم، ولا بكلامٍ يُسبِّبُ هجراً أو خصومة بين ذويهم وأقربائهم، بل كانوا حريصين أن يكونوا في التعامل مع بعضهم، عاملين بقول الله جلّ في عُلاه: ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ (24الحج)، فلم يكن في المدينة كلِّها واحدٌ يسُبُّ أخاه بعد أن سمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلّم: (سُبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْر) (متفق عليه عن عبد الله بن مسعود). كيف يسُبُّ مسلماً – أياً كان هذا المسلم – حتى ولو أخطأ؟! فلست المحاسب، بل المحاسب هو الحسيب عزَّ وجلَّ، والحسيب إذا توضأ إليه – أىُّ مخطئٍ – وقال: يا ربِّ أنا تُبت، يقوله له: وأنا قبلت!! (إن الله يبسُط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسُط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) (صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).

بل إنه عزَّ وجلَّ (يُحِبُّ التوَّابين وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين) (222البقرة)، حتى نُشجِّع هؤلاء على التوبة إلي الله، وعلى الرجوع إلي حضرة الله، وعلى الندم عما جناه، وعلى اغتنام الفرصة في الدُنو والإقتراب إلي الله، فلا نُنفرَّه من دين الله، ولا من العمل الصالح الذي يقربه الي الله، وإنما نكون كما قال الله في شأن حبيبه ومصطفاه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ (159آل عمران) ـ

حتى ربط الحبيب صلى الله عليه وسلّم حقيقة الإيمان بالحبِّ للمؤمنين، فقال صلى الله عليه وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) (البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه). لكي يكتمل الإيمان لابد للمؤمن أن يحبَّ الخير لجميع المؤمنين – حتى ولو كانوا عُصاةً ومذنبين؟!! يحبُّ لهم أن يتوبوا ويرجعوا إلي الله، وأن يُقبِلُوا على العمل بشرع الله، ويشجِّعهم على ذلك بما في وسعه على هذه الحياة، لعله يكون رجلاً من الذين يقول فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (لأن يَهْدِيَ بك الله رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمُرِ النَّعِم) (البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه).

فأٍّسّس المجتمع على المحبَّة!! وبلغت هذه المحبَّة – كما تعلمون – أن المؤمن الأنصاري كان يؤثر المؤمن المهاجر بكل شيءٍ يمتلكه في هذه الحياة، فيقتسم معه ماله، ويقتسم معه بيته، وإن وجده غيرَ متزوّجٍ يُعرض عليه زوجتيه فإن أعجب بإحداهما طلقها، فإن إنتهت عدّتها تزوجها، حتى قال الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾  (10الحشر).

لفتةٌ قليلة منا: هل نحن على عهد هؤلاء سائرون؟ أم هل نحن على المنهج الذي صنعه الحبيب المصطفى متبعون؟ وقد صارت الدنيا أكبرَ همِّنا ومبلغَ علمِنا، ولا يبالي المسلم في سبيل تحصيلها من غشِّ أخيه المسلم، ومن خيانة أخيه المؤمن، ومن التقاتل مع أخيه من أمه وأبيه، بل ربما تمتلئ وتغّصُّ المحاكم بالإخوة الأشقاء الذين يذهبون إلي المحاكم من أجل سهمٍ في أرضٍ زراعية، أو مبلغٍ من المال لا يساوي شيئاً في هذه الدنيا الدنية!! تبدَّلت الأحوال، وتغيَّرت النفوس!! فأصبحنا كما نرى نحتاج إلي العودة إلي منهج الحبيب لعلَّ الله عزَّ وجلَّ ينظر إلينا نظرةً بعين الرضا فيُحوّل حالنا إلي أحسن حال. نحتاج إلي أن نتآلف فيما بيننا، وأن يكون الحبُّ هو الشعار السائد في مجتمعنا، وأن تكون الأخوة في الإيمان وحقوقها هي المهمَّة البالغة بيننا، فنقوم بحقوق إخواننا المؤمنين طلباً لمرضاة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ. نعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلّم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَحْقِرُه، ولا يسلمه. بحسب أمريءٍ من الشرِّ أن يَحْقِرَ أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) (رواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه ، ولا يحقره، لتقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه”). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ربِّ العالمين، الذي منَّ علينا بهداه وجعلنا من عباده المسلمين، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يزيدنا من النور والهُدى واليقين، وأن يوفِّقنا للعمل الصالح وطاعته وذكره وشكره في كل وقتٍ وحين، حتى يتوفانا مسلمين ويُلحقنا بالصالحين.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إلهٌ يُحِقُّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ بعده عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد خير النبيين، وإمام المرسلين، والرحمة العُظمى للخلق أجمعين في الدنيا، والشفيع الأعظم في لجميع الأنبياء والمرسلين وأممهم يوم الدين. صلى الله عليه وعلى آله الغُرِّ الميامين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلي يوم الدين.

أيها الأخوة جماعة المؤمنين:

الأساس الثالث

أسّس النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مجتمع المؤمنين على أمرٍ ثالث بالغ الأهمية وضروري – لو وعيناه وعملنا به واتبعناه، لانصلحت كل أحوالنا في أنفسنا، وفيما بيننا وبين إخواننا، وفيما بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ. أسَّس هذا المجتمع على أن ينشد كلُّ مرىءٍ فيه – عند أىِّ عملٍ أو حركة أو سكنة – أن يكون هذا العمل لله، لا لدنيا يرجوها، ولا لمنصبٍ يحرص عليه، ولا لظهورٍ أو رياء، ولا لبلدٍ أو قبيلة، وإنما يعمل العمل طلباً لرضا الله، لا يريد فيه إلاَّ وجه الله جلَّ في عُلاه.

وكل أسباب المشاكل في مجتمعنا أن العمل فيها لغير الله، لو كان الإنسان عمله لله واجتمعنا على هذا الأمر جميعنا وتوحدّت نوايانا، ما وُجد في مجتمعنا مشكلة قطّ. أصحاب النبي يقول فيهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ – لماذا؟ –  يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ (28الكهف). يريدون وجه الله، لا يريدون دنيا دنيَّة، ولا شهواتٍ حسيّة، ولا أشياءٌ من الدنيا، لأنهم يعلمون أنهم عنها مفارقون – إن قريباً أو بعيداً – وإلي الله راحلون، ولا ينفع الإنسان يوم يَلْقَى الله إلا ما قدمت يداه: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (110الكهف). العمل يكون لله، لا يقصد إلا وجه الله جلَّ في عُلاه، حتى أنهم يراقبون هذا الأمر في أدّق المواقف!!

فالإمام علىُّ رضي الله عنه، حدثتْ مبارزة في إحدى المعارك الحربية بينه وبين رجلٍ من الكافرين، وتقاتلا – وكلُّ رجلٍ يركب فرسه – حتى وقع الفرسان ميتان من شدة الحركة، فترجَّلا فأمسكا بسيفيهما يتقاتلان حتى تحطمت وتكسّرت السيوف، فتصارعا مصارعة حُرّة، فحمله الإمام علىٌّ وجلد به الأرض وركب عليه، وأخرج خنجره ليذبحه بعد أن تمكَّن منه، فما كان من الرجل – بعدما تأكد له أنه ميتٌ لا محالة – إلا أن تَفَلَ في وجهه، فقام الإمام علىٌّ وتركه!! فتعجّب الرجل وقال: لِمَ تركتني بعد أن تَمَكَّنْتَ منِّي؟!

فقال الإمام علىّ – التلميذ النابغ الذي تربّى في مدرسة الإخلاص على يد الأستاذ الأعظم حضرة النبي: (كنت أقاتلك لله، فلما تَفَلْتَ في وجهي خِفْتُ أن أقتلك إنتقاماً لنفسي، فيكون هذا العمل غير خالصٍ لوجه الله عزَّ وجلَّ). فقال الرجل: وهل تراقبون الله – عزَّ وجلَّ – في هذه المواقف؟! قال: وفي أدّق منها!!!

علَّمهم ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم. ينووون بأى عملٍ أو حركة أو قولٍ أو سكنة وجه الله، يزنوه بميزان الإخلاص لله، إذا كان العمل خالصاً لله أمضاه، وإن كان فيه حظٌ للنَّفْسِ، أو طلبٌ للشُهرة، أو ميلٌ للسمعة، أو فيه إرضاءٌ للخلق وإغضابٌ للحقّ، توقف عن هذا العمل!!

ما أحوجنا جماعة المؤمنين الآن غلي مراقبة الله عزَّ وجلَّ، والتوجه إليه بالإخلاص في الأعمال: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ (5البينة). إذا عبدنا الله مخلصين، وطهَّرْنَا نفوسنا من الحقد والغلِّ للمسلمين، وملأنا قلوبنا بالمودَّة والمحبَّة لجميع المؤمنين، وقلنا – كما قال النبيُّ الأمين – كلُّ رجلٍ منا مَعْنِيًّا بالحديث الشريف: (المؤمن إلفٌ مألوفٌ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف) (رواه البيهقي والقضاعي والعسكري عن جابر مرفوعاً)، نألف إخواننا ونمُدُّ أيدينا اهم دائماً بالمودّة والمحبة والكلمة الطيبة، غيَّر الله حالنا فوراً إلي أحسن حال: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ﴾ (96الأعراف).

اللهم طهِّرْ نفوسنا، وصَفِّ قلوبنا، وحبِّبنا في بعضنا، واجعلنا دوماً إخوة متعاونين متباذلين متكاتفين، وانزع الشحناء من صدورنا ومن صدور جميع إخواننا المؤمنين، واجعل المؤمنين في هذا الزمان عاملين بقولك سبحانك: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ (10الحجرات).

اللهم يا من ألَّفت بين الثلج والنار، ألِّف بين قلوب عبادك المؤمنين، رؤساء ومرءوسين، واجعلنا جميعاً بقضلك وكرمك في هذا البلد المكين إخوة متآلفين، نسعى جميعاً في كل أعمالنا في رضا الله، ونسعى جميعاً في هذه الدنيا لإسعاد خواننا المؤمنين بالله.

اللهم إنا نسألك وأنت خير مسئول أن تقضي على الفئة الضالة التي تسعى بالفرقة والشتات بين عبادك المؤمنين، وأن تجعل رجال هذا الوطن أجمعين كرجل واحد في الخير يا أكرم الأكرمين.

اللهم أصلح الراعي والرعية، واجمعنا جامعة إسلامية، وولى أمورنا خيارنا، ولا تولى أمورنا شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأعن الأتقياء والصالحين على طاعتك في كل وقت وحين، وتُبْ على العصاة والمذنبين، وردُّهم إلى حضرتك تائبين.  

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.

اللهم كثِّر لنا الخيرات، واجعلها مباركات، وأغننا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل مصر غنية بخيراتها عن مساعدات الكافرين أجمعين، ولا تحوج أهلها إلى أحد من الخلق يا أكرم الأكرمين.

اللهم أهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وخذ على أيدي اليهود الغاصبين، وطهِّر أرض بيت المقدس وفلسطين، واجعل أرض الإسلام أرض الأمن والسلام في كل ربوع الأرض يا أكرم الأكرمين. 

عباد الله: اتقوا الله، (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).

اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.

*****************

خطبة الجمعة – كفر الجمال ــ قها ــ القليوبية – 20/12/2013 الموافق 17 صفر 1435 هـ

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid