كما بينا باقتضاب شديد في خطبة الجمعة للمسلمين أجمعين، والمسلمين هذا أمر يصعب علينا أن نجمعهم على أمر، لكن أنا أخصُّ بكلامي السالكين والمريدين.
أول ما ينبغي أن يتحلى به المريد والسالك في طريق الله هي الحكمة، يمكن أن قلت كثيراً أننا محتاجين كلنا دورة في الحكمة.
فنحن في كثير من الأحيان نتصرف تصرفات العوام في التعامل مع البعض، بنفس الألفاظ التي يرددها العوام، مع أننا يجب ألا ننطق لفظاً إلا: أولاً أعرضه على الفكر، وأنظر سلاسته وأوجهه بطريقة حكيمة لغيري، وأنتم كلكم فاكرين وأعيد للذكرى:
سيدنا الحسن والحسين اللذان تربيا في بيت الحكمة، وكان حتى أطفال المسلمين حكماء، لأن الآباء والأمهات كانوا حكماء.
رأيا رجلاً يتوضأ ولا يعرف كيف يتوضأ، فلو قالا له: أنت رجل جاهل وتعالى حتى نعلمك كيف تتوضأ، فسيقول لهما: مالكما وشأني؟ وهذا ما يحث الآن، فماذا يفعلان؟
قالا يا عماه:
أنا أتوضأ أحسن من أخي، وأخي يقول: أنا أتوضأ أحسن منك، فنحن سنتوضأ أمامك وأنت تحكم من الأحسن فينا في الوضوء.
وهذا توضأ، وهذا توضأ فأدرك الرجل خطأه، فقال لهما: لا أنتما الإثنين وضوءُكما صحيح وأنا الذي أخطأت.
هل أولادنا يعالجوا الأمور بمثل هذه الطريقة؟ لا لماذا؟ لأننا لا نعالج الأمور مع بعضنا كأبٍّ وأمٍّ بهذه الطريقة.
فالرجل لكي يُظهر أنه رجل لابد أمام الأولارد يرفع صوته ويمد يده ويسمع الجيران حتى يُظهر أنه رجلٌ شهم، ونفسه تقول له ذلك على حسب هوى نفسه، وليس على حسب مفهوم دينه، فلو أن أولاده رأوا الحكمة من الأبوين في التعامل يخرج هذا الجيل نفسه جيل حكماء.
فنحن شهدنا الصالحين السابقين وأحبابهم كانوا ماشيين على نهجهم كلهم حكماء، المريريدين العصريين يريد أن يكون مريداً، ويكون مع النبي السعيد في المعية، ولكن له شرط أن يمشي على هواه، فلا أحد يقول له: إعمل هذه ولا أترك هذه ولا هذه غلط ولا هذه خطأ، يمشي على هواه وبعدها يُأول لأنه سهل التأويل:
وهل يوجد من يُعطي إمرأته قنطار ذهب؟ لكن ربنا صرَّح، ففي الحال وقف ولم يخشي في الحق لومة لائم وهو واقف على المنبر وقال:
[أخطأ عمر وأصابت إمرأة] ـ حتى لا يأخذ الناس منه الخطأ على أنه كلام مثسلَّم ويمشون عليه، على الفور.
وكان يقول: [رحم الله أمرءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي] ـ أنا أدعي بالرحمن لمن يقول لي أنت عيبك كذا أو كذا أو كذا حتى أُصلحه، ويبغي به الإصلاح وليس للإنتقاد أو للإعتراض، لا بل يبغي الإصلاح، فكانوا كلهم على هذ الكيفية لأنهم تعلموا من الحضرة النبوية.
لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا كيف نعالج السهو في الصلاة؟
سها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في الصلاة، فأحد الحاضرين ـ ليس من المشهورين ـ قال له: يا رسول الله هل زادت الصلاة؟ أم نسيت؟ قال: ما زادت الصلاة ثم إلتفت إلى الذين خلفه ـ لأنه لم يكن في الصف الذي خلفه مباشرةً.
لأنه علمنا أن الصف الذي خلف الإمام مباشرةً يكونوا للعلماء الحفاظ، حتى لو سها الإمام في الإمامة يفتحوا عليه، لأنه يحتاج لكلمة واحدة فقط فيفتح عليه وهو يكمل، فإذا فتحوا عليه مرة والثانية ولم يُكمل يتركوه حتى لا يرتبك، فلابد أن يكون عندهم حكمة، كيف يفتحه؟ يعني يقرأ الآية، فإذا لم يتداركها يتركوه حتى لا يرتبك الرجل في الصلاة.
ويكونوا علماء حتى لو حدث له حدثٌ في الصلاة يخرج من الصلاة ويشد آخر ممن في الصلاة ليكمل الصلاة بالناس، فمن يشده للصلاة يجب أن يكون عالماً، على الأقل عالم بأحكام الصلاة، فهذا المفروض أن يكون في الصف الأول.
وهذا الكلام لم يعد مطبقاً في القرى والمدن الآن، أصبح بالباع والذراع من يقف في الصف الأول، وتحاول سحبه منه وتقول له: هنا مكان الشيخ فلان، فليس له شأنٌ بهذه المواضيع، لماذا؟ لأنه لا يعرف جيل جاهل ولا أحد علمه.
فالتفت صلى الله عليه وسلَّم إلى من خلفه معنفاً: لم لم تنبهوني؟ يعني لا يسلم من التنبيه كبير أو صغير، حتى أن النبي ذاته طلب منا أن ننبهه في مثل هذه الأمور، وهذا هو الحفاظ عل دين الله تبارك وتعالى.
فأنا أريد باختصار حتى لا أطيل عليكم أتعلم الحكمة، وتعلُم الحكمة ليس له إلا سبيل وحيد ومنهجٌ واحدٌ رشيد، أنني كما قلت أقتدي برسول الله قبل أي عملٍ أنوي فعله.
حتى إّذا أردتُ أن آكل، ففي كل مرة آكل أستحضر في نفسي كيف كان يأكل رسول الله حتى أفعل مثله.
فإذا نسيت، فتوجد صورٌ في الأكوان يوجدها الله سبحانه وتعالى ويجملها بجمال النبي العدنان، حتى أنها موجودة معنا عيان بيان، حتى تكون لله الحجة البالغة، هذا الرجل أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
أريد أن اشرب أيضاً نفس الحكاية، أريد أن أتكلم يكون نفس الوضع، هل أحدٌ منكم سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما كان يتكلم هل كان يُزعِّق ويشخط وينطر؟ أبداً حتى في الخطبة لا يكون ذلك.
في الخطبة كانوا يقولون كان في صوته صَهَل، وصهل يعني بحَّة ولكنها بحة جميلة، فعندنا بعض القراء وبعض المغنيين يكون عندهم بحَّة في الصوت تجمله أكثر، فكان صلى الله عليه وسلَّم عنده هذه البحة، وصوته لم يكن عاياً مع أنه كان يُسمع الآفاق، يخطب في منى والناس كان معظمهم على الجبال المحيطة بمنى، فسيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه كان يقول:
[خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ونحن في منى، فأسمعنا جميعاً حتى أسمع أصحاب الخيام وهم في خيامهم على أعلى الجبل].
من الذي يوصل الصوت؟ الهواء، والهواء يوصل بأمر من يقول للشيئ كن فيكون، يأخذ صوت من هذا ويوصله هنا وهناك، لكن سيدنا رسول الله كان لا يعلو صوته أبداً.
فلو حدث بيني وبين أحد موضوع وأريد أن أرفع صوتي، أتذكر هل رفع رسول الله صوته؟ فلا أرفع صوتي، أو أدخل في الإثارة وأريد أن أتحدث بكلام يُؤلم، فهل كان رسول الله يتكلم بكلام يُؤلم؟ هل سبَّ أحداً أو شتم أحداً أو إستثار أحداً يكلام يثيره؟ لم يحدث أبداً كان هيناً ليناً في كل كلماته، إن كان في بيته أو في المسجد أو خارج المسجد أو حتى في ميدان الحرب الذي هو أدعى لرفع الصوت.
وكان عندما يحب أن يدعو الجيش أو الجماعة الذين معه وهم جماعة كثير، كان يختار أحداً من أصحابه جهوري الصوت، فهو يقول والرجل يكرر بصوته ألفاظ حضرة الرسول، حتى لا يرفع صوته، حتى يعرفنا أن الأحسن والأجمل والأكرم الصوت الهادي:
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (83البقرة).
إختاروا الصوت الحسن الذي تخاطبون به الناس وفقط، والكلام والألفاظ الحسنة المفروض أن تقولوها للناس.
والكلمات الأخرى؟ ليست في قاموسنا يا إخوانا، فقاموس ألفاظ المسلمين هل فيه ألفاظ السب والشتم والهجر التي نسمعها؟ لا:
(ليس المسلم بسباب ولا لعان ولا فاحش ولا بذيئ).
[البخاري عن أنس رضي الله عنه].
ليس عنده هذا الكلام نهائياً لأنها غير موجودة في القاموس، فلم أدخلها في قاموسنا وأبثها في قاموس الإسلام؟
لأنها أشياء ليست من الإسلام.
فنحن كلنا رمز للإسلام، وكل واحد منا حريص مهما إستُفذ أن لا يخرج منه إلا قول الحق والصدق، ولا يخرج من هدوئه قط، إلا في حالة واحدة وسيدنا رسول الله صرَّح بها تقول فيها السيدة عائشة:
[كان لا يغضب لنفسه قط، ولا يغضب إلا إذا إنتُهكت حرمات الله تبارك وتعالى].
فإذا إنتهكت حرمات الله فهي كبيرة من الكبائر، فهل ينفع أن أسكت عنها حالياً؟ أكون شريكاً في الجريمة.
فكان لا يغضب لنفسه قط صلوات ربي وتسليماته عليه.
أتعامل مع الجيران، وأظن أننا قلنا مثلاً صغيراً مما حدث مع النبي العدنان، وهذا حجة علينا جماعة المسلمين، فهل يوجد أحدٌ من المسلمين يعمل مثلما فعل مع اليهودي؟ مهما يبلغ إيذاؤه، فهل يبلغ الإيذاء مع حضرة النبي؟ لا، وماذا أفعل؟ تحمَّل كما قالوا في الحكمة:
[الجار ولو جار] ـ وجار يعني ماذا؟ ظلم ـ يعني الجار ولو جار عليك وظلمك فعليك بالصبر، فيحل كل المشاكل ولكن بالراحة وسيأتيك حقك بعد شهر بعد سنة بعد أكثر، فسيأتيك حقك في يوم من الأيام وسيعترف بخطأه، ما دم أنت لم تتنرفز ولم تخرج عن الشعور، ولم تقُل ألفاظاً فيها هجر ولا فحش ولا غيره.
لكننا لا نصبر ومتعجلين الأمور دائماً، كيف أترك حقي؟ وماذا يقول عني؟ هنا النفس، حضرة النبي يقول:
(ما زاد الله عبداً بعفوٍ، إلا عِزَّا).
[الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ونحن نقول: لا فأنا إن لم آخذ حقي سيقولون عني أنني رجلٌ ضعيف ورجلٌ كذا، لا فما هو الكلام الأصدق؟ هل كلامنا هذا؟ أم كلام حضرة النبي؟ لا أعرف.
معشر السيدات ـ ولا أقصدكم أنتم ولكنني أتكلم كلاماً عاماً لكل السيدات فجائز لا يحدث هذا ـ تحضر معنا وبيننا واحدة كبيرة قليلاً في السن ولم تتزوج، فكل واحدة تقول لها كلمة: لماذا لم تتزوجي إلى الآن؟ والأخرى تقول لها: ألا تستطيعي أن تبحثي لكي عن زوج وتتزوجيه؟ فصحابتنا يزيد القلق النفسي الذي عندها، وتقول: هذا المكان لن أذهب إليه نهائياً لما أسمعه من هؤلاء الناس.
فهل هذه ألفاظ؟ وماذا نقول لها؟
نقول: ربنا يفتح عليكي يا بنيتي بابن الحلال، ربنا يا بنيتي يرزقك برجلٍ صالح يعفُّك، هذا ما نقوله، يمكن يا بنيتي ربنا أخَّر لك هذا حتى يرزقك بالأحسن والأفضل، فالمفروض نصبرها ولا ننفرها.
هذا الكلام المفروض في مثل هذه الأمور.
ونحتاج كلنا أن نتعلم الحكمة في الألفاظ التي تخرج من الكلام بهدي سيد الأنام صلى الله عليه وسلَّم.
وهذا الباب الذي لابد منه قبل الدخول في الرحاب.
لابد للمريد أن يتجمل أولاً بالحكمة العالية، وأول الحكمة وما الدليل على أنه تحلَّى بالحكمة؟ حفظ الأسرار الغالية، فنحن كلنا عندما يحدث لأحدنا مشكلة لا يستريح حتى يبوح بها، فيُزيل الهم عنه ويستريح، فإلى من أحمل همي؟ إلى أخٍ أعتقد أنه من الصالحين.
فأجد بعد يوم أو أكثر من يوم نشرة موجودة بين الأحباب أجمعين بأنني عملت كذا وكذا وقلت لفلان كذا، فهل أنا حالياً بُحت لشيطان ليفضحني بين الناس؟ أم بُحت لأخٍ لي في الله يكتم سري ولا يفشيه لعباد الله؟
إذا كان حضرة النبي يقول:
(إذا حدثك أخاك بحديث ثم إلتفت) ـ يعني وهو يكلمك سمع صوت قادم فالتفت ونظر وسكت ينظر هل سيأتي أحدٌ أم لا، فتعرف أن هذا أمانة، فلا يصح أن تقولها لأحد، لماذا؟
لأن أي مجتمع في أي زمان ومكان لا يخلو من المنافقين، والمنافقين وظيفتهم إيقاع الفتنة والفرقة والانقسام بين صفوف المؤمنين، فلن ينقل الكلمة كما هي، ولكن لابد أن يعمل لها إخراج، فلابد أن يضيف جزئية من هنا وجزئية من هنا ليثير النفوس، ولكي يصنع فُرقة بين القلوب، من الذي سمح له بذلك؟ نحن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
(المجالس بالأمانات).
[الألباني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه].
نفرض أنني سمعت من أحد الأحباب كلمة وأريد أن أفهم معناها ولم أفهم جيداً، فأرجع لصاحب الشأن ولا أذهب لواحد آخر، وأقول له: أن فلان قال كذا، فما معنى ذلك؟ ففلان هذا سيفسرها على هواه هو وليس على هوى الأول الذي حكاها لي، فيفسرها بهواه هو.
فأرجع لفلان الأول وأقول له: والله يا فلان أنت الكلمة التي قلتها لي يوم كذا أريد أن أفهم معناها واستوضح معناها؟
فسيفسرها لي كما يريد هو أن يقولها لي ويوصلها لي، ولن أسمعها بهوى واحد آخر، يريد أن يفصل بيني وبين أخي أو يزيد النزاع بيني ويبن أخي، لا فهذا لا يجوز في طريق الله تبارك وتعالى، ولذلك كان السلف الصالح يقولون:
[نحن قومٌ نجلس مع الله، فإذا قمنا من المجلس، فكأننا لم نجلس].
حفظاً للسر، فأنت حضرت مؤتمراً عاماً كالذي عملناه بالأمس واليوم، ويأتي واحد أو إثنين أو أكثر ويسألكم: ماذا قلتم؟ وماذا سمعتم؟
فأقول له ما يحتمله ولا يستطيع أن يتلاعب به، ويعمل لي مشكلة بين الناس، فلا أحكي له كل التفصيلات، لأن التفصيلات لم أكن حاضراً فيها، فيأخذها على حسب هواه، إذا كان حاقداً أو حاسداً أو منافقاً سيلعب، فإن حكيت له أحكي بحيث لا أعطيه فرصة يستطيع أن يتلاعب فيما سمعه مني، لأنه سيقول: فلان الذي قال لي هذا، وينشر ما يريد وينسبه في النهاية لي أنا، ويقول: فلان الذي قال لي كذا.
كتمان الأسرار هذا أول مؤشر على أن الإنسان دخل دائرة الأخيار الأطهار، وأصبح حكيماً عند النبي المختار صلى الله عليه وسلَّم.
حتى الأولاد الصغار كانوا يعلمونهم هذه الحكمة، وابحث في صحائف أصحاب حضرة النبي تجد العجب.
سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وأمه السيدة أم سليم وكانت من الصالحات، وكانت لا تُنجب، ونذرت إن رزقها الله بولد أن تهبه لخدمة البيت الحرام، فرزقها الله بأنس، وهي طبعاً لن ترسله للبيت الحرام إلا بعد أن يكبر حتى يعتمد على نفسه، سيدنا رسول هاجر للمدينة وأنس كان عنده عشر سنوات.
فأمه جاءته وقالت: يا رسول الله إني كنت قد نذرتُ إن رزقني الله بولد نذرته لخدمة الكعبة، فرزقني الله بأنس وأنا أهبه لخدمتك، وفي البداية قالت له: إدعُ له ـ وهذه الحكمة، فقال: (اللهم كَثِّر ماله وولده وأطل عمره).
[حديث صحيح عن أنس رضي الله عنه].
فكثر ماله حتى كانت حدائقه في البصرة تنتج في العام مرتين، بدون هندسة وراثية ولا شئ آخر، ولم يمت إلا وأخرج الله من صُلبه وأولاده وأحفاده أكثر من مائة رجل، وعاش حتى تجاوز المائة، فقد أستجاب الله دعوة رسول الله فهي مُجابة فوراً.
وذهب أنس وهو عنده عشر سنين، فلا يزال تفكيره في اللعب، لكنه في بيت الحكمة:
والحكمة هنا في أصَّح الأقوال في أحاديث حضرة النبي، لأن كلها حكم ربانية عالية.
فبعثه سيدنا النبي في طلب فوجد بعض الأطفال يلعبون فجلس معهم، فجاءتهم أمه بالصدفة كانت تمر، فسألته: ماذا تصنع هنا يا أنس؟ فقال لها: حضرة النبي أرسلني في طلب له، قالت: فأين أرسلك؟ فقال لها: لا أبيح سر حضرة النبي، فاحتضنته وقالت له: هكذا فكن.
فلم تلومه وتقول له: كيف؟ ولم؟ ومن أجل من؟
الزوجة زوجها يذهب ليزور أحد أقاربه، فتُرفق معه أحد الأولاد، حتى تعرف ما يحدث هناك، فعندما يعود تقول: تعالى يا ولد أو تعالي يا بنت ماذا أكلوكم؟ وماذا سقوكم؟ وماذا فعلوا معكم؟ فإن لم يقُل، فتقول له: لست إبني ولا أعرفك، ويمكن أن ترضبه وتؤذيه.
فأين نحن؟ وأين التربية المحمدية؟
فلم تغضب منه ولم تقُل له: كيف تخفي هذا على أمك؟ لا ولكن قالت له: كن كما أنت هكذا تحافظ على أسرار حضرة النبي، لماذا؟
الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه يقول للسالكين في مذكرة المرشدين والمسترشدين:
[قد يبوح لك لمرشد ببعض أسراره الخاصة ليختبرك، فإن بُحت بها، كنت لست أهلاً لتحمل الأسرار العلية].
لا تصلح لهذه السكة، تحضر معنا خمسين سنة مائة سنة أو أكثر، تجلس وتأكل وتشرب وتقوم وخلاص، لكن العطايا القلبية محروم منها تحريماً أبدياً لأنك لست حافظاً للأسرار.
وإن حفظتها ولم تُبح بها كنت أهلاً لحفظ الأسرار العلية، ولذلك الصالحين في الدرجات العُلى إسمهم الأمناء، لأنه أمي على ما يراه ويطلع عليه من حضرة الله، وأمينٌ على ما يسمعه في رؤيته لحبيب الله ومصطفاه.
فبعض المتطفلين يسألونا: كم مرة رأيت حضرة النبي؟ وكيف رأيته؟
فما شأنك أنت وشأن هذا الموضوع؟ إنها أسرار يا أخي، وهل الإنسان يحكي أسراره لكل الناس؟ فإذا حكى ذات مرة شيئاً فيكون بإذنٍ من صاحب الإذن، حتى مصلحة في هذا الأمر وليس لنفسه.
ولكنه ماذا رأى؟ وما لقاءاته مع حضرة النبي؟ فهل يحكي كل هذه الأمور؟
سيدنا موسى عندما أراه ربنا ما أراه من آيات الله في الملأ الأعلى، قال له: لن أستطيع أن أنطق بهذه الأمور:
﴿ وَيَضِيقُ صَدْرِي ـ من كثرة ما نزل فيه من العطاءات الإلهية ـ وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ﴾ (13الشعراء).
لا أستطيع أن أُظهر شيئاً من هذه أبداً.
لأنها أمانات إلهية وقد لا تحتملها عقول البرية،
[ومن أظهر ما لا يُطاق، أوقع غيره في النفاق].
فقال له: لا أقدر على هذا الأمر.
لكن جزئية طلبه أن يوازره بهارون حتى سيدنا هارون لم يتربَّى في بيت فرعون، فعندما كان سيدنا موسى يخاطب فرعون فقال له:
يعني الكلام مع هؤلاء القوم، لأنهم ليس لهم عليه حُجة.
هارون ـ كان فرعون في البداية يقتل كل مواليد بني إسرائيل، فوُلد موسى فوضعته أمه في صندوق وألقت به في البحر، وبعد فترة خفَّف الأحكام، فقال: سنة نقتل الأولاد، وسنة نتركهم، فوُلد هارون في السنة التي ليس فيها قتل الأولاد، فنجا وليس لفرعون عليه جميل، والأنبياء أحسن الناس إحتراماً لمن أدَّى إليهم جميل، وشكراً لمن صنع فيهم جميل.
فقال له: لن أستطيع أن أكلمه مرةً ثانية لأنه رجلٌ يعايرني بالتربية التي تربيتُ فيها عندهم.
والعقدة هنا:
﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ (27طه).
العقدة هنا هي عقدة الحياء، ولم يكن بنبيٍّاً ألدغ كما تقول الروايات المدسوسة في كتب التفسير، يقولون: أن سيدنا موسى ـ نقلاً عن اليهودية ـ لما أراد فرعون أن يقتله، فامرأته قالت له: إنه لا يعرف التمرة من الجمرة، فأتوا له بتمرة وجمرة فأمسك بالجمرة ووضعها على لسانه فأصبح ألدغاً.
كلام كأنه صحيح، ولكنه غير صحيح، لأنه لو أمسك بالجمرة ولسعت يده، فهل يضعها على لسانه؟ ولنتكلم بالمنطق، هل لو أمسكها بيده فهل يستطيع رفعها إلى لسانه مرةً ثانية؟ لا حتى لو وضع الجمرة على لسانه فستلسع الجزء العلوي من لسانه فهل يصبح ألدغاً؟ لا، وهل ينفع أن يكون نبياً ألدغاً؟ فشرط النبي الفصاحة، ولابد وأن يكون فصيحاً.
وهذا أيضاً الشرط الذي نقوله لأحبابنا إذا كنت تريد معرفة الأولياء الورثة، فلان هذا رجلٌ صالح وفيه كذا وكذا وله كرامات فلا يتكلم، فغير مأذون وليس وارث كلي وأمشي خلفه وليس ولياً مرشداً، فجائز أن يكون ولياً لنفسه، لكن الولي المرشد لابد أن يرشد:
﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ـ هل ولياً فقط؟ لا بل قال: وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ (17الكهف).
والولي الآخر فما شأني وشأنه، إذا كان لا يتكلم فهذا دليل على أنه ليس صاحب الشأن في هذا الأمر، فإذا كان أبوه يتكلم فأبيه كان صاحب الشأن، وليس الشرط أن ينتقل من الأب لإبنه في الجسم، إنتقل لأحد أبنائه في الروح، لكن الناس من غفلتهم يتبعون إبن الجسم، وهذا الجسم ويقولون: هو الوارث وهو الذي معه كل شيئ، لا، مواصفات قرآنية وضحها الله سبحانه وتعالى للجميع في آياته القرآنية.
فعندما قال سيدنا موسى: واحلل عقدة من لساني فهي عقدة الحياء، لأنه كان حيّاً وكيف هؤلاء الجماعة بعد أن ربوه، وهم الذين أنشأوه، وهم الذين قاموا له بكل ما ينبغي إلى أن وصل إلى سن الرشد.
لكن هارون لم يتربَّى في هذا المكان، فحادثة الجمرة والتمرة ليس لها أساس يا إخوانا لا في صحيح القرآن، ولا ورد عنها حديث عن النبي العدنان، ولا وردت عن الصادقين من أصحاب النبي الأمين، فماذا هي؟
رواية مدسوسة من الروايت اليهودية، وما أكثر الروايات اليهودية المدسوسة في القرآن، وهذا يحرُم على أي مسلم واعظ أو عالم أو مسلم عادي أن يحكيها لغيره على أنها قصةٌ صحيحة.
لأنه جائز يعتقد فيك، فيقول أن الشيخ فلان قال لي كذا وكذا، فهي قصة ليست صحيحة، وعندنا القصص الحق فيه الكفاية:
فإذاً يا أحبة ينبغي على الإنسان في بدايته أن يتجه إلى الحكمة العلية ليتعلمها، ومن أين يتعلمها؟ أن لا يصنع شيئاً إلا واستحضر حضرة النبي كيف كان يفعله؟ وكيف كان يعالجه؟ فإذا لم يعرف يسأل:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (43النحل).
أذكر مثلاً واحداً:
الناس الذين يخصون بعض أبناءهم في الميراث بدون حق، فيوزع التركة فلو رجعوا كلهم للعلماء الأتقياء، فهل يحدث هذا الموضوع في بلدنا كلها ـ في مصر كلها؟ لن يحدث، لكن عندما يصنع من نفسه ويقول: هذا مالي وأنا حر فيه، فإذا كان مالك وأنت حرٌ فيه، فلِمَ ربنا يحاسبك عليه؟ فسيحسبك عليه مرتين: من أين جئت به؟ وفي أي شيئٍ أنفقته؟ فلو كان مالك فلِمَ يحاسبك عليه؟
ولذلك عندما يُنفق بعض الناس في سفهٍ في أي أمرٍ من الأمور، ويقول: هذا مالي وأنا حر فيه، لا أنت لست حراً، فأنت معك بند المصروفات في كتاب الله، وتوضحه المذكرة التفسيرية لسيدنا رسول الله، حتى في الضرورات، أنا أريد أن آكل، قال: لا مانع:
ولكن ما الشرط؟ لا تسرف ولا يكون فيه تبذير، فلا تأكل وتلقيه في الزبالة، هات على قدر ما تأكل.
حضرة النبي زاد ووضحها أكثر، فقال:
(كلوا واشربوا في غير إسرافٍ ولا مخيلة).
[النسائي وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه].
ومخيلة يعني تباهي أو خُيلاء، تعمل وليمة كبيرة تكفي خمسين، والذي يأتيك إثنين حتى تتباهى أمامهم ويقولون: أنت شيخ عرب، وأنك رجلٌ كريم وأنت كذا وكذا، قال: هذا أيضاً لا ينفع، فيكون عندنا البند موجود في كتاب الله، وتفسيره في سنة رسول الله في أي أمرٍ أنا أنفقه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
(لا سرف في الخير).
وماذا يعني ذلك؟ يعني لو مالي كله سرفته في الخير، اللائحة تسمح، لأن أبو بكر أتى بما عنده كله، فقال له: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، هل قال له: خذ نصفهم؟ أو هل إعترض على ذلك؟ فاللائحة موافقة على ذلك لأنه في الخير.
ولو أنفقت جزءاً قليلاً في الشر، فقد أسرفت، لأنه سيُكتب في صحيفة السيئات، ويتحرر لك محضراً فيما أنفقت، لأنه في السيئات، فبعض الأحباب أو بعض الناس وليس الأحباب ـ لأن الأحباب ليس عندهم هذا النظام ـ فلوسه كلها ينفقها على المخدرات والمسكرات ويقول لك: هي فلوسي وأنا حر فيها يا أخي، هل يوجد أحدٌ منا حرٌ يا إخوانا؟
نحن كلنا عبيد لمن؟ لله وعبيد لله يعني ماذا نفعل؟ ما أمرنا به الله في كتاب الله، وما وضحه لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لكن أنت تعمل نفسك حر، لا أنت لست حراً، فالمال الذي معك ربنا قال فيه:
فهذا مال الله وتركوا معك فترة، لو أنه مالك كان قال لك: يا فلان قبل أن تموت وزعه كما تحب، لكن هل ينفع أن تزوعه كما تريد؟ وماذا أفعل؟ أتركه وأقول لهم يا أولاد وزعوه كما قال شرع الله لأنه ليس ملكي، ولكنه ملكٌ لله سبحانه وتعالى.
إذا كنت أنا أمين على مال نفرٍ أو جماعة من المسلمين، فالأمانة هنا أكبر، لا ينفع أن أتصرف في مال المسلمين هذا الذي تحت يدي كما أريد، لا كما يريد هو، لكن أنفقه كما أريد وأقول أنني أعمل لله وهذا مال الله وأنا أتألف به قلوب عباد الله، لا فإنك لم تصل لهذه المرحلة، لأنت تنفق كما بين الله في كتاب الله، وكما بين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ووضح ما خفي علينا من البيان في كتاب الله تبارك وتعالى.
ومن المعضلات العُظمى في هذا الزمان، ـ وليست لنا نحن ـ في المجتمع أن معظم القائمين على الأعمال الخيرية يتصرف كما يريد في هذه الأموال الأهلية، لأنه يستطيع إخفاء جزء كبير عن الأجهزة الرقابية ويتصرف فيه كما يشاء، ونفسه تأول له أنه يفعل ذلك في لخير، ونفسه توهمه أنه عمله لله ـ لا، ولأجل الله يحتاج لبحثٍ قويٍّ متين عتيد في كتاب الله، واستشارة رجل رشيد أقامه الله في كون الله بالنيابة عن حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
ولذلك قالوا: إن بني فلان ألف حكيم، قالوا: وكيف؟ قالوا: إن فيهم ألف رجل، وفيهم حيكمٌ واحد، ولكنهم لا يصدرون شيئاً إلا عن أمره، فهم ألف حكيم.
لكن لو كل واحد تصرَّف على هواه، فقد ضاعت الدنيا، وهذا الذي ضيَّع أحوال مجتمعنا في هذه الأيام يا أحبة، لأن الناس الذين معهم المشاريع الخيرية ينفقونها كما يريدون لمآربهم ولآقاربهم ولأغراضهم الشخصية، فهذه كلها لا يرضى بها رب البرية تبارك وتعالى.
العبد المؤمن لا ينفق ماله إلا إذا علم علم اليقين أنه وُضع في كفة حسناته، وصار له عند الله يربيه له وينميه له.
فحتى الأشياء التي لا نشدد فيهها، يعني الجماعة المتشددين شوية يأخذون بفتوى المفتي الذي كان قبل السابق وإسمه الدكتور { نصر فريد واصل} أصدر فتوى بأن الدخان حرامز
ونحن نقول لم يصل لدرجة الحرام لأنه لا يُسكر، لكن فيه تبذيرٌ وإسراف، يعني سأقول شيئ ليس على سبيل الفخر، ولكن على سبيل توفق الله تبارك وتعالى.
في البداية في بداية حياتي كنت أتنقل في البلاد وكنت عاهدتُ نفسي أنني في شهر رجب أمر على جميع الإخوان في الوجه البحري والمنيا، وفي شهر شعبان مرةً أخرى وفي شهر رمضان مرة أخرى، فالشيخ قال لي:
يا بني هذا السفر وهذه الرحلات تحتاج إلى مصاريف، فقلت له: يا مولانا أنا اعتبرت نفسي أنني أدخن، وقلت هذا الدخان أنفقه لمرضاة الرحمن تبارك وتعالى، أنفقه في السفر لزيارة الإخوان ورؤية الإخوان.
فأنت عندما تحسبها حالياً تشرب السيجارة فتضر الرئتين، وهذه الأيام الضرر أعظم في الرئتين، وهو الوباء المنتشر الآن، إذا نزل الرئتين فليس له علاج، فتحتاج لرئتين قويتين، مالذي يساعد على تقوية المناعة، أنك لا تشرب الدخان، أي واحد يشرب الدخان يكون على الفور عُرضة بسرعة الهلاك والعياذ بالله تبارك وتعالى إذا نزل الوباء إلى الرئتين.
وكذلك الجوزة أضَّر وأشد، لأنها تنتقل عن طريق الفم كل واحد يشرب ويناول الآخر، فهذه مصيبة عُظمى.
فأنا لو حالياً أشرب دخان، وليكن في الشهر بعشرة جنيهات، أو بكم؟ سأل الشيخ: قال الحاضرون: العلبة بخمسة وعشرين جنيهاً، ويشرب الشخص في اليوم على الأقل علبة واحدة، فيكون الحساب سبعمائة وخمسين جنيهاً في الشهر، ماذا أقول لربنا عندما يسألني: أنت أنفقت سبعمائة وخمسين جنيهاً في سبيل الإضرار بصحتك، أنا غير محتاج لهم، أنفقهم في وجه من وجوه الخير في وجه من وجوه البر، سيأخذهم والنبي قال لنا:
(تصدقوا ولو بنصف تمرة).
واعتبرها بثمن نصف سيجارة، قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إن الرجل ليتصدق بالشيئ لا يُلقي له بالاً، فيجده يوم القيامة كجبل أُحد في الأجر والثواب، فيقول: يا رب من أين لي بهذا؟ فيقول: هذه صدقتك التي تصدقت بها في يوم كذا أخذناها لك ونميناها لك فصارت كما ترى).
لا توجد نسبة ربح يا إخوانا في الكون تساوي النسبة التي يعطيها رب الكون:
ولا يزال فيه تضاعُف، إجعل نسبة أرباح سبعمائة في المائة ـ فماذا يكون حجمها؟ وتزيد وأنت عند الله ولاقيت الله والنسبة لا تزال شغالة، وأنت يوم القيامة لك أجرٌ لا يعلم مداه ولا قدره إلا حضرة الله تبارك وتعالى.
فالمؤمن لما يقتدي برسول الله وبكتاب الله ويعلم أنه عبدٌ لله، وما دام ارتضى بالعبودية لله، فلا يتصرف في نفسه، ولا في صحته ولا في بيته ولا في ماله إلا بشيئٍ يرضي ربه، فيمشي على المنهاج القويم والطريق المستقيم، فيكون رجلاً من كمل الصالحين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يُلحقنا بهم أجمعين.
ونكتفي بهذا القدر.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الجمعة: 22/10/2021 موافق 16 ربيع الأول 1443 المقطم ـ بعد صلاة الجمعة ـ بدار مناسبات مجمع الفائزين المقطم الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف