• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

14 يوليو 2022

مرض الغضب

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

مرض الغضب

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله على واسع فضله وعظيم عطائه، والصلاة والسلام على سيد رسله وأنبيائه؛ سيدنا محمد وآله وصحبه وكل من مشى على هديه إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين بمنك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

الغضب قوة وضعها الله في الإنسان في قلبه، قال فيها صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَلَا وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ }[1]

والإنسان لما كان فيه عناصر الأرض الأربع التراب والماء والهواء والنار، وكل عنصر من هذه العناصر له وظيفة حددها له الرحمن يقوم بها في حياة الإنسان، فإن النار التي جعل الله جزء منها في قلب الإنسان يتولد منها قوة الغضب.

قوة الغضب

قوة الغضب وضعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليتمكن بها من صد العداوات عن نفسه، ومواجهة الشدائد، أو ليوجهها للنفس وجندها لكي يستطيع جهاد نفسه فيصل بالصفاء والنقاء إلى معرفة ربه تبارك وتعالى.

ومن هنا فإن الغضب منه الغضب المذموم ومنه الغضب المحمود، فالغضب المذموم إذا كان الإنسان يغضب من أجل نفسه، أو من أجل شيء في نفسه، وهذا نهى عنه الله تبارك وتعالى، وحمد من كظم غيظه وتملَّك غضبه، ولذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ }[2]

وجاء رجل إلى النبي وقَالَ لَهُ:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا تَغْضَبْ }[3]

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قائلاً:

{ مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: لَا تَغْضَبْ }[4]

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:

{ مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ }[5]

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:

{ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ}[6]

وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ }[7]

وقال أبو الدرداء:

{ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ }[8]

الوقاية من الغضب

فإذا نظرنا إلى هذه الأحاديث فإن العمل الذي يقي الإنسان من غضب الله، والعمل الذي يقي الإنسان من دخول جهنم والعياذ بالله، والعمل الذي يُدخل الإنسان الجنة هو كله عملٌ واحد وهو أن يكف الإنسان نفسه عن الغضب الذي نهى عنه الشارع الحكيم والقرآن الكريم والنبي الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم.

والذي يتناوب قلب الإنسان إذا تمكن من السيطرة على الغضب هو الرضا؛ أن يرضى ويكون راضياً عن الله وعن عباد الله تبارك وتعالى.

فالغضب والرضا شعوران يتناوبان على قلب الإنسان يتداولان سلطانهما على باطنه كله، فالغضب شعور الإنسان وردَّة فعله الطبيعية أمام أي شيء يكرهه من الحياة، وكل أذى يصيبه من صاحب أو عدو، لذلك ينبغي علينا إذا غضبنا أن نراعي حدود الله في غضبنا، وأن نستعيد جمال الرضا في أعماقنا.

آثار الغضب على الإنسان

والإنسان عندما يغضب فإن الغضب له آثارٌ كثيرة، سواءٌ على قلب الإنسان أو على قالبه وجسمه وأعضائه، فإن الغضب الكثير المفرط قد يُذهب عافية البدن وقوته، وقد يعبث بطمأنينة النفس، وقد يُقلق سكينة العقل، وقد يطمث شفافية الروح، بل يسبب الكثير من الأمراض، منها العصبي كالنرفذة والتوتر الدائم، ومنها البدني ابتداءاً من أمراض البشرة والجلد إلى أمراض الجهاز الهضمي إلى أمراض الجهاز الدموي إلى أمراض القلب، ولذلك نجد الشرع يحث الإنسان على عدم الغضب.

والعقل كذلك – لمصلحة الإنسان – يدعوه إلى ترك الغضب، بل والطب – لما يسببه الغضب من أمراض – ينصح الإنسان بعدم الغضب، فالغضب في هذا – كما ذكرنا – يضر الإنسان في نفسه، ويضر المجتمعات التي يحدث فيها ويكثر فيها الغاضبون من أهلها وسكانها.

لكن هناك أمرٌ لا بد أن ننتبه له وهو أن الإنسان إذا فقد الغضب يجعل الإنسان عاجز عن إصلاح نفسه ورياضتها، لأن الرياضة للنفس والتهذيب لها يكون بتسليط القوة الغضبية على قوة الشهوة، فيحدث الاعتدال للإنسان ويتمكن الإنسان من الحياة الطيبة التي قال فيها الله تبارك وتعالى: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ” (97النحل).

وهناك أمرٌ آخر يحدث للإنسان عند الغضب، ونراه جميعاً ونتحاشى هذا المنظر، ولو دققنا منظر الإنسان عند الغضب وهيئته وشكله لأمسكنا جميعاً عن الغضب، وتجملنا بالعفو والصفح والحلم والأخلاق الكريمة التي دعانا إليها الله، ولذلك يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه: (لو رأى الغضبان قُبح صورته عند غضبه لسكن غضبه حياءًا من قبح صورته واستحالة خلقته).

فالغضب يؤثر على كل أعضاء الإنسان، ويجعل الإنسان لا يستطيع السيطرة على لسانه فربما يشتم، وربما ينطق بالفاحش من القول، وربما يضطرب بالنطق فلا يستطيع أن يأتي بالألفاظ على وجهها الصحيح، وربما يتخبط في النطق بالحروف، كل ذلك لأنه فقد السيطرة على لسانه.

فإذا جئنا إلى الأعضاء نجد الإنسان عند الغضب قد يلجأ أحياناً إلى الضرب، أو إلى التهجم على من يرى فيه عداوة له، أو إلى القتل، أو إلى الجرح عند التمكين، وقد يضرب ما يجده أمامه إذا لم يتمكن من عدوه إن كان جماد أو حيوان، فقد يكسر مائدة أو يكسر باباً.

وإن هرب منه المغضوب عليه وعجز عن التشفي رجع الغضب إلى صاحبه فربما يمزق ثوبه، أو يلطم خده، وقد يضرب بيده على الأرض ويجري سريعاً، وقد يصدر منه أفعال لا تصدر إلا من المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها، وهذا أمر نشاهده أجمعين ساعة الغضب، نسأل الله الحفظ والسلامة.

أما آثاره في ظاهر الإنسان، فنجد أن لونه قد تغير، ونجد أطرافه قد ترتعش من شدة غضبه، وتخرج أفعاله عن الترتيب والنظام، وتضطرب عنده الحركة ويضطرب الكلام، حتى يظهر على أشداقه زَبَدٌ كزَبَد البحر أثناء الحديث أو أثناء الكلام، وتحمر أحداقه وقد تنقلب مناخيره وتستحيل خلقته.

وقد يكون بعد ذلك لا يستطيع أن يُظهر كل ذلك، ولكن الأمر إذا خرج عن نطاق سيطرته ظهرت هذه الأمور عليه رغماً عنه، وإن أنكرها عندما يرجع إلى طبيعته، وعندما يُهدئه من حوله ويظهر في حالته الطبيعية.

تحول الغضب

أما إذا لم يستطع الإنسان أن يُظهر غضبه فيما ذكرناه، فإن الغضب ينقلب إلى قلبه فيتحول إلى حقد وحسد لمن هو غاضب عليه، وقد يتحول إلى إضمار السوء له، وقد يشمت فيه إذا أصابته مصيبة، وقد يحزن إذا جاءه ما يفرحه، وقد يعزم على إفشاء سره الذي حكاه له فيما بينه وبينه ليغيظه، وقد يريد أن يهتك ستره ويستهزئ به، كل ذلك من تأثير الغضب في القلب، نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ والسلامة من هذه الأحوال جميعها.

ومع ذلك فإن الشرع الشريف يدعو إلى الغضب عندما تُنتهك حرمات الله، وعندما يكون هناك أمر لا يرضي الله ولا يوافق عليه شرع الله، ومن فقد حمية الغضب لله فإنه يكون عنده قلة أنفة، وقد يرضى بالذل ولا يتحرك، وقد يفقد غيرته على حَرَمه وحرماته ولا يتأثر، وهذا الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ }[9]

والديوث هو الذي لا يغار على نسائه، وعندما غضب سعد ابن معاذ لذكر نسائه قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟! فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي }[10]

وقد يسكت أيضاً عند مشاهدة المنكرات، ويأتي بأسباب تنكرها جميع التشريعات، ويقول: ما دام الأمر بعيد عني فليس لي شأنٌ به، مع أن المؤمنين جميعاً كجسد واحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

صفة غضب النبي صلى الله عليه وسلم

قد يسأل سائل: هل كان النبي صلى الله عليه وسلَّم يغضب؟ نقول نعم كان يغضب، ولكن غضبه يقول فيه الإمام علي رضي الله عنه:

{ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم لا يَغضَب للدُنيا فإذا أَغْضَبهُ الحقّ لم يَعرِفهُ أَحَد ولَم يَقُم لِغَضَبهِ شَيءٌ حَتَّى يَنتَصر لَه }[11]

فكان يغضب لله وللحق مع عباد الله تبارك وتعالى، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلَّم معتذراً لمن غضب عليهم لأمر قد يشكُّون فيه:

{ اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[12]

وكان إذا غضب أيضاً لا يتحول عن الحق، فقد قال أهل قريش لعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يكتب أحاديث النبي: أتكتب أحاديث النبي وهو يغضب كما يغضب البشر؟!، فذهب عبد الله بن عمرو لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقال:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ عَنْكَ مَا سَمِعْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَقُولَ فِي ذَلِكَ إِلا حَقًّا }[13]

قال تعالى: ” وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ” (3-4النجم).

وغضبت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات مرة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مازحاً ليُهدئها:

{ يَا عَائِشَةُ أَخَذَكِ شَيْطَانُكِ؟ فَقُلْتُ: أَمَا لَكَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلا لَهُ شَيْطَانٌ، فَقُلْتُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا، وَلَكِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ }[14]

إذاً كان صلى الله عليه وسلَّم كما تقول السيدة عائشة:

{ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ }[15]

لا ينتقم لنفسه قط، ولا يغضب لنفسه قط، ولكن يغضب إذا انتُهكت حرمات الله تبارك وتعالى، وهذا الذي ينبغي علينا أن نقتدي به، وأن نمشي على أثره في حياتنا لنكون من أهل معية نبينا صلى الله عليه وسلَّم.

أسباب الغضب

وقد يسأل سائل: ما الأسباب التي تُهيج غضب الإنسان؟

السبب الأول: قد يكون سبب الغضب من المخالطين للإنسان، فقد يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ، ويعدون ذلك بطولة وشهامة، كأن يقول أحدهم: أنا دمي حار ولا أتحمل ضيماً ولا ذلاً، فإذا استفزني إنسان لا بد أن آخذ بحقي في الوقت ولو أدَّى ذلك إلى قتله، وهذا يستفزه الشيطان، إن كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس: ” شَيَاطِينَ الانْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ” (112الأنعام).

كيف نعالج ذلك؟ عدم خُلطة السفهاء وأهل الجفاء، ومخالطة الصالحين ومجالسة المتقين، وأن يسترجع الإنسان معهم دوماً حكايات الحلم والحلماء والعفو والعافين عن الناس وكظم الغيظ، وما أكثر هذه الحكايات في كتب الصالحين، نسأل الله تبارك وتعالى أن يلحقنا بهم أجمعين.

السبب الثاني: قد يكون الإنسان لم يُتم جهاد نفسه، فيعتز بشخصيته، ويرى نفسه إنساناً كبيراً له كيان، ويزيد عنده الكبر، فإذا أساء أو قيل له قولاً في نظره هو إساءة، وهو معجبٌ بنفسه ومغرورٌ بسلطانه أو ماله أو هيئته، ولم ينخلع بالكلية من الكبر، قد يغضب ويقول: أتقول ذلك لي أنا؟! ألا تعرفني؟! أنا كذا وكذا، وهذا من الأسباب التي تهيج الإنسان للغضب، فإذا رد عليه الآخر بمثل ما قال، زاد غضبه وخرج عن حد السيطرة وخرج منه ما ذكرناه فيما سبق.

السبب الثالث: الإحساس بالظلم، فإن الإنسان إذا ظُلم ظلماً شديداً، وعجز عن رفع هذا الظلم فإنه يغضب، وإذا لم يستطع أن يكظم غيظه، أو يعفو عمن أساء إليه، فإن هذا الظلم قد يتحول إلى الغضب فيحاول أن يسيئ إلى من ظلمه أو ينتقم منه، أو على الأقل يتشفَّى فيه أو يشوه سمعته، وذلك بسبب غضبه وعدم رفع أمره إلى الله، وإن الله وعد المؤمنين فقال: ” إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا ” (38الحج) فلو لم يدفع عن نفسه فإن الله عز وجل سيدفع عنه، فقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان جالساً مع أبي بكر الصديق، وجاء رجل من المنافقين وأخذ يسب أبا بكر، وأبو بكر ساكت، فلما همَّ أبو بكر أن يرد عن نفسه، قام النبي وترك المجلس، فلحق به أبو بكر مسرعاً وقال:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ!، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ }[16]

السبب الرابع: المزاح الثقيل الزائد عن الحد، فإن الإنسان له طاقةٌ في التحمل، فإذا أراد إنسان أن يمزح مع إنسان فليكن لطيفاً وخفيفاً ولا يثقل عليه في المزاح، فإنه إذا ثقل عليه في المزاح تحركت ثورة الغضب في داخله وأراد أن ينتقم لنفسه، وأن يشفي غيظه فيهيج الغضب عنده.

وكذلك إذا كان الإنسان يقول أقوالاً هزلية يقصد بها إنساناً وسط جماعة، وهذا ما نراه كثيراً، أو إنسان في جماعة يستضعفونه فيتفقون ولو بدون قصد أن يجعلونه محل سخريتهم، وهذا ينطق بكلمة وهذا ينطق بجملة فتُستثار قوة الغضب في نفسه، فيهيج وربما يتحول إلى ثورة من الغضب كالبركان لا تُبقي ولا تذر على من حوله.

السبب الخامس: التعيير بنسب أو عمل لأي إنسان كائناً ما كان، فإن الإنسان مهما كان لا يحب أن يُعيِّره أحدٌ وخاصة في عائلته أو نسبه أو بنيه وزوجه وأولاده، أو يُعيِّره بعمل عمله ولم يستحسن هو هذا العمل، فليس بذلك تنصلح هذه الأمور، وإنما تنصلح بالملاطفة والملاينة والتوجيه السديد الرشيد وليس أمام الخلق.

فقد بلغني مثلاً أن رجلاً من كبار الأحباب، ونراه ذا علم كبير، يحضر المجلس فإذا تكلم غيره يقاطع المتكلم في بعض الآنات ويصلح له في نظره مما يتحدث به، وهذا ليس من الآداب التي علَّمنا إياها سلفنا الصالح، فإن النصيحة على الملأ فضيحة.

إذا أردت أن توجه أحداً أو تظهر علمك أو تظهر مكنون ما في قلبك فيكون ذلك بعد انتهاء أخيك من كلامه، ويكون بينك وبينه وبلطف ولين، لكن النصيحة على الملأ لتُعلم الحاضرين أنك أعلم منه فهذا لا يتوافق مع أحوال الصالحين حتى المبتدئين منهم، لأن هذا ليس من أخلاق النبيين وليس من أخلاق الصالحين.

والأسباب المهيجة للغضب كثيرة، ولكن يجمعها أصلٌ واحد هو الحب والكره، فإذا أحب الإنسان إنساناً تغاضى عن كل ما يحدث منه، فلا يُتستثار ولا يحدث غضباً.

وإذا كره الإنسان إنساناً يتلمس فيه الأوزار ويتلمس فيه الذنوب ويتلمس فيه العيوب ويريد أن يظهرها للغير، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، ولا حتى من أخلاق عوام المسلمين، فقد قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }[17]

العلاج الناجع لتجنب الغضب

كيف يعالج الإنسان منا هذا الداء الوبيل؛ داء الغضب؟

أولاً: يتعلم ويعلم فضل العفو والصفح وكظم الغيظ والحلم والاحتمال، حتى تتشوق نفسه إلى ثواب هذه الأعمال.

ثانياً: أن يخاف على نفسه من عقاب الله له، فيقول كما علَّمنا سلفنا الصالح: (إذا دعتك قدرتك على ظلم هذا الرجل، فاعلم علم اليقين أن قدرة الله تبارك وتعالى عليك أعظم من قدرتك عليه) وما دام هناك قدرة الله فالإنسان لا بد وأن يغفر لكل مسلم خطاياه، وأن يسامح إخوانه أجمعين طلباً لمرضاة الله تبارك وتعالى.

ثالثاً: أن يحذر الإنسان نفسه ويتفكر ويتدبر في عاقبة العداوة والانتقام إذا عادى هذا الإنسان، فإن هذه العداوة قد تجعل هذا الإنسان يحاول أن ينتقم منه بأي طريقة، والمؤمن في الدنيا ليس له أعداء إلا المنافقين، والمنافقين يكفيه شرهم رب العالمين تبارك وتعالى.

ولأن يكون الناس لك أحباب وليس لك عدوٌ واحد، هذا هو المنهج الذي كان عليه ولا يزال الصالحون في كل زمان ومكان.

رابعاً: كما ذكرنا عن الإمام الغزالي: أن يتفكر في قُبح صورته عند الغضب، بأن ينظر صورة غيره عند الغضب، ويقول لنفسه: إذا كنت لا أستملح هذه الصورة لهذا الرجل، فكيف أرضاها لنفسي عند الغضب؟! فلا يسمح لنفسه قط أن تظهر بهذه الصورة، فيدخل في قول الله: ” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” (134آل عمران) وقد يرقيه الله إلى مقام الحلم: ” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ” (114التوبة) والحلم سيد الأخلاق.

خامساً: أن يتفكر الإنسان في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ، إذا كان بسبب خاص بي فأتنازل عنه، وإذا كان بسبب مخالفة شرع الله أو انتهاك حرمة كتاب الله أو الإساءة لرسول الله هنا ينبغي عليَّ الغضب بالكيفية التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم والصالحين من عباد الله أجمعين.

العلاج العملي للغضب

أما العلاج العملي للغضب أن يقول الإنسان بلسانه إذا غضب: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ويسكت ولا ينطق، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ }[18]

خير علاج في هذه الحالة السكوت، فإذا لم ينته غضبه يغير وضعه الذي يكون عليه، فإن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً ينام، وإن لم يهدأ غضبه بعد ذلك فليتوضأ أو يغتسل ويصلي ركعتين لله، فإن الله تبارك وتعالى يجعله من الكاظمين الغيظ كما في كتاب الله، وكظم الغيظ يقول فيه صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ }[19]

أعظم جرعة يتجرعها الإنسان أن يجرع غيظه، وخاصة إذا كان ذا قدرة على تنفيذ غضبه، كأن يكون قائداً أو مديراً أو رئيساً في مصلحة، ولذلك ما أكثر ما ورد في كتب القوم عن الصالحين وعن الأمراء وعن الخلفاء، أنهم كانوا إذا غضبوا غضباً شديداً يقولون لأحدهم: (والكاظمين الغيظ) فيكظم غيظه، ويقولون له: (والعافين عن الناس) فيقول لمن غاظه عفوت عنك، يقولون له: (والله يحب المحسنين) فإن كان عبداً يقول له: أنت حرٌ لوجه الله تبارك وتعالى، وهناك حكايات كثيرة في هذا الباب ليت الأحباب يجمعونها ويتصفحونها ويطالعونها.

قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (من اتقى الله لم يشف غيظه – لا يشفي غيظه أبداً لأنه من الكاظمين الغيظ – ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء، ولكن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون).

وجاء رجل إلى سلمان وقال: (يا عبد الله أوصني قال: لا تغضب، قال: لا أقدر، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك).

وهكذا فكظم الغيظ هو تهدئة الغضب بالعقل والفكر والدين.

وإذا ارتقى الإنسان عن كظم الغيظ والعفو يرتقي إلى الحلم، والحلماء يقول فيهم الله: ” وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ” (63الفرقان) قال الحسن: (علماء إن جُهل عليهم لم يجهلوا).

وقال الإمام علي رضي الله عنه: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظُم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمحسنين لمن أساء إلينا، وأن يجمِّلنا بأخلاق عباده الحلماء، وأن يجعلنا دائماً وأبداً من خيار المتبعين لإمام المرسلين والنبيين.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] سنن الترمذي ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[2] صحيح البخاري ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[3] مسند أحمد والحاكم في المستدرك عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه

[4] مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[5] صحيح مسلم ومسند أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[6] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

[7] المعجم الكبير للطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما

[8] المعجم الأوسط للطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه

[9] المطالب العالية لابن حجر والبيهقي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه

[10] صحيح مسلم وابن حبان عن سعد بن عبادة رضي الله عنه

[11] الشمائل للترمذي

[12] صحيح مسلم وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[13] صحيح ابن خزيمة ومسند أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[14] صحيح مسلم وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها

[15] الصحيحين البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها

[16] مسند أحمد والشهاب عن أبي هريرة رضي الله عنه

[17] سنن ابن ماجة ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[18] مسند أحمد والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما

[19] سنن ابن ماجة والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما

الجميزة – السنطة -الغربية   الخميس 15 من ذو الحجة 1443هـ 14/7/2022م 1

 

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid