Sermon Details
سابعاً: فتنة حب الجاه والشُهرة
فتنة حب الجاه والشُهرة فتنة خطيرة لا ينتبه إليها كثيرٌ من السالكين، لأنها محببةٌ إلى النفس، ودائماً وأبداً تتوق النفس إلى الشُهرة وحب الظهور، وإنه كما قيل: (حب الظهور يقسم الظهور) وأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حيث يقول:
{ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ }[1]
والرياء والشهرة الخفية يكون عند الإنسان أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، كما قال صلى الله عليه وسلم:
{ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ }[2]
فحب الجاه يعني أن الإنسان كما أنه يحب المال وامتلاك الدراهم والدنانير فكذلك يحب أن يكون له منزلة ومكانة في قلوب الناس يميلوا بها إليه ويُثنوا بها عليه ويسيطر بها عليهم، وهي فتنة يقول فيها سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه: (آخر داء يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة).
أسباب الميل إلى الجاه
والجاه في ذاته يسعى الإنسان إليه لأن النفس تميل إليه، والناس يميلون إلى الإنسان ويجعلون له مكانة عندهم لاعتقادهم في شيء من الكمالات فيه، كأن يكون له كمال في العلم، أو يكون له ثروة كبيرة يشتهر بها بينهم، أو يكون ذا نسب كمن ينتسب إلى آل بيت النبي ومن ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما، أو من يتظاهر بالزهد والورع، أو من يتظاهر بالتقوى، أو من يتظاهر ويتباهي بالسعي بين الناس لجلب الخير لهم والإتيان بالمصالح التي يحبونها فيما بينهم، وغير ذلك.
ومن هنا فإن صاحب الجاه يُخشى عليه من الفتنة، لأنه ينسى أنه أُعطي الجاه في قلوب الناس لاعتقادهم بكماله، والجاه هنا مسؤولية ومساءلة وليس زينة نتزين بها أمام الناس.
فمن ولَّاه الله على قلوب الخلق أخذ عليه العهد والميثاق أن يراعي الأمانة في قلوب الناس، فلا يتزيَّن لهم بما ليس فيه، فإن كان عالماً لا يدَّعي علماً لا يعرفه ولا يحويه بين جنباته، وإن كان يدَّعي الورع وليس ورعاً أو يدَّعي التُقى وليس تقياً فهذا يُخشى عليه من الفتنة ويُخشى عليه من تضييع المسؤولية ويُخشى عليه من سؤال الله سبحانه وتعالى له عما هو فيه يوم القيامة.
الزهد في الشهرة
ولذلك آثر النبي صلى الله عليه وسلَّم في تربيته لصحبه المباركين أن يكونوا في البداية زاهدين في الشُهرة غير راغبين في الجاه، وإنما يرغبون في الخمول وعدم ذيوع الشهرة والصيط والرفعة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:
{ حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[3]
وقال سليم بن حنظلة: (بينما نحن حول أُبيِّ بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال أُبيُّ: أُنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر رضي الله عنه: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).
وعن الحسن البصري رضي الله عنه قال: (خرج بن مسعود يوماً من منزله فتبعه ناس، فالتفت إليهم فقال: علامَ تتبعوني؟! فوالله لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان).
ولذلك قال الحسن رضي الله عنه: (إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى).
الخمول والجاه
ولما كان أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار، فهو هنا مذموم إذا طلبه الإنسان، لكن إذا أشهره الله تعالى لنشر دينه وجاءته الشُهرة بغير تكلف ولا طلب فذلك هو المحمود وهو الذي كان عليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
وإن كان أغلبهم يميل إلى الخمول لكثرة ما ورد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ }[4]
وأشعث يعني ملبَّد الشعر في رأسه، وذي طمرين يعني ثوبين خَلِقين.
والبراء بن مالك أخ أنس بن مالك من أبيه كان في معركة (تُستر) في بلاد فارس، وأحاط الفُرس بالمسلمين، فالتفَّ المسلمون حول البراء وقالوا: يا براء أقسم على الله أن ينصرنا عليهم فإنك مُجاب الدعوة كما قال صلى الله عليه وسلَّم، فقال البراء: يا رب أُقسم عليك لتمنحنَّا أكتافهم، ولتلحقني بنبيك صلى الله عليه وسلَّم.
فكان القوم من الفرس كأنهم استسلموا حتى أكثر المسلمون فيهم القتل، كأنهم مُنحوا أكتفاهم، ومات البراء استجابة لدعوته، لأنه طلب من الله أن يُلحقه بالنبي صلى الله عليه وسلَّم.
وقال فيهم أيضاً صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنْصَتْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ }[5]
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلَّم فيهم:
{ إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى أَحَدُكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَاراً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَهُ دِرْهَماً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَهُ فَلْساً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَلْجَنَّةَ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَ لَوْ سَأَلَهُ اَلدُّنْيَا لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا وَ مَا مَنَعَهُ إِيَّاهَا لِهَوَانِهِ عَلَيْهِ }[6]
وفي هؤلاء يقول الإمام محي الدين بن العربي رضي الله عنه وأرضاه مفسراً حالهم عند الله: (إن هؤلاء نالوا هذه المرتبة عند الله لأنهم صانوا قلوبهم عن أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بكون من الأكوان سوى الله، فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإليه راحلون ومنقلبون، وعنه ناطقون، ومنه آخذون، وعليه متوكلون، وعنده قابلون، فما لهم معروف سواه، ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسَهم عن نفوسِهم فلا تعرفهم نفوسهم، فهم في غيابات الغيب المحجوبون، وهم ضنائن الحق المستخلَصون، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق مشي ستر كله حجاب، فهذه حالة هذه الطائفة).
الأتقياء الأخفياء
وهؤلاء يقول فيهم عمر رضي الله عنه عندما دخل المسجد ورأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:
{ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ }[7]
ومن هؤلاء أويس القرني رضي الله عنه الذي أوصى النبي عمر وعليَّ أن يلحقا به، وقال لهما:
{ إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ }[8]
فسعيا إليه حتى تقابلا معه على عرفات، وسأله عمر أن يأتي معهما إلى المدينة فأبى لأنه لا يحب الشُهرة، وقال: أسير إلى البصرة، فطلب منه أن يكتب له كتاباً إلى أميرها فرفض، وقال: أُحب أن أكون في أدنى الناس، ولا أُحب أن يُشار إليَّ بالبنان.
ومن هؤلاء يحكي محمد بن سُويد التابعي فيقول: قحط أهل المدينة وشحَّ المطر، وكان بها رجل صالح لا يُؤبه له ملازم لمسجد النبي، فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم هذا الرجل وعليه طِمران – يعني قميصان خَلِقان – فصلى ركعتين أوجز فيهما، ثم بسط يديه فقال: (يا رب أقسمتُ عليك إلا أن أمطرت علينا الساعة) فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشَّت السماء بالغمام وأُمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: (يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم) فسكن المطر في الوقت والحال.
قال محمد بن سويد: فتبعتُ الرجل الذي استسقى حتى عرفت منزله ثم توجهتُ إليه في الصباح، فخرج إليَّ فقلت: إني أتيتك في حاجة، قال: ما حاجتك؟ قلت: تخصُني بدعوة، قال: سبحان الله أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة؟! فقلت: ما الذي بلَّغك ما رأيت؟ قال: أطعتُ الله فيما أمرني ونهاني، فسألتُ الله فأعطاني.
ومن هؤلاء أيضاً وعلى هذا النهج سار الصالحون أجمعون، فالإمام الجُنيد رضي الله عنه وأرضاه عندما فتح الله عليه في الإجابة على أسئلة المحيطين به، وطلبوا منه أن يحدثهم رفض لعدم حبه وطمعه في الشهرة، فذهبوا إلى شيخه السِرِّي السقطي وطلبوا منه أن يأمره أن يحدثهم، فقال: يا جنيد حدِّث إخوانك بما فتح الله تبارك وتعالى به عليك، ولكنه خوفاً من الشُهرة لم يفتح على نفسه هذا الباب حتى أتاه الأمان، فجاءه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم في المنام وقال له: يا جُنيد حدِّث إخوانك بما فتح الله به عليك، فذهب إلى شيخه السري ليخبره، فقال له: لا تُحدِّث إلا إذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟!.
فتنة الشهرة
وعلم أنه كان خائفاً من فتنة الشُهرة، ولذلك لم يذُمُّه على ذلك، ولم يلُمه أو يعاتبه على ذلك، لأن أساس أهل الطريق ما قال فيه ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه وأرضاه لمن يسلك هذا الطريق ويريد أن يكون من أهل التحقيق، أن يمشي في البداية متخفياً ومُخفياً أحواله لقول النبي صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ }[9]
فيقول ابن عطاء الله رضي الله عنه وأرضاه لمن يجاهد نفسه في بداية الطريق: (ادفن نفسك في أرض الخمول حتى تُشرق عليك أنوار الوصول) أي لا تستعجل في الظهور إن كان بعلم أو بعبادة أو بزهادة أو بولاية أو بكرامات أو مكاشافات حتى تتمكن في الوصول ويأتيك الإذن من حضرة الرسول، فتدخل في قول الله: ” أُولَئِكَ لَهُمُ الامْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ” (82الأنعام).
أما الذي يفتح على نفسه هذا الباب قبل ذلك، ولم يُؤذن له بذلك، فيُخاف عليه من فتنة الخلق، ويُخاف عليه من شهوة النفس، ويُخاف عليه من النكوص على عقبيه، ولذلك قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
وإذا دعاهم أن يدلوا غيرهم |
قاموا بحولٍ منه لا بفخارِ |
يدعون والرهبوت ملء قلوبهم |
بالهَدْيّ هَدْيّ المصطفى المختار |
فالخلق فتنة من أردتُ صدوده |
وشهود أهل البعد في الأدوار |