الحمد لله رب العالمين الذي أنزل القرآن تبياناً لكل شيئ، وهدىً ورحمةً للمؤمنين.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان يعبد ربه بالقرآن، ويُعمِّر الحياة الدنيا بالقرآن، ويعمل جميع أفعاله حتى الأكل والشرب والنوم بالقرآن، وكانت أخلاقه القرآن صلى الله عليه وعلى آله أهل القرآن أهل الله وخاصته، وكل من تبعهم على هذا الهدى إلى يوم الدين، آمين يا رب العالمين.
يُوصي الصالحين دوماً أن يكون للسالك في طريق الله وردٌ، وورد يعني عملاً دائماً مستمراً يومياً من تلاوة كتاب الله، ويُوصون السالكين المتقدمين في مراحل السير إلى الله، أن يكون له وردان للقرآن: وردٌ للتعبد، يقرأ القرآن في موضعٍ حالين في غُرفة ولا أحد حوله بصوتٍ ويترنم بالقرآن، كالمصحف المرتل تماماً بتمام، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(ليس منا من لم يتغنَّى بالقرآن).[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه].
حتى لو يشعر الإنسان بأن صوته غير جيد، فإنه بصدقه وإخلاصه سيُعطيه الله حالاً منعنده يُجمل الله به صوته، ولكن يقرأ ويترنَّم، وهذه تلاوة للتعبد.
ويكون له ختمةٌ أُخرى للتدبر، للتفهم في معاني القرآن، وهذه كما أشرنا إلى الأحباب كثيرا أن يقرأ في مصحف مفسر، المصحف في وسط الصفحة، ومعه تفسيرٌ خفيف، وهذا ليس تفسير، ولكنه تفسير لمعاني بعض الآيات القرآنية، نزلت بلغة عربية صعبٌ علينا فهمها بدون الرجوع إلى مراجعها.
وتساعد على فهم كلام الله بذكر أسباب نزول بعض الآيت، هذه الآية لماذا نزلت؟ لكذا، ونحن محتاجين لهذا.
والمكتبات مليئة بأنواع المصاحف المفسرة، لكن تقريباً من نال القبول يسمونه: مصحف الجلالين، والجلالين لماذا؟
لأن الذي إشترك في تأليفه الشيخ جلال الدين السيوطي، والشيخ جلال الدين المحلي، وهذا من أولياء رشيد، والآخر من أولياء أسيوط.
الأول بدأ فيه ثم جاء الأجل فلم يكمله، فأكمل الثاني وهو جلال الدين المحلي التفسير، وهذا تفسير عظيم مبسط على قدر المبتدئين في طريق الله تبارك وتعالى.
أما الذين يتعرضوا للدروس المسجدية والخطبة المنبرية والسؤال من الناس، فهذا يحتاج إلى تفسير يكون أعلى في القدر، وأحسن تفسير في هذا الباب وطُبع في عصرنا حالياً إسمه:
“البحر المديد في تفسير القرآن المجيد” لابن عجيبة الحُسيني رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان من الأولياء الكمل وكان ملهماً، فبعد ذكر التفسير العادي للآيات، يُلهمه الله بإشارات في الآية يحتاجها السالكون المجدُّون، والمخلصون من عباد الله عز وجل في سيرهم وسلوكهم إلى الله تبارك وتعالى.
وهذه نصيحة في بداية حديثنا عن الآيات التي عندنا.
مثالٌ لذلك هذه الآيات، اليهود كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلَّم يريدون أن يحرجوه، فيتحرون للإتيان بأسئلة يزعمون أنه يعجز عن الإجابة عنها، ويسألونه لها أمام الكافرين، وهم لجهلهم نسوا أن الله تبارك وتعالى تولَّى أمره وشأنه ويُمده بمدده العالي في كل وقتٍ وحين.
بل إن الله كان يكشف في بصيرته النورانية ما يخبئنوه في قلوبهم وما يخفونه في طواتهم، فكان يفاجئهم بها صلوات ربي وتسليماته عليه.
والتوراة التي أُنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، هم حرَّفوها وغيَّروها وبدَّلوها، ولم يجعلوا التوراة كتاباً كالكتب الموجودة في عصرنا الآن، بل جعلوها وُريقات، لماذا؟ الآية الموجودة في الورقة الفلانية ولا تعجبهم يرفعوا الورقة، ويقول: هذه التوراة فاقرأها وهم قد رفعوا الورقة، فمن الذي كان يكشف هذا الأمر؟
صاحب نور الوحي الإلهي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وكانوا من إفكهم يقولون على الله ما لا ينبغي أن يقوله جاهلٌ عن حضرة الله سبحانه وتعالى، وهم كما ذكر الله أكرمهم الله بالمعجزات على يد نبي الله موسى عند عبورهم لخليح السويس وجعل لهم في أرض البحر في قاعه إثنى عشر طريقاً وسلَّط الشمس عليها فجففتها: طريقاً يبساً يعني ناشف مع أنه قاع البحر.
وأوقف جدراناً من المياه بين كل طريقٍ وطريق، جمَّد المياه التي بين كل طريق، فقالوا: يا موسى استوحشنا ونريد أن نطمئن على إخواننا، فضرب لهم البحر مرةً أُخرى، فصارت هناك نوافذ في كل جدار يرون منها بعض ويتحدثون مع بعض.
وأراهم الله كيف أغرق فرعون وقومه، وبمجرد خروجهم من البحر، وذهب موسى ليناجي ربه على جبل الطور، فوجدوا قوماً يعبدون أصناماً على هيئة البقر، فقالوا لسيدنا هارون:
فكتبوا في التوراة وزعموا ـ وهذا كلام غير مُنزل من عند الله ـ أن الله تبارك وتعالى إنتهى من خلق الخلق يوم العروبة، ويوم العروبة هذا كان يوم الجمعة، وكان هذا إسمه قبل الإسلام كان إسمه يوم العروبة ـ أن الله إنتهى من خلق الخلق يوم العروبة واستراح ـ كأنه قد تعب ـ يوم السبت، ولذلك مُحرم العمل يوم السبت، ونام على ظهره يوم الأحد، ووضع رجلاً على الأخرى وقال: أنا الملك.
هل يوجد طفل أو صبي من أطفال المؤمنين يدعي هذا الكلام على أحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى؟ لكنهم قالوا هذا، فرد عليهم الله وقال:
﴿ وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (91الأنعام).
وهذا سبب نزول الآية، فيُفهمنا لماذا نزلت؟ هؤلاء القوم لم يعرفوا قدر الله، ولا حقيقة الألوهية، ولا ما ينبغي له عز وجل من الصفات القدسية والأزلية والأبدية، فلا يعرفوا شيئاً عن الله سبحانه وتعالى أبداً، وطبعاً هذه الآية تمتد إلى عصرنا الحديث على منكري الألوهية وعلى الملحدين، وعلى الجاحدين وعلى البعيدين عن الله وهم الأكثرية:
وهؤلاء كلهم داخلين في هذه الآية، ولايرون آيات الله الجلية في كل المخلقوات الكونية، فلو نظر الإنسان نظراً بتدبر إلى أي كائنٍ خلقه الله، يجد فيه دلائل لا تُعد ولا تُحد على قدرة الله وعظمة الله تبارك وتعالى.
وكان أهل مكة يذهبون إلى اليهود ليأتونهم بحججٍ يظنون أنهم يبطلون بها نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، حتى وصل بهم الأمر في اللجج والعناد إلى أمرٍ إلى أن قالوا لليهود: أيهما أفضل نحن أم محمد ـ وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ـ قالوا لهم: أنتم أفضل من محمد.
وانظر إلى الحسد ماذا يصنع في أهله؟ كذبوا بالحق وهم يعلمون.
وكان أحبارهم يذهبون إليه ليعرضوا عليه الأسئلة المستشكلة، سورة الكهف كلها إجابة على أسئلة اليهود، يسألونه عن فتيةٍ كانوا في الزمن الأول، وردَّ الله فيهم، وسألوه عن الخضر وموسى، فرد الله عليهم، كلها إجابات على أسئلة اليهود.
فذهب بعض أحبارهم والأحبار كبار العلماء عند اليهود، وأرادوا إحراج الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وهنا ظهرت المعجزة النبوية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلَّم:
أليس في التوراة: إن الله يبغض الَحبر السمين؟ والَحبر السمين يعني العالم السمين، لأن العالم قدوة، وينبغي أن يتقلل من الطعام والشراب ليقتدي به من خلفه، وفي التوراة: إن الله يبغض الَحبر السمين، فماذا قال الرجل؟ قال:
﴿مَا أَنْزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ (91الأنعام).
أنكر الآية، فقال له: هات التوراة، فجاءوا بالتوراة فأخرج الآية من ثنايا أوراق التوارة، لأنهم كما قلت كانوا قد قطعوها أوراقاً قراطيس ليرفعوا ما يريدون رفعه منها، فالجماعة الذين كانوا معه من اليهود ـ وكان عالمهم ـ قالوا له: ألم تنزل التوراة على موسى؟ قال: بلى ـ يعني نعم نزلت ـ قالوا: فلم كذبت على محمد؟ قال: أغضبني فقلت ذلك، فقالوا: كأنك لو أغضبك إنسان تُكذب ما في التوراة كتاب الله؟ قال: نعم ما أنزل الله على بشرٍ من شيئ.
فعزلوه من الحبرية المنصب الأعلى، وكان إسمه فنحاص، وجاءوا بواحد آخر إسمه كعب الأحبار وهو الحبر الأعظم لهم.
﴿ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ـ وأكمل الله:
فمن أنزل الكتاب على موسى؟ ” نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾ (91الأنعام)، ولكنكم ماذا تفعلون؟
﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾ (91الأنعام).
وماذا تعني كلمة قراطيس؟ قراطيس يعني أوراق، وقراطيس في اللغة يعني أوراق، وقد دخل منها القرطاس الذي يصنعه بائعي التسالي، وهي أيضاً ورق وقراطيس يعني أوراق.
ما يريدون أن يظهروه يتركوه، وما يريدون أن لا يظهروه يخفوه، ومن العجب أنهم أخفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم التي كانت موجودة عندهم في التوراة، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما هاجر إلى المدينة وأنكروا أنه موجود في التوراة، فقال:
فجاءوا بالتوراة ووضع الكاهن يده على الأوصاف التي ذكرت رسول الله في التوراة، فقال: إرفع يدك واقرأوا ما تحت يده، فوجدوا أوصاف حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، والتي قال فيها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قارئاً للكتب السابقة، وسُئل كما جاء في صحيح البخاري:
بم وصف الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلَّم في التوراة؟
قال بما وصفه في القرآن ـ وما الوصف؟
[يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا، وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السئية، ولكن يعفوا ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويفتح به أعيناً عُمياً وآذاناً صُما، وقلوباً غُلفا].
وهذه أصواف سيدنا رسول الله في التوراة، وهي جزء لكن أوصاف سيدنا أبو بكرٍ موجودة في التوراة، وأوصاف سيدنا عمر موجودة كذلك:
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله ـ ومن؟ ـوَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ ـ أين؟ ـ فِي التَّوْرَاةِ﴾ (29الفتح).
كلهم مذكورين في التوراة، لكن هؤلاء قومٌ بُهت.
ولذلك سيدنا عبد بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وكان عالماً من كبار علماء اليهود، لما جاء ليُعلن إسلامه عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهت ـ وبُهت يعني يُنكرون الحق مع شدة وضوحه ـ فسأختفي خلفك وأرسل إليهم وسلهم عني.
فاختفى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وسأل حضرة النبي اليهود:
ماذا تعرفون عن عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا، فخرج عبد الله وقال: أنتم تعلمون أن أوصاف رسول الله موجودة في التوراة، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقالوا: شرُّنا وابن شرِّنا في الحال.
لأنه يعرف ذلك وما يحدث منهم، بعد أن قالوا: سيدنا وابن سيدنا، عادوا فقالوا: شرنا وابن شرنا، وهذه أصاف اليهود ولن تتغيَّر ولن تتبدَّل أبداً.
لماذا ربنا يعرفنا في القرآن؟
لكي نعرف التعامل مع بني الإنسان، نعرف هؤلاء كيف نتعامل معهم، وهؤلاء ما أخلاقهم؟ وهؤلاء ما أوصافهم؟
ولذلك لو إتبعنا القرآن ما وقع ضررٌ قط في لحظةٍ من الزمان على طائفة من المسلمين، لأنه لم يترك شيئاً إلا ما وضحه ووصفه سبحانه وتعالى.
تجعلونه قراطيس يعني أوراق، والتي هي يبدوها ويخفوها، أخفوا كما قلنا حالياً أوصاف حضرة النبي، عندما كانوا يريدون أن يعملوا حاجة تخالف حضرة النبي في التوراة يخفوها، هل اليهود الذين كانوا في المدينة آمنوا بحضرة النبي؟ لا فلم يذهبوا لحضرة النبي ليحل لهم مشكلة بينهم؟
لأنهم يريدون حُكماً بخلاف حُكم التوراة، ويظنوا أنه لا يعلم بحكم التوراة، فامرأة من اليهود زنت، وعندهم في التوراة أن جزاء المرأة المتزوجة إذا زنت الرجم.
تُرجم كما في الإسلام، فكان لهم ميل أن يُبرئوها من هذا، فجاءوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقالوا: هذه المرأة زنت، ونريد أن نُحكمك فيها.
فلم تحكموه هو؟ وانظر إلى الكلام لأغراضهم، لأن عندهم أحبارهم؟
فقال: أحكم فيها بما في التوراة، قالوا: وما في التوراة؟ قال: الرجم، فأنكروا آية الرجم، قال:
إئتوني بالتوراة إن كنتم صادقين، وأخرج آية الرجم من التوراة ليعرفهم أنهم لا يريدون بأي عملٍ يعملونه وجه الله، وإنما يحكمون أهواءهم وظلمات نفوسهم.
فكانوا ماشيين في التوراة بهذه الكيفية.
والحمد لله أن الله عز وجل تولَّى بذاته الشريفة حفظ كتاب الله، الذي أنزله على حبيب الله ومصطفاه:
فالقرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والحروف الأبجدية العربية لم يكن فيها نَقْطٌ، ليس فيها نقط يعني الباء كالتاء كالثاء، فلا يوجد نقط تفرق بين هذه وتلك، والجيم كالحاء، والتائ كالثاء كلها مثل بعضها في شكل واحد، وكانوا يكتبون القرآن عند نزوله على ما وُجد، أحياناً يكتبون على فرع من النخيل، وأحياناً يكتبون على قطعة من الحجر، وكان مسجلاً على ذلك، فلم يكن هناك ورق، ولم يحدث أن تغيرت كلمةً من الكلمات مع اختلاف العصور واختلاف الروح، وهذا حفظ الله الغريب.
الأمر الأعجب: أن القرآن كان يُنسخ بخط اليد، فلا يُوجد أحدٌ يطبع كتاباً إلا ويوجد فيه أخطاء، ولا يوجد مصحف يُكتب بخط اليد وتجد فيه أخطاء، لا كله سواسية مثل بعضه طبق الأصل.
وإذا وُجد من القوم المفسدين، تجد فوراً رب العالمين لهم بالمرصاد، الشيخ محمود خليل الحُصري رحمة الله عليه، كان من أئمة القرَّاء الخاشعين لكتاب الله، كان في شيكاغوا في أمريكا، لأنه سافر إلى بلاد كثيرة، وعمل كتاباً سماه “رحلاتي في الإسلام” لمن أراد أن يقرأه.
أثناء القراءة أسلم على يديه مائة، لا يعرفون العربية، ولا يفهمون كلمات الله، لكن لا تعرف كيف جذبهم كتاب الله وأسلموا على يديه.
بعد أن إنتهى الحفل قدموا له مصحفاً هدية ـ وهذا حفظ الله ـ ففتح المصحف فوجد فيه ثلاث أخطاء بعيدة بالكلية عن الآيات القرآنية، حذفوا منها فقط حرف “لا” حتى لا يظهر، وحذفوا من آية أيضاً كلمة غير:
فالكتاب الوحيد في الوجود المحفوظ من التحريف والتبديل والأخطاء، هو كتاب الله سبحانه وتعالى.
الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه ألَّف كتاباً أسماه ” الأُم ” في فقه الشافعي، وراجعه ثمانين مرة، وانظر كيف صبر العلماء، وكلما يراجع يجد أخطاء، وبعد المرة الثمانين، نظر إلى تلاميذه وقال لهم:
[أبى الله أن يجعل كتاباً خالياً من الخطأ إلا كتابه].
فلا فائدة ـ فهذا الكتاب الوحيد؟ فبماذا نعلله وبماذا نفسره؟
فأهل الله الروحانيين يقولون:
[كل من كان ينسخ كتاب رب العالمين، كان يُقيد الله له ملكاً يمسك بيده طوال كتابته].
ولذلك لا يوجد خطأ أبداً، فهو لا يرى الملك، وحتى إذا تكلم مع هذا أو مع هذا، فالملك يمسك بيده حتى لا يُخطئ أبداً، فلا يوجد أبداً خطأ في كتاب الله سبحانه وتعالى.
وهذا غير الجماعة الآخرين كما ترون الإنجيل كان أربعمائة إنجيل، وما في هذا غير ما في هذا، فأحبَّت الكنائس أن توحد الأناجيل فاجتمعوا في بلد في أيطاليا، والاجتماع إستمر ثمانية عشر عاماً، وأخيراً إتفقوا على أربع أناجيل ـ وليس إنجيل واحد ـ وقالوا: هؤلاء الذين تقرهم الكنيسة ونترك الباقين، لماذا؟ حتى يعرفنا ربنا أن:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الاسْلامُ﴾ (19آل عمران).
فربنا قال له قل لهم:
﴿ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ـ أي الكتاب الأصلي الذي أتى به موسى كان نوراً، وكان فيه هداية للناس، لكنكم حرفتوه وغيرتوه وبدلتوه.
﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ـ أي أوراق مبعثرة ـ تُبْدُونَهَا ـ عندما تريدون ـ وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ـ أيضاً عندما لا تريدون ذلك ـ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ـ من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأن الله علمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما.
﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ـ من رسول الله ـ أَنْتُمْ وَلا آَبَاؤُكُمْ ﴾ (91الأنعام).
ثم قال له: لا تسأل عنهم نهائياً لأنهم ليس فيهم فائدة:
﴿ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (91الأنعام).
أنت عليك أن تذكر الله بإسم الله، وتعتمد على الله، وهم يخوضوا يعلبوا الله كفيل بالرد عليهم سبحانه وتعالى، لأن الله يقول في القرآن:
يدافع عن الذين آمنوا إذا هاجمهم أو أراد التشنيع عليهم أو تشويه صورتهم أحدٌ من خلق الله، يتولى الله الرد على يد خلق الله، يُهيئ لهم بالأسباب من يدافع عنهم.
ولذلك الناس السالكين في طريق الله لا يتغيرون ولا يتبدلون، لأنه لو سمع أن فلاناً يهاجمه، أو أن فلاناً يشنِّع عليه، فهذا الكلام لِمَ يشغلك؟
فلو ردِّيت عن نفسك فلن تستطيع أن تسد في ذلك، ولكن دع الله يرد عنك ويدافع عنك، كما حدث مع سيدنا أبي بكر وكان مع سيدنا رسول الله ولم يكن وحده، وأخذ أحد المنافقين يسبه، يسب سيدنا أبا بكر وسيدنا أبو بكر ساكتاً، فلما أكثر الرجل فأراد سيدنا أبو بكر أن يرد عليه، فقام النبي صلى الله عليه وسلَّم من المجلس ليعلمنا كلنا في شخص أبي بكر، فقال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال؟ قال:
(نعم كانت الملائكة ترد عنك، فلما هممت أن ترد عن نفسك ذهبت الملائكة وجاءت الشياطين، ولا أجلس في مجلسٍ فيه شيطان).
فنحن كلنا نعاهد الله أن لا ندافع عن أنفسنا أبداً، إلا إذا كان شيئٌ مكتوب وفيه قضية أو ماشابه ذلك، فلا يفِلُّ الحديد إلا الحديد، لكنني أتكلم بالنسبة للكلام:
[ألسنة الأنام لن تسكت عن الكلام، فتشغل بالك بهم فتلتفت عن الملك العلام].
وهو لا يريد ذلك، إشغل بالك بالله وقل: الله، وفي نفس الوقت نستشف من الآية أن الذكر الذي أُمر به رسول الله هو لفظ الجلالة الله، قل الله ولم يقُل الحي ولا القيوم ولا اللطيف ولكن قال: الله، ونحن أيضاً نفس الحكاية، ما الذكر الذي أمرنا به أهل الإيمان؟
وكثيراً هنا ليس لها حدٌ ولا عدٌ، فلفظ الذكر يبدأ بالله، تقول الله: الله ماشي، أو تقول: يا ألله، أتيت لها بحرف نداء أيضاً ماشي، لأنك تناجي الله سبحانه وتعالى، وهي اللفظة الوحيدة لأنك لو حتى حذفت حرفاً منها تجد الباقي يدل على حضرة الله، فلو رفعت الألف، فتكون لله:
فأي حرف فيها يدل على من؟ على حضرة الله تبارك وتعالى.
فهو الإسم الأكمل للحضرة الربانية الذي أمر أن يذكر بأن يذكر به خير البرية، وصادقين النية النهاجين على عهده، والمحافظين على إقتفاء أثره صلوات ربي وتسليماته عليه.
﴿ قُلِ الله ـ وبعد ذلك؟ ـ ثُمَّ ذَرْهُمْ ـ أتركهم ـ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (91الأنعام).
فلان يخوض فيك، يخوض، فلان ماذا يقول عليك؟ لا تقُل لي شيئاً، فكلنا ومن مشى في طريق الله تعرض لهذه البلاءات التي لا تعد ولا تحد.
يأتوني ويقولون لي: فلان يقول فيك، أقول لهم: لا تقولوا لي شيئاً، ولا تعكر صفوي أريد أن أظل في صفاء مع حضرة الله، فأي كلمة أسمعها فلابد أن تُغير خاطري، فلم أُغير خاطري بين فلان وعلان، أنا أريد:
فليت الذي بيني وبينك عـــــــامرٌ وبيني وبين العــــــــــالمين خراب
إذا صحَّ منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب تراب
فماذا يصنعون بالكلام الذي يقولونه، لن يبلغوا ضُري فيضروني، ولا يستطيعوا نفع أنفسهم، فكيف ينفعون غيرهم، لكن الضار النافع هو الله، فالإنسان يظل مع الضار النافع، ويترك ما سواه، وأظن أننا لو نفذنا هذه القاعدة الذهبية فنكون كلنا مع بعضنا قلبٌ سليم، وحالٍ مستقيم، ونهجٌ قويم على نهج الرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم على الدوام.
مالذي يُعكر الصفو؟ أن فلان قال عنك كذا، وفلان كان جالساً في مجلس كذا ووصفك بكذا، فمالي وما لهذه الموضواعات، نحن مع الله:
﴿ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (91الأنعام).
والخوض هو الكلام في حق الآخرين في خوضهم يلعبون، ووصف ربنا بأن الخوض لعبٌ، لأنه لن يُؤثر لا بكثير ولا بقليل، ولا أحدٌ أبداً في الأولين ولا في الآخرين قيل فيه كما قيل في سيد الأولين والآخرين.
مرة يقولون ساحر ومرة يقولون مجنون، ومرة يقولون به مسٌّ، وهو لم يكن يدافع عن نفسه، من الذي يدافع عنه؟ الله سبحانه وتعالى، يقولون: كاهن، فيقول:
وهذا الأدب القرآني الذي علمه ربنا للنبي، ومن يُرد أن يكون وارثاً من ورثة حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم.
ثم بدأ الله عز وجل يحدثنا عن خير كتاب أنزله للمسلمين وغير المسلمين:
﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ (92الأنعام).
هل هناك شكٌّ بعد ذلك بأن هذا الكتاب من عند الله، ومن الذي أنزله؟ الله فلم يقُل نزلناه، بل قال: أنزلناه، وكلما زادت الأحرف في النص يدل على زيادة المعنى.
وهذا الكتاب ما وصفه يا رب؟
مُبَارَكٌ ـ يعني كتاب مبارك كله، ألفاظه مباركة، ومعانيه مباركة، وما فيه من أحرفٍ مباركة، وما فيه من معاني مباركة، كله بركة ولكن لا نفعل كما يفعل المسلمون الآن، يُعلق المصحف في السيارة، لماذا؟ بركة، لا البركة ليست كذلك، يضع المصحف على ترابيزة السفرة، لماذا؟ بركة، أو يضعه على الترابيزة في حجرة الصالون، لماذا؟ بركة.
بركته في تلاوته والعمل به لتكتسبوا النور الذي جعله الله سبحانه وتعالى فيه.
بركة الألفاظ: فيها كل العلوم التشريعية، وبركة المعاني: فيها كل العلوم القلبية.
فمن يقف عند الألفاظ يأخذ العلوم الشرعية وبركتها.
فمن ينتقل شوية إلى المعاني التي فيها يأخذ العلوم الباطنية القلبية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لكل آية في كتاب الله ظاهرٌ وباطنٌ وحدٌّ ومطلع).
[الإمام الطبري عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه].
كل آية فيها هذا، وقال بعض العارفين رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين:
[إن الله سبحانه وتعالى يقذف في قلوب العارفين سبعين ألف علمٍ من كتاب الله تبارك وتعالى].
فما يكون حدودها؟
الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه من الصحابة المباركين، من منهم دخل جامعة؟ أو دخل مدرسة؟ أو كان عنده مكتبة؟ أو كان عنده سديهات أو شرائط؟ هل كان عند أحدهم هذا؟ فمن أين أتتهم هذه العلوم؟
هنا ما نفدت كلمات الله فإن الكلمات موجودة هنا، ستة آلاف وشوية كلمة، لكن ما نفت معاني كلمات الله سبحانه وتعالى.
فكان الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه على سبيل المثال يقول:
[لو فسرتُ فاتحة الكتاب بما أعرف ـ وأنتم تكتبون خلفي ـ لوقرتم ـ يعني حمَّلتم ـ سبعين بعيراً].
يُحمِّلوا سبعين جملاً كتب وكلها في تفسير فاتحة الكتاب، والقرآن لا يُكرر، فلو أحدكم كلَّف خاطره ورجع للإمام القشيري رضي الله عنه وأرضاه، له تفسير إشاري ـ إشارات فقط في القرآن وسماه “لطائف الإشارات” فأول كل سورة فيها بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم ليس معناها واحد في كل السور، ففي أول كل سورة أتى لها بمعنى.
فباسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة لها معنى، غير التي في البقرة غير التي في آل عمران، وهكذا، لماذا؟ لأن معاني كلام الله لا عد لها ولا حدود لها من باب:
﴿ وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ (282البقرة).
كل ما في الكتب السابقة من الذي يصدق عليها، القرآن وماذا يعني هذا؟
ما ذكروه في كتبهم مما وافق عليه القرآن تعرف أن هذا الكلام حقيقي ونازل من عند الرحمن، ما لم يوافق القرآن فيكون مُحرف ومُبدل ومُغير، وليس من أصل هذه الكتب المقدسة التي أنزلها الله على موسى وعيسى وداود وغيرهم، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
ما الواجب علينا نحو هذا الكتاب بعد استجلاب بركاته؟
وبركة القرآن أعظم من بركة جميع الأكوان، حتى تعرفون ذلك.
يمكن أذكر من حوالي خمسة عشر سنة في إيطاليا عملوا تجارب على بعض النباتات، وأتوا بتسجيلات للشيخ عبد الباسط عبد الصمد وسجلوها وشغلوها على هذه النباتات، فلاحظوا عجباً في محصول هذه النباتات، لأنها سمعت تسجيلاً لعبد الباسط وهو يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى.
بركة القرآن أكبر من بركة جميع الأكوان في كل شيئ، ولكن تحتاج للتقوى التي يحبها الرحمن سبحانه وتعالى.
وأم القرى وهي مكة، وسُميت أم القرى لأنها أم لجميع بلدان الجزيرة العربية، فكلهم كانوا يحجون في مكة ويتاجرون في مكة، وكل أحوالهم متجهة إلى مكة.
ومن العجيب الذي عمله قسم الفلك في جامعة القاهرة من حوالي عشرين سنة، وجدوا علمياً أن مكة هي مركز الكون قديماً وحديثاً، يعني لما كانت القارات الموجودة أفريقيا وآسيا وأوروبا واستراليا فقط كانت مكة هي مركز الأرض.
لما ظهرت الأمريكتين وأوراسيا وغيرهم أيضاً ظلت كما هي في العصر الحديث هي مركز الأرض، هي النقطة المركزية التي تدور حولها كل بقاع الأرض.
ولذلك إختارها الله سبحانه وتعالى لتكون قبلة للمسلمين أجمعين في كافة مشارق ومغاربها.