• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:58 PM

Sermon Details

8 سبتمبر 2022

فتنة حب الجاه والشُهرة

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

سابعاً: فتنة حب الجاه والشُهرة

فتنة حب الجاه والشُهرة فتنة خطيرة لا ينتبه إليها كثيرٌ من السالكين، لأنها محببةٌ إلى النفس، ودائماً وأبداً تتوق النفس إلى الشُهرة وحب الظهور، وإنه كما قيل: (حب الظهور يقسم الظهور) وأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حيث يقول:

{ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ }[1]

والرياء والشهرة الخفية يكون عند الإنسان أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ }[2]

فحب الجاه يعني أن الإنسان كما أنه يحب المال وامتلاك الدراهم والدنانير فكذلك يحب أن يكون له منزلة ومكانة في قلوب الناس يميلوا بها إليه ويُثنوا بها عليه ويسيطر بها عليهم، وهي فتنة يقول فيها سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه: (آخر داء يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة).

أسباب الميل إلى الجاه

والجاه في ذاته يسعى الإنسان إليه لأن النفس تميل إليه، والناس يميلون إلى الإنسان ويجعلون له مكانة عندهم لاعتقادهم في شيء من الكمالات فيه، كأن يكون له كمال في العلم، أو يكون له ثروة كبيرة يشتهر بها بينهم، أو يكون ذا نسب كمن ينتسب إلى آل بيت النبي ومن ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما، أو من يتظاهر بالزهد والورع، أو من يتظاهر بالتقوى، أو من يتظاهر ويتباهي بالسعي بين الناس لجلب الخير لهم والإتيان بالمصالح التي يحبونها فيما بينهم، وغير ذلك.

ومن هنا فإن صاحب الجاه يُخشى عليه من الفتنة، لأنه ينسى أنه أُعطي الجاه في قلوب الناس لاعتقادهم بكماله، والجاه هنا مسؤولية ومساءلة وليس زينة نتزين بها أمام الناس.

فمن ولَّاه الله على قلوب الخلق أخذ عليه العهد والميثاق أن يراعي الأمانة في قلوب الناس، فلا يتزيَّن لهم بما ليس فيه، فإن كان عالماً لا يدَّعي علماً لا يعرفه ولا يحويه بين جنباته، وإن كان يدَّعي الورع وليس ورعاً أو يدَّعي التُقى وليس تقياً فهذا يُخشى عليه من الفتنة ويُخشى عليه من تضييع المسؤولية ويُخشى عليه من سؤال الله سبحانه وتعالى له عما هو فيه يوم القيامة.

الزهد في الشهرة

ولذلك آثر النبي صلى الله عليه وسلَّم في تربيته لصحبه المباركين أن يكونوا في البداية زاهدين في الشُهرة غير راغبين في الجاه، وإنما يرغبون في الخمول وعدم ذيوع الشهرة والصيط والرفعة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:

{ حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[3]

وقال سليم بن حنظلة: (بينما نحن حول أُبيِّ بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال أُبيُّ: أُنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر رضي الله عنه: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).

وعن الحسن البصري رضي الله عنه قال: (خرج بن مسعود يوماً من منزله فتبعه ناس، فالتفت إليهم فقال: علامَ تتبعوني؟! فوالله لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان).

ولذلك قال الحسن رضي الله عنه: (إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى).

الخمول والجاه

ولما كان أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار، فهو هنا مذموم إذا طلبه الإنسان، لكن إذا أشهره الله تعالى لنشر دينه وجاءته الشُهرة بغير تكلف ولا طلب فذلك هو المحمود وهو الذي كان عليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

وإن كان أغلبهم يميل إلى الخمول لكثرة ما ورد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ }[4]

وأشعث يعني ملبَّد الشعر في رأسه، وذي طمرين يعني ثوبين خَلِقين.

والبراء بن مالك أخ أنس بن مالك من أبيه كان في معركة (تُستر) في بلاد فارس، وأحاط الفُرس بالمسلمين، فالتفَّ المسلمون حول البراء وقالوا: يا براء أقسم على الله أن ينصرنا عليهم فإنك مُجاب الدعوة كما قال صلى الله عليه وسلَّم، فقال البراء: يا رب أُقسم عليك لتمنحنَّا أكتافهم، ولتلحقني بنبيك صلى الله عليه وسلَّم.

فكان القوم من الفرس كأنهم استسلموا حتى أكثر المسلمون فيهم القتل، كأنهم مُنحوا أكتفاهم، ومات البراء استجابة لدعوته، لأنه طلب من الله أن يُلحقه بالنبي صلى الله عليه وسلَّم.

وقال فيهم أيضاً صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنْصَتْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ }[5]

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلَّم فيهم:

{ إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى أَحَدُكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَاراً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَهُ دِرْهَماً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَهُ فَلْساً لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ، وَ لَوْ سَأَلَ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَلْجَنَّةَ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَ لَوْ سَأَلَهُ اَلدُّنْيَا لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا وَ مَا مَنَعَهُ إِيَّاهَا لِهَوَانِهِ عَلَيْهِ }[6]

وفي هؤلاء يقول الإمام محي الدين بن العربي رضي الله عنه وأرضاه مفسراً حالهم عند الله: (إن هؤلاء نالوا هذه المرتبة عند الله لأنهم صانوا قلوبهم عن أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بكون من الأكوان سوى الله، فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإليه راحلون ومنقلبون، وعنه ناطقون، ومنه آخذون، وعليه متوكلون، وعنده قابلون، فما لهم معروف سواه، ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسَهم عن نفوسِهم فلا تعرفهم نفوسهم، فهم في غيابات الغيب المحجوبون، وهم ضنائن الحق المستخلَصون، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق مشي ستر كله حجاب، فهذه حالة هذه الطائفة).

الأتقياء الأخفياء

وهؤلاء يقول فيهم عمر رضي الله عنه عندما دخل المسجد ورأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ }[7]

ومن هؤلاء أويس القرني رضي الله عنه الذي أوصى النبي عمر وعليَّ أن يلحقا به، وقال لهما:

{ إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ }[8]

فسعيا إليه حتى تقابلا معه على عرفات، وسأله عمر أن يأتي معهما إلى المدينة فأبى لأنه لا يحب الشُهرة، وقال: أسير إلى البصرة، فطلب منه أن يكتب له كتاباً إلى أميرها فرفض، وقال: أُحب أن أكون في أدنى الناس، ولا أُحب أن يُشار إليَّ بالبنان.

ومن هؤلاء يحكي محمد بن سُويد التابعي فيقول: قحط أهل المدينة وشحَّ المطر، وكان بها رجل صالح لا يُؤبه له ملازم لمسجد النبي، فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم هذا الرجل وعليه طِمران – يعني قميصان خَلِقان – فصلى ركعتين أوجز فيهما، ثم بسط يديه فقال: (يا رب أقسمتُ عليك إلا أن أمطرت علينا الساعة) فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشَّت السماء بالغمام وأُمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: (يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم) فسكن المطر في الوقت والحال.

قال محمد بن سويد: فتبعتُ الرجل الذي استسقى حتى عرفت منزله ثم توجهتُ إليه في الصباح، فخرج إليَّ فقلت: إني أتيتك في حاجة، قال: ما حاجتك؟ قلت: تخصُني بدعوة، قال: سبحان الله أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة؟! فقلت: ما الذي بلَّغك ما رأيت؟ قال: أطعتُ الله فيما أمرني ونهاني، فسألتُ الله فأعطاني.

ومن هؤلاء أيضاً وعلى هذا النهج سار الصالحون أجمعون، فالإمام الجُنيد رضي الله عنه وأرضاه عندما فتح الله عليه في الإجابة على أسئلة المحيطين به، وطلبوا منه أن يحدثهم رفض لعدم حبه وطمعه في الشهرة، فذهبوا إلى شيخه السِرِّي السقطي وطلبوا منه أن يأمره أن يحدثهم، فقال: يا جنيد حدِّث إخوانك بما فتح الله تبارك وتعالى به عليك، ولكنه خوفاً من الشُهرة لم يفتح على نفسه هذا الباب حتى أتاه الأمان، فجاءه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم في المنام وقال له: يا جُنيد حدِّث إخوانك بما فتح الله به عليك، فذهب إلى شيخه السري ليخبره، فقال له: لا تُحدِّث إلا إذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟!.

فتنة الشهرة

وعلم أنه كان خائفاً من فتنة الشُهرة، ولذلك لم يذُمُّه على ذلك، ولم يلُمه أو يعاتبه على ذلك، لأن أساس أهل الطريق ما قال فيه ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه وأرضاه لمن يسلك هذا الطريق ويريد أن يكون من أهل التحقيق، أن يمشي في البداية متخفياً ومُخفياً أحواله لقول النبي صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ }[9]

فيقول ابن عطاء الله رضي الله عنه وأرضاه لمن يجاهد نفسه في بداية الطريق: (ادفن نفسك في أرض الخمول حتى تُشرق عليك أنوار الوصول) أي لا تستعجل في الظهور إن كان بعلم أو بعبادة أو بزهادة أو بولاية أو بكرامات أو مكاشافات حتى تتمكن في الوصول ويأتيك الإذن من حضرة الرسول، فتدخل في قول الله: ” أُولَئِكَ لَهُمُ الامْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ” (82الأنعام).

أما الذي يفتح على نفسه هذا الباب قبل ذلك، ولم يُؤذن له بذلك، فيُخاف عليه من فتنة الخلق، ويُخاف عليه من شهوة النفس، ويُخاف عليه من النكوص على عقبيه، ولذلك قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:

وإذا دعاهم أن يدلوا غيرهم

قاموا بحولٍ منه لا بفخارِ

يدعون والرهبوت ملء قلوبهم

بالهَدْيّ هَدْيّ المصطفى المختار

فالخلق فتنة من أردتُ صدوده

وشهود أهل البعد في الأدوار

أثر الثناء

ما الذي يجعل الإنسان يحب الجاه ويطمع في الشُهرة؟ أمورٌ كثيرة منها أن النفس دائماً تريد انتشار الصيط، وهذا ثابتٌ في طبعها وتلتذ به، وتحب مع ذلك أن تسمع الثناء والمديح من الغير، ولذلك عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:

{ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثُوَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ }[10]

أي لا تفتح آذان نفسك لسماع الثناء والمدح وتلتذ بذلك، لأن هذا قد يودي بك في المهالك.

كذلك إن الإنسان فيه روح الله سبحانه وتعالى وهي سر الأمر الرباني: ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ” (29الحجر) وبسر هذا الأمر يميل الإنسان إلى الربوبية، والتقرب في الوجود والكمال ويحب أن ينفرد في أي أمر يمشي فيه، أي لايكون له مثيل إن كان في مجال العلم أو في مجال الغناء أو في مجال القراءة، ولذلك تحدث الأحقاد والأحساد للمضاهين والمساوين إلا من خرجوا وتبرأوا من هذه الشهوات فلا يتمتعون إلا بفضل الله وإكرام الله وينظرون إلى عطاءات الله ويشكرون الله عند ثناء الخلق عليهم، كما قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: نحن عندما نسمع ثناء الخلق علينا نسمع مدحهم لله الذي أعطانا، فهم يمدحون ويثنون على صاحب العطاء وليس لنا، والفضل لله والمنة لله في الأولى والآخرة.

فالإنسان دائماً يحب التفرد، ويميل دائماً إلى الزهو وإلى ما نبأ إليه الله في الحديث القدسي:

{ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ }[11]

ولذلك قال بعض الصالحين: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرَّح به فرعون من قوله: (أنا ربكم الأعلى) ولكنه ليس يجد له مجالاً، فإذا استخَّف قومه فأطاعوه ظهر عليهم بصفات الربوبية والألوهية، وهذا يكون بداية سقوطه والعياذ بالله بالكلية.

كما ضرب الله لنا مثلاً ببلعام بن باعوراء حيث كان له سبعين ألف تلميذ، وكان يَطَّلع على اللوح المحفوظ، وكان يُستشفى بدعائه، فكانت النتيجة أنه لما اغتَّر بنفسه واعتَّز بعظمته ولم ير فضل ربه عليه أن الله عز وجل سلب منه فوراً هذا العطاء، وأصبح الشيطان تابعاً له: ” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ” (175 -176الأعراف).

نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ والسلامة أجمعين، وأن يقينا فتنة الشُهرة، وفتن الخلق أجمعين آمين يا رب العالمين.

علاج حب الجاه

علاج حب الجاه، بأن يكون الإنسان دائماً وأبداً لا يلتفت إلى ما يُعظم به منزلته، بل يلتفت إلى فضل الله النازل عليه، وإكرام الله الهاطل عليه، ويرى أن كل ما به من فضائل وكل ما أكرمه الله به من عطايا هي فضل من الله فيقول: ذلك فضل الله عليَّ وعلى الناس أجمعين، فيشكر الله على عطاياه وينسب الفضل كله لحضرة الله تبارك وتعالى.

فإذا حافظ على ذلك حفظه الله تبارك وتعالى من كل المهالك، لأنه إذا طلب المنزلة عند الخلق يضطر إلى أن يماريهم وأن يرائيهم وهذا نوع من النفاق، وربما يجاهر بما ليس عنده، وهذا أصل في النفاق، وربما يتظاهر بخصال حميدة ليست فيه أصلاً، وهذا أيضاً فرع من النفاق، وهذا النفاق يأتي كله من حب الظهور، أي ظهور الإنسان بما لم يكرمه به حضرة الرحمن سبحانه وتعالى.

الملامتية

كذلك بعض الصالحين والعاملين المخلصين قد يلجأ للخروج من هذا الداء بأن يفعل أفعالاً هي أمام الخلق تُسقطه من أعينهم حتى يحتفظ بمنزلته عند الله، كالرجل الذي سافر إلى ليبيا وكان في شهر رمضان واستقبله الألوف، فدعا بكوز فيه ماء وشرب أمامهم بنية العمل بالرخصة، فانفضوا عنه فوراً لأنهم رأوه يشرب الماء في نهار رمضان.

وهذا العمل مزلق خطير لا يقدم عليه إلا إنسان بصير يأخذ مباشرة من الحبيب البشير النذير صلى الله عليه وسلَّم، وخاصة إذا كان قدوة يُقتدى به، فليس له أن يعمل شيئاً لا يجوز شرعاً العمل به أمام الخلق.

هذا مذهب الملامتية وهم الذين يعملون الأعمال أمام الناس لينزلوا من أعين الناس، ولكنهم لا يصلحون للقدوة بين الناس، فهذا رجلٌ تبرع بماله كله، وأرادوا حثَّ الناس على جمع المال، فأقاموا حفلاً عظيماً وقال رجل كبير منهم: إن فلان تبرع بكذا، فلم يستحي الرجل من الخلق وخرج إليه وقال: إن أمي أنَّبتني على ما فعلت وطلبت أن أرد المال فرُدَّ المال إليَّ، وفعل ذلك في نظره ليسقط من عين الخلق، لكن هذا أمر عسير لا يستطيع أن يفعله كل إنسان إلا إذا كان مؤيداً من حضرة الرحمن تبارك وتعالى.

حسن الخاتمة

كذلك الذي يجعل الإنسان لا يُحب الظهور، أن يتذكر دائماً وأبداً الخاتمة، وإذا تذكر الخاتمة فإن أي إنسان قلبه تقي نقي دائماً وأبداً يشعر بالخوف من سوء الخاتمة، حتى أن نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقول:

{ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ }[12]

وكان نبي الله يوسف عليه السلام يدعو الله ويقول: ” تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ” (101يوسف) والله عز وجل أمرنا وعلَّمنا أن نقول في كل وقت وحين: ” رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ” (8آل عمران).

فخوف الخاتمة يقطع نياط القلوب، ويجعل الإنسان لا يطمع إلا في رضاء علام الغيوب، ولا يبغ الظهور ولا الشُهرة ولا الصيط ولا السمعة طرفة عين ولا أقل على الدوام.

كذلك إذا كان الإنسان يمشي على منهاج النبيين والمرسلين، وإمامهم خير النبيين والمرسلين، يقطع طمعه عن الناس، ويكتسب رزقه من عمل يده، ولا يطلب منهم بلسانه ولا بلسان حاله شيئاً قليلاً ولا كثيراً، وشعاره قول الله: ” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ” (9الإنسان).

مثل هذا لا يبغي جاهاً، ولا يحب مدحاً ولا ثناءًا، ولا يبغي ظهوراً ولا رياءًا.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا من هذه الفتنة وأشباهها آناء الليل وأطراف النهار، وأن يُخلِّقنا بأخلاق النبي المختار، وأخلاق صحابته الأبرار، وأخلاق الصالحين الصادقين والأخيار.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] معجم الطبراني عن رافع بن خديج الأنصاري رضي الله عنه

[2] الحاكم في المستدرك وأبي نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها

[3] ورد في تفسير ابن كثير عن أنس رضي الله عنه

[4] جامع الترمذي والحاكم عن أنس رضي الله عنه

[5] ورد في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة رضي الله عنه

[6] أخرجه العراقي وقال حسن صحيح عن ثوبان رضي الله عنه

[7] ورد في تفسير ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

[8] صحيح مسلم والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[9] صحيح مسلم ومسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

[10] سنن الترمذي وابن ماجة عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه

[11] سنن أبي داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه

[12] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه

الجميزة – السنطة -الغربية  الخميس 12 من صفر 1444هـ 8/9/2022م 1

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid