Sermon Details
المرض العاشر: العُجب
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي مَنَّ علينا بفضله بالقبول، وسلك بنا طريق أهل الوصول، والصلاة والسلام على سيدنا محمد باب الله المفتوح لكل عبد موصول، صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه من الفحول، وكل من تبعهم على هذا الهدي إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين، آمين يا رب العالمين.
مرض العُجب يعني أن الإنسان يُعجب بنفسه ويفرح بنفسه ويرى أنه قد وصل إلى حد الكمال، ولا يستمع بعد ذلك إلى نُصح ناصح ولا وعظ واعظ ولا يشارك غيره في الآراء ولا يستزيد حتى في الأعمال في طاعة الله لأنه يظن أنه قد بلغ مناه، فلا حاجة له بعد ذلك إلى الطاعات.
فالعُجب يشبه الكِبْر تماماً كما وضحنا، فإن كان الكِبر هو أن يستعظم الإنسان نفسه ويرى نفسه خيراً من غيره فيستحقر غيره بسبب نعمة كالمال أو العلم أو الجاه أو الحسب أو الجمال، فالعُجب كذلك هو أن يستعظم الإنسان نفسه بنعمة تماماً كالكِبر ولكنه لا يستحقر غيره لأنه يظن في نفسه أنه لم يبلغ شأوه أحد وأنه وصل إلى منتهى الكمالات في هذه الجمالات التي أُعجب بها.
ذم العجب
ولذلك رأينا الله سبحانه وتعالى يذم العُجب في كتاب الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلَّم فتح الله تبارك وتعالى عليه مكة المكرمة، وكان معه عشرة آلاف من الجند، وانضم إليه ألفين من أهل مكة، فأصبح الجيش عدته اثنا عشر ألفاً، وذهب إلى أهل الطائف في موقعة حُنين، قال رجل من أصحاب النبي: (لن نغلب اليوم عن قلة) أُعجب بنفسه وأُعجب بالجيش، وقال: لن نُهزم اليوم لأن عددنا كثير وعتادنا كبير، ومع أن هذا القول لم يُعجب النبي صلى الله عليه وسلَّم، إلا أن الله عز وجل أظهر لهم حقيقة أمرهم في بداية المعركة، وقال الله لهم: ” وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ” (25التوبة).
فإن الأعداء كمنوا في الجبلين المحيطين بوادي حُنين، وعندما صار المسلمون في أرض الوادي فوجئوا بالنبال تنهال عليهم من الجبال كالجراد المنتشر في الصحراء، فولوا مدبرين ولم يتبق مع النبي إلا قليل من الأنصار والمهاجرين، ولكن الله عز وجل تدارك نبيه بالنصر المبين، وإنما أظهر لهم ذلك حتى لا يُعجبوا بأنفسهم فيُصابوا بداء الكِبر أو داء الغرور.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم في حديث يجب أن ننتبه إليه أجمعين:
{ ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ }[1]
يعني المباهاة والفخر، وفي رواية أخرى:
{ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ }[2]
وعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ)[3]
ومعناه أن يرى أن عقله هو الراجح، وأن رأيه على الناس هو الصواب ولا صواب برأي غيره فيتمسك برأيه ويتشبَّث به.
وذكر صلى الله عليه وسلَّم أن من علامات الأمَّة في هذه الأيام في آخر الزمان ذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
{ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ }[4]
وممن أدلى بدلوه في ذلك ابن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: (الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب) والقنوط يعني اليأس، وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تُنال إلا بالسعي والطلب، والقانط أو اليائس لا يسعى ولا يطلب، وكذلك المُعجب بنفسه يظن أنه وصل إلى الغاية والنهاية فلا يسعى ولا يطلب المزيد، لأنه يعتقد أنه قد سعد وظفر بمراده فلا يسعى.
وقال مُفَرقٌ رضي الله عنه: (لأن أبيت نائماً وأُصبح نادماً، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأُصبح معجباً).
بين العُجب والذنوب
وقد قال تعالى للمؤمنين أجمعين في كل زمان ومكان: ” فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ” (32النجم) أي الزم للنفس حدودها، وأنزلها منزلتها، ودائماً وجِّه بصر قلبك إلى عيوبها، ولا تنظر إلى مزايا ومحاسن نفسك لكن انظر إلى العيوب لتصلحها وتعالجها وتتلافاها، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلَّم:
{لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ: الْعُجْبُ }[5]
فجعل العُجب أكبر من الذنوب، لماذا؟
أولاً: لكون العُجب يورث الغرور بالعمل فلا يوفق للتوبة بخلاف غيره من المعاصي، لأنه يرى أنه لم يُخطئ ولم يُقصِّر ولم يُذنب.
ثانياً: العُجب يصرف وجه العبد عن الله فيهتم بنفسه، والذنب يصرف وجه العبد إلى مولاه راجياً أن يتوب عليه مما فعله وآتاه.
ثالثاً: العُجب يجعل العبد يُقبل به على نفسه، والذنب يجعله يُقبل به على ربه.
رابعاً: العُجب ينتج الاستكبار، والذنب ينتج الاضطرار والافتقار، وخير أوصاف العبد اضطراره وافتقاره إلى ربه، وفي الحديث دلالة على أن العبد لا تبعده الخطيئة عن الله، وإنما يبعده الإصرار والاستكبار والإعراض، بل قد يكون الذنب سبب الوصلة بينه وبين ربه كما قال ابن عطاء الله رضي الله عنه في حِكَمه: (رُب معصية أورثت ذُلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً).
ولذلك قيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئاً؟ قالت: (إذا ظن أنه مُحسن) لأنه يتجمد ولا يستزيد من الطاعات، ولا يظن أنه فعل معاصي فيبحث عنها.
آفات العُجب
العُجب له آفاتٌ كثيرة:
أولاً: العُجب يدعو الإنسان إلى نسيان الذنوب وإهمالها، فلا يراجع نفسه ويعتقد أنه لم يفعل ذنباً يستحق التوبة منه، وهذه أعظم الآفات.
ثانياً: يستعظم العبادات والأعمال الصادرة عنه، ويتفاخر بها لأنه يعمل كذا وكذا وكذا بين المناظرين له وبين غيرهم، أو في نفسه فيستعظم نفسه ويظن أنه خير من غيره ولايدري القبول فيما عمله، هل رُزق القبول أم رُدَّ هذا العمل ولم يحز من الله القبول.
ثالثاً: قد يمنُّ على الله بفعله، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها، فإن الله هو الذي وفَّقه للطاعات وأمده بالأعضاء وجعله يستطيع أن يفعل بها العبادات، لكنه قد يظن أنه قدَّم شيئاً لمولاه، وينسى نعمة التوفيق التي شمله بها مولاه، فإذا أُعجب بهذا عمي عن آفات قبول العمل فلا يبحث عنها ليُصحح هذا العمل.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم والسادة العارفون يقول الله في شأنهم: ” يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ” (60المؤمنون) يعملون الأعمال الصالحة وفي قلوبهم رهبة وخشية من الله أن لا يقبل منهم هذه الأعمال، أو تكون غير مشوبة بالإخلاص الكامل لحضرة الله تبارك وتعالى.
رابعاً: إذا اغتر بنفسه وبرأيه فإنه قد يأمن مكر الله وعذابه ويظن أن له عند الله مكانة عظيمة، وأن له عند الله منَّة وحقاً بهذه الأعمال التي عملها، وهذه آفة الآفات، فإذا كان الصِدِّيق رضي الله عنه وهو الذي بُشِّر بالجنة من سيد المرسلين يقول: (لا آمن مكر الله وإن كانت إحدى قدميَّ في الجنة) فما بالكم بالذي يعمل الطاعات ولا يشهد ما فيها من آفات قد تجعلها لا تحوز القبول عند رب البريات سبحانه وتعالى؟!.
خامساً: إن أُعجب برأيه وعقله وعلمه، منعه ذلك من الاستفادة، والاستشارة والسؤال، فلا يسمع إلى دروس العلماء، ولا يسأل العلماء والعرفاء فيما استشكل عليه، ويستبد بنفسه ورأيه، ولا يسمع بأذنيه نصح ناصح ولا وعظ واعظ، بل ينظر إلى غيره بعين الاستهجان أن يرى نفسه أنه فوق الجميع في المكانة لما يرى من عقله وعلمه مع أنه لم يبلغ شيئاً عند ربه سبحانه وتعالى.
وفي قصة الكليم مع العبد الصالح عبرة لأهل هذا المقام، فإنه مع بلوغه درجة الكليم عندما سُئل: من أعلم الناس يا موسى؟ قال: أنا، فعاتبه ربه، وأرسله إلى عبد علَّمه الله، وقال له هذا العبد كما أخبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
{ يَا مُوسَى إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ }[6]
وإذا بعصفور ينزل إلى الماء ليشرب فقال له:
{ مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ }[7]
يعني ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر.
ما بالكم بسليمان بن داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام الذي علَّمه الله منطق الطير، وسخَّر له الريح، وسخَّر له الجن، وسخَّر له كل شيء، يغيب عنه الهدهد فيسأل عنه بعدما تفقد الطير ولم يجده بينهم، فقال له الهدهد كما حكى الله: ” أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ” (22النمل) يعني علمتُ أمراً وشيئاً لم تعلمه أنت: ” وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ” (76يوسف).
سادساً: إن من أعظم آفات العُجب أن يكسل الإنسان في السعي إلى الطاعات والعبادات، لأنه يظن أنه قد فاز وسعد وقد استغنى، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه، وهذا ما نجده في كثير من الأحباب المحيطين بيننا، فيظن أنه بحضوره اللقاءات والمجالس قد أدَّى ما عليه لمولاه وله منزلة عند الله ولا ينبغي له أن يستزيد عن ذلك شيئاً.
فإذا كلَّف خاطره بأن يحضر مجلساً لشيخه يرى أن له مِنَّة على شيخه وعلى الحضور لأنه تفضل بالحضور مع أنه ليس بحاجة إلى هذا العلم ولا إلى هذا الجمع، وهذه آفة الآفات التي تجعل الإنسان يخرج من الدنيا وهو خاوي من الحسنات والدرجات والمكرمات، لأن العُجب حجبه عن المزيد من العمل لرفيع الدرجات تبارك وتعالى.
ومثل هؤلاء لو نظروا إلى سيد السادات صلى الله عليه وسلَّم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان يقوم الليل حتى تتورم منه الأقدام، وتقول له السيدة عائشة رضي الله عنها:
{ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا }[8]
فكون الله قد رفعه إلى هذه المنزلة فإنها تستوجب الشكر، والشكر عمل: ” اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ” (13سبأ) وكلما رُفع الإنسان في منازل استوجب المزيد من الشكر: ” لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ” (7إبراهيم) فلا يتوقف عن شكر الله بالعمل الصالح لله، ليستوجب بذلك المزيد من كنوز فضل الله تبارك وتعالى.
أما إذا كان الإنسان قد استعظم النعمة في نفسه وركن إليها، ونسي إضافتها إلى المنعم تبارك وتعالى، وغلب على نفسه أن له عند الله حق، وأنه منه بمكان، حتى يتوقع بعمله أن يُجري الله له كرامات في الدنيا، ويستبعد أن يجري عليه مكروه، فهذا يسمى إدلال بالعمل، وهذا من أشد الجرائم في حق الإنسان المُقدِم على مولاه.
وكذلك قد يُعطي الإنسان غيره شيئاً فيستعظمه ويمن به عليه، وهو بهذا يكون قد أُصيب بالعُجب، فإن طلب منه خدمة مقابل ما أعطاه أو اقترح عليه اقتراحاً ليقضي له حاجة، أو عاتبه عن تخلفه عن قضاء حق له كان ذلك إدلال، وهذا الذي يقول الله فيه: ” لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاذَى ” (264البقرة).
علاج العُجب
العُجب كغيره من الأمراض والعلل لا يُزال إلا بالعلم المحقق، بأن العبد وعمله وأوصافه وكل ما له من عند الله تعالى، نعمة ابتدأه بها الله لا يستحقها، وإنما هي فضل من الله يستوجب الشكر لحضرة الله، حتى لا تزول هذه النعم عنه، وحتى يفيض عليه مولاه المزيد:
إذا كنت في نعمة فارعها |
فإن المعاصي تُزيل النعم |
وحافظ عليها بشكر الإله |
فإن الإله سريع النقم |