• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

10 فبراير 2016

منازل الإستخلاف للمؤمنين_سورة التوبة 71-72

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

فضيلة الشيخ فوزي محمد أبو زيد

المكان: طفنيس ـ المسجد الحسيني ـ العشاء

التاريخ: الأربعاء 10/2/2016 موافق 2 جمادى الأول 1437 هـ

 (المجتمع الإيماني المثالي)

بسم الله الرحمن الرحيم:

الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، وجعلنا في الدنيا من خيار أحبته، ونسأله عز وجل أن يُكمل علينا المنة ويتم علينا النعمة ويجعلنا جميعاً من أهل النظر إلى وجه حضرته يوم الدين.

والصلاة والسلام على الحبيب المختار الذي صافاه مولاه وصفَّاه من كل الأغيار، وجمله بالأنوار وجعله باباً لكل الخيرات في الدنيا ومفتاحاً لكل السعادات في الآخرة، سيدنا محمد طيب الذكر وآله الكرماء وأصحابه الحُلماء وأتباعه الفقهاء، وكل من تبعهم على هذا الهُدى إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.

أيها الأحبة: كان من هدي الله لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم أن يصنع على يديه مجتمعاً إيمانياً مثالياً، يكون على هذا النموذج لكل مجتمعات المؤمنين في كل أسقاع الأرض من زمنه إلى يوم الدين.

إذا مشينا على هذا النهج القرآني الكريم، نكون كما قال الله:

“وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا” (54النور).

فتكوُّن المجتمعات الإيماني لا فيها مشاكل ولا خلافات ولا شحناء ولا نزاعات ولا أي شيئٍ يثير الريبة فيما بينهم، لأنهم مشوا على الضوابط القرآنية وعلى النموذج العملي الذي صنعه الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في مدينته الفاضلة.

هذا المجتمع الإيماني يُزيل العصبيات، حتى العصبيات القبلية التي كانوا مستمسكين بها في الجاهلية، ويجعل كل المؤمنين في كل الأماكن وفي كل البلدان كما قال الرحمن:

“إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” (10الحجرات).

عائلتنا كم فرد؟ حوالي إثنين مليار، وهي الحقيقة التي قررها القرآن والتي نفذها النبي العدنان وجعل الله عز وجل ضوابط إلهية في القرآن حتى لايجتهد أحدٌ من عند نفسه، ولا يبحث بفكره ولا يحاول أن يسيطر على الأمور بعقله، لا ـ كله على ما نزل في الذكر الحكيم وطبقه الرسول الرؤف الكريم صلى الله عليه وسلَّم.

كل المؤمنين إخوة، ولهم أبٌ واحد والذي هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأمهاتهم أمهات المؤمنين:

“النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ” (6الأحزاب).

فألغى هذه العصبيات كلها، ولذلك بعد أن ألغى العصبيات كلها قال لهم: إسمعو:

(ليس منا من دعا إلى عصبية ـ إذن والعصبية لمن؟ ـ لله ولكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم).

فهذا إبن فلان وهذا إبن علان وإبن كذا؟ قال كلكم لآدم وسيصل النسب في النهاية لآدم، فالكل يجد أن النسب واصل عند آدم:

(كلكم لآدم وآدم من تراب).

فلم هذا الفخر والإنتساب؟ ولمن يكون؟ للإنتساب إلى الإسلام، ولدين الله ولكتاب الله ولحبيب الله ومطفاه صلى الله عليه وسلَّم.

هذا المبدأ رسَّخه سيدنا رسول الله بين أصحابه المباركين، حتى أنه بدأ بنفسه أولاً، وقال في رجلٍ قادم من بلاد فارس ـ سيدنا سلمان الفارسي:

(سلمان منا آل البيت).

والرجل الحبشي ولونه كان أسوداً والعرب كان لونهم بين بين، ليس أسوداً ولكن بين بين أي بين السواد والبياض ـ وقال:

(أدخل الإسلام بلالاً في نسبي وأخرج الكُفر أبا لهبٍ من نسبي).

مع أن أبو لهب فيه العصب وهو عمه، فأصبح النسب هو الإسلام، ولذلك جاء بعض نفر يسألون سيدنا سلمان الفارسي ـ ولم ينتبهوا للحقيقة ـ فسألوه: أنت إبن من؟ فمرة يقول لهم: أنا ابن من سجدت له الملائكة أجمين، ومرة يقول لهم:

أبي الإسلام ليس لي سواه      إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمَ

فكان الكل إخوة، وما هو شرط الأخوة الإيمانية؟ الشروط التي جاءنا بها ربنا عز وجل:

“وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ” (71التوبة).

لابد أن تكون ولاية بينهم، وما معنى ولاية؟ يعني تعاون، وتعاطف وبر وتنسيق وصلة يكملوا بعضهم، فيدخلون في قول الحبيب صلى الله عليه وسلَّم:

(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُد بعضه بعضا).

فلو خلعنا من هذا الجدار الذي بجوار هذا المسجد قالبين من الطوب من أي موضع أفلا يختلُّ؟ لأن الحجارة متماسكة ببعضها.

فما هي الشروط ليكون المجتمع مجتمعاً مثالياً ليس فيه المشاكل التي ذكرناها؟

الشرط الأول:

هو أن يكون المؤمنين متكاتفين مع بعضهم في السراء والضراء وفي كل الأحوال.

ما شكل هذا النوذج يا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟ قال:

(مثل المؤمنين ـ وليس في الصلاة ولا في الصوم ـ في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى عُضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى).

وصل بهم الأمر في هذا الحديث العظيم أن بعضهم كان يشعر بالجوع إذا جاع أخاه وبينه وبينه مسافات ـ وانظر إلى أي مدى وصلت أحاسيسهم ببعضهم؟ يقول: أنا حاسس أن أخي فلان في المكان الفلاني ـ وهو اخاه في الله ـ جوعان.

ويقول: أنا حاسس أن أخي في المكان الفلاني به ألم من مرضٍ أتعبه، أو أنا حاسس أن أخي في المكان الفلان عنده مشكلة.

هذه الأحاسيس التي ارتقت باطنياً وجعلتهم كلهم كأنهم جسدٌ واحد إذا اشتكى عُضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى.

وفي رواية أُخرى:

(إذا اشتكى بعضه اشتكى كله).

يشعرون ببعضهم ـ هذا الإحساس الراقي كان نتيجة الذوبان في مائدة القرآن وفي التعاليم التي أتى بها النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.

إذن شرط المؤمنين لكي تكون مجتماعاتهم كمجتمع المدينة المنورة التي لم يكن فيها كلها ولا البلاد التي حولها وحدة صحية.

ولما جاء لحضرة النبي الطبيب هدية، قال: ماذا نفعل به؟ أعيدوه ـ فكان ملك مصر قد أرسل له طبيباً هدية وأرسل له فرساً وأرسل له جاريتين هدية، وأرسل له بعض العسل ـ كان قد جلبه من بنها وكانت مشهورة بالعسل في هذا الوقت.

قبل العسل وقبل الجاريتين وقبل الفرس وقال: ماذا نفعل بالطبيب، لماذا يا رسول الله؟ قال:

(نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، فمن أين يأتينا المرض).

كيف يُصيبنا المرض.

لم يكن فيها غير قاضٍ واحدٍ عينه سيدنا أبو بكر، والقاضي كان سيدنا عمر أعدل الأولين والآخرين بعد الأنبياء والمرسلين، مكث عام في القضاء ولم تأته قضية واحدة في البلد، فسيدنا أبو بكر استدعاه ليأخذ راتبه، والراتب كان كل سنة ونحن نحفظ منذ زمن إلى عهدٍ قريب كان اسمها “الميسانية” أتذكرون الميسانية، فقبل المساجد أن تدخل الإوقاف كانت كل بلد يأتون بواحد يقوم بخدمة المسجد ويعطوه ميسانية يعني يعطوه شيئاً من الزرع.

فطلبه ليعطيه الراتب السنوي، فقال: أنا لا أستحقه لأنني لم أعمل، فسأله: كيف لم تعمل؟ قال: لم تُعرض عليَّ قضية واحدة في هذه السنة ـ قضية واحد بين هؤلاء القوم؟ لماذا؟ لأنه كان بينهم وبين بعضهم محبة ومودة ورحمة وشفقة وعطف وحنان، وسمعوا حضرة النبي يقول:

(لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه).

فوقفوا عند هذا الحديث وعملوا به، الذي لا أُحبه لنفسي فلا أُحبه لغيري، فلم يكن هناك حتى قضية واحدة في البلد كلها ولو رمزية بين إثنين لماذا؟ لأنهم نفذوا تعاليم السماء ومشوا على هدي الشريعة السمحاء الذي أرسى معالمها سيد الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلَّم.

الشرط الثاني: النصيحة بالحكمة والموعظة الحسن:

ماذا تقتضي هذه المحبة؟ ونحن نحب بعضنا؟ تقتضي أن كل مسلم لو رأى خطأ في أخيه المسلم ينصحه ولكن برفق ولين ولا يكون أمام الآخرين، لأن النصيحة على الملأِ فضيحة، وإذا انتهت النصيحة فتكون المشاكل التي نراها، لماذا؟ لأنه لم يعد أحدٌ يتقبل النصيحة والناس الذين ينصحون يخافون أن يقدموا النصيحة حتى لايُقابل بما لايُحمد عُقباه، لكنهم لم يكونوا هكذا.

سيدنا عمر خليفة المسلمين وأمير المؤمنين كان يقول لهم:

[رحم الله أمروءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي].

يا إخواني من يرى فيَّ عيباً يقدمه لي، وهذا العيب الذي يدلني عليه هو أعظم هدية يهديها إلي، لماذا؟ حتى أُصلح من نفسي، فيرى تقديم النصيحة هنا هدية.

[رحم الله أمروءاً أهدى إليَّ عيوب نفسي].

يبين لي عيوبي لأعمل فيها، ولذلك كان واقفاً على المنبر ذات يوم فقال:

[أيها الناس اسمعوا واطيعوا ـ فقام سلمان وقال له: لا سمع ولا طاعة، فقال له: لماذا؟ فقال: أنت أعطيتنا كل واحد ثوباً وأنت لبست الآن ثوبان إثنان ـ وانظر إلى الشجاعة الأدبية التي علمها لهم خير البرية ـ فقال عمر: أين عبد الله بن عمر، فقام، فقال له: أين ثوبك؟ فقال: عندما وجدت ثوبك قصيراً تبرعت لك بثوبي فوضعت الثوبين مع بعضهما وأطلتهم، فقال: سيدنا سلمان: الآن نسمع ونطع].

كانوا سائرين على هذا النهج، فيسألوهم عن ذلك: فيقولون: اُخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن ننصح كل مسلم، لابد وأن ننصح المسلمين.

وعلى سبيل المثال: لو مررت بتاجر ورأيته يغُشُّ في لميزان وسكتَّ، فأصبحت شريكاً في هذا الغش، لأنك رأيت وخائف أن تنصحه، وأنا لم أقل: أن تكلمه أمام المشتري، ولكن قُل له: مساررةً فيما بينك وبينه، وأقول له: يا فلان ما تفعله خطأ:

“وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ” (5) (المطففين).؟

فلابد أن ننصح ولكن بالطريقة اللطيفة كما قلت: باللين والمودة والرحمة فتتحول كل المساوئ الموجودة في المجتمع إلى محامد، ولذلك ربنا قال في العنصر المهم بعد التعاضض والمحبة والوداد:

“وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (104آل عمران).

وحضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم أعطانا الطريقة السديدة فقال: لو تُرد أن تأمر بالمعروف ويُسمع لك؟ لابد وأن تأمر نفسك أولاً، وبعد ذلك أولادك وأهلك، حتى لا تقول لأحدٍ: يا فلان إعمل كذا، فيقول لك: إبحث عن نفسك، يا فلان حجِّب إبنتك، فيقول: شوف بنتك وزوجتك ـ فقال:

(إبدأ بنفسك ثم بمن تعول ـ من تطعمهم وتسقيهم ـ ثم الأقرب فالأقرب).

حتى إذا أمرتَ بالمعروف واللين يُستجاب لك.

فعندما يبدأ كل مؤمن بهذه القضية فإن شاء الله ستنتهي المشاكل الإسلامية.

وماذا عن النهي عن المنكر؟

هذا أمرٌ مفروغ منه يا إخوانا، واسمعوا للحديث الذي يخيف المؤمنين من أمير الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلَّم، يقول فيه:

(من رأى منكم منكراً فرضي به كان مشاركاً في الإثم لمن فعله).

ما دام أنت ترى وتسكت فكيف يصِّح هذا الكلام؟ فماذا نفعل يا رسول الله؟ قال:

(أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ـ قالوا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه عن الظلم فذلك نصرك إياه).

 يظلم ـ فلابد أن تمنعه.

أمشي في الطريق وأرى رجلاً يرى نفسه شدياً وقوياً يمسك برجلٍ ضعيف ويؤذيه، فهل ننظر ونسكت، فكلنا نكون آثمين، لابد وأن نتدخل ونمنع هذا الظلم حتى ننفذ كلام رب العالمين عز وجل.

رأينا كما نرى والأشياء التي ظهرت في المجتمع الحديث ـ ولداً شاباً يفتخر بنفسه شوية، وأبوه رجل كبير في السن، وأصبح ضعيف البنيان والحركة، والولد واقف في الشارع ويشتم أباه بأقبح الألفاظ، فهل نسكت على ذلك؟

لا ـ لابد أن نتحرَّك، لأن المؤمن هو الشرطة الإلهية التي عيَّنها رب البرية للمحافظة على الأمن في المجتمعات الإسلامية، وليست الشرطة التي عينتها الدولة وتأتيك بناءً عن طلب، لكن نحن أعيننا ترى بعضنا، فعندما نفعل ذلك حتى من أراد عمل شيئ فيخاف، وممن يخاف؟ من المسلمين، والمسلمات، وأعطيكم مثالاً:

من من زمن قريب في رمضان يقدر يشرب سيجارة في شارع أو في المواصلات أو في أي مكان في بلادنا الإسلامية؟ هل كان يقدر أحدٌ فعل ذلك؟ لماذا؟ ليست الشرطة ـ وهل كان الناس يتركوه يفعل ذلك؟ هل كان يستطيع أن أحدٌ أن يعاكس فتاة علانيةً أمام الناس؟ لا.

لكن نرى الآن في رمضان محلات الأكل ومحلات الشرب مفتوحة والكل يأكل ويشرب، وتجد من يركب بجوارك في المواصلة ويشرب السيجارة ويدخِّن عليك، ونحن تكاسلنا ـ ونقول: وأنا مالي وماله؟ ـ لا يوجد شيئ مثل هذا في الإسلام، ففي الإسلام نحن كلنا مسئولين على المحافظة على التعاليم التي جاءنا بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلَّم.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:

(لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله عليكم عذاباً من عنده).

وكل هذا مما نراه من غلاء ووباء وخلافات والمشاكل التي نحن فيها الآن.

قالت السيدة أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:

(نعم إذا رأوا المنكر ولم يغيروه).

سيدنا رسول الله يحكي:

(أن جماعة في بني إسرائيل أمر الله جبريل أن يهبط إلى الأرض ويقلب عاليها إلى واطيها، قال: يا رب إن فيهم فلان وفلان؟ قال: فبهم فابدأ، قال: ولم يا رب؟ قال: إنهم رأوا المنكر ولم يغيروه، ولم يمنعهم ذلك أن يواكلوه ويشاربوه).

أقل الأمر ـ الأمر بالعروف والنهي عن المنكر أنني أمتنع عن التعامل مع هؤلاء البلطجية، لا أبيع له ولا أشتري منه ولا أُزوِّجه ولا أتزوَّج من عنده كما أمرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقال: وهذا أضعف الإيمان.

فلابد أن نُحيي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ليس كإخواننا هداهم الله المتنطعين والذين قال فيهم النبي:

(هلك المتنطعين).

الذين يريدون أن يمسكوا بالعصا ويسوقوا الناس، فالنبي لم يقل هذا، وربنا لم يقل هذا، ولكن ربنا قال:

“ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَ“(125النحل).

بالحكمة أولاً والموعظة تكون موعظة مقبولة تقبلها النفوس وتفرح بها القلوب ولا تشمئذ منها.

الشرط الثالث: لتكون حياة المجتمعات حياةً طيبة:

“الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ” (3البقرة).

فإقامة الصلاة ستقوِّي الصلة بينهم وبين الله.

والشرط الثالث والرابع: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة:

وإيتاء الزكاة ستقوي الروابط بينهم وبين إخوانهم من عباد الله، والمجتمع ليصلح يحتاج هؤلاء، يحتاج لرعاية الله وعناية الله وتوفيق الله وكفالة الله ونصرة الله، وكلها لا تتأتَّى إلا بإقامة الصلاة والمحافظة على الصلاة في وقتها.

إخراج الزكاة: عندما يعرف الفقير أن له نصيبٌ في ما عند الغني فلن يكون في قلبه لا حسد ولا حقد ولا غل نحو هذا الغني، بل يحرص على ماله ويحرص على أرضه، لماذا؟ لأنه يأخذ منها نصيبه.

فيجب أن نعمل ما يقوِّي الصلة بيننا وبين حضرة الله، وما يقوِّي الروابط بيننا وبين من حولنا ممن يعيشون بيننا من خلق الله بإخراج الزكاة التي فرضها علينا الله.

وبعد ذلك نمشي في كل حركاتنا وخُطواتنا وكل أمورنا بحسب ما أمرنا به الله ورسوله ويطيعون الله ورسوله في أي أمر ـ أي أمر أُريد فعله، فلابد أن أرجع أولاً للشريعة، والشريعة في هذا الأمر ماتطلبه أنفذه ـ فإذا لم أعرف:

“فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” (43النحل).

أتوجه للعالم وأسأله ماذا أفعل؟ حتى لا أفعل شيئاً إلا ما يُرضي رب العزة عز وجل، وأحكي له القضية بصدق فلا أخدعه في كلامي لأنني أنا المسئول، فكثير من العلماء الآن ـ ومعذرةً وأنا منهم ـ نهرب من مسائل الطلاق، لماذا؟

لأن من يعرض مسألته يكذب ويقول: ضعها في رقبة عالم وأخرج منها سالم، فأنت يا بني المسئول وأنا أحكم على ما تقول، فلا فائدة، فماذا نفعل؟ نقول له: إذهب للجنة الفتوى، لماذا؟ لأن المرء في السابق كان حريصاً على دينه فيقول ما حدث بالضبط.

وبعضهم حتى لا يكلف خاطره فيرسل آخر يسأل بالنيابة عنه، فيأتي السائل فأسأله: هل أنت صاحب الواقعة؟ فيقول: لا ـ فأقول له: لابد وأن أسمع منه ماقاله بالضبط، لأن الحكم ينبني على منطوق الكلام، وأعرف كذلك نيته عند النطق بهذا الكلام.

فقد نحتاج إلى النية في الحكم الشرعي، فلابد يا إخوانا للمؤمنين أن يطيعوا الله ويعلموا العلم الصحيح في أي أمرٍ يريدون أن يصنعونه أو يفعلونه هل حرام أم حلال؟

لم أعرف، فأرجع للسادة العلماء والحمد لله البلاد أصبحت مملوءة بالعلماء، ولكن من أسأل من منهم؟

العلماء أهل الوسطية الذين يدرسون ودرسوا في المناهج الأزهرية، فهذه الوسطية الإسلامية الخالية من المذاهب السياسية ولا الحزبية، وإنما الدين للديان عز وجل.

لكن أذهب لأسأل واحد متشدد فأكون قد شددتُ على نفسي، أو أسأل واحد متساهل فأكون قد ضيعتُ نفسي، فمن أسأل إذن؟ العلماء.

سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقول:

[لا تسأل إلا من ترى أنه يخشى الله عز وجل].

من ترى أن عنده خشية لله وخوفٌ من الله فهذا من تسأله لأنه سيُفتيك بما يراه حقاً وصواباً لأنه يخشى أن يُخطئ فيحاسبه مولاه عز وجل.

من يمشي على هذا المنهج الذي ذكره ربنا للأمة الإسلامية فماذا يكون له؟

أشياء كثيرة جداً سنُشير إلى بعضها كما ذكرت:

“أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله” (71التوبة).

سيرحمهم في الدنيا من الغلاء ومن الوباء ومن المعاصي ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويجعلهم وهم في الدنيا في حياةٍ طيبة، يقول فيها عز شأنه:

“مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” (97النحل).

وحياة طيبة يعني راحة البال، فينام الإنسان في آخر الليل وهو مرتاح البال، فلا بينه وبين أحدٍ عداوة، ولا قدم إساءة لأحد، ولا فعل جريمة مع أحد، فينام مرتاح البال، والله عز وجل يتولاه ويكفيه كل شئونه التي يحتاجها، فماذا يحتاج؟ كما قال حضرة النبي:

(إذا أصبحت معافاً في بدنك، آمناً في بيتك عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا بحزافيرها).

ماذا يريد الإنسان من الدنيا غير ذلك؟ رزق غدٍ لم يأتي غداً ولا أعرف كيف أجيبه، هل أكون موجودٌ فيه أو أحضر فيه؟ لا أعلم، أم أقابل الخالق البارئ عز وجل، فلم أنشغل به؟ إذا كان هو قدَّر لي هذا اليوم فهو المتكفل لي بالرزق في هذا اليوم.

“إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ” (58الذاريات).

يرحم الإنسان عند الموت، فيأتي جماعة من ملائكة الرحمة من الجنة يقبضون روحه ويبشرونه بفضل الله، ويستقبله الحبيب المختار صلى الله عليه وسلَّم ومن معه من الصحابة الكرام والأولياء والصالحين، سيرحمه الله عز وجل في قبره، فيجعل مكانه روضة من رياض الجنة، ويفتح له كما قال الحبيب باباً من الجنة ينزل منه الروح والريحان إلى يوم القيامة، ويجعل عمله نوراً يؤنسه في قبره، لا يُحسِّ بوحشة ولا يشعر بغربة لأن معه عمله الصالح الذي عمله يؤنسه في قبره، ويوم القيامة سيرحمه الله عز وجل عند تطاير الصحف، فيأخذ كتابه بيمينه، وعندما يأخذ الكتاب يطير من شدة الفرح ويقول لأهل الموقف:

“هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ” (20) (الحاقة).

فتقول الملائكة:

“فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ” (23) (الحاقة).

سيرحمه الله عز وجل عند الميزان، فيجد النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم واقفاً بذاته عند ميزانه، إذا رجحت كفة ميزان حسناته هنَّاه وإلا شفع فيه عند الله، لأنها شفاعة الحبيب صلى الله عليه وسلَّم.

سيرحمه الله عند الصراط فيمر كالبرق الخاطف فلا تحتوشه النيران ولا يشعر بجهنم ولهيبها وشررها، وإنما يمر كالبرق الخاطف، فرحمة الله لا تُعد ولا تُحد للمؤمنين الذين يوفون بهذه الشروط لرب العالمين عز وجل.

وعدهم به:

“وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ” (72التوبة).

نعيم حسِّي تتمتع به الأجساد التي تُخلق وتعاد لها نشأتها في هذا الطور، ونعيم باطني نوراني معنوي مع رب العزة سبحانه وتعالى، يأخذون الإثنين مع بعضهما:

“وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الانْهَارُ” (72التوبة).

والأنهار:

“فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى” (15محمد).

وكلها تجري في مجرى واحد فلا يختلط اللبن بالخمر ولا يختلط الخمر بالعسل والخمر في الآخرة غير خمر الدنيا، فخمر الدنيا مُحرمٌ لأنه يغيب العقل، لكن خمر الآخرة مباح لانه تفضل به الكريم الفتاح عز وجل.

ومساكن الجنة حضرة النبي يقول فيها:

(إن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها ـ شفافة ـ قيل لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن ألان الكلام وألقى السلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام).

هذه مساكن الجنة التي جهزها لنا رب العزة عز وجل، وكل من في الجنة يعرف ما في نفس الإنسان ويأتيه بما يريد بدون أن يتحرك لسانه، فلا أحدٌ هناك ينتظر حتى تطلب، فأنت نفسك في التفاح فالشجرة تتحرك إلى أن تأتي عندك والفرع يُنزل لك تفاحة.

تريد أكل تفاحة أخرى، فالأولى غير الثانية خالص، كل واحدة لها طعمها ولها رائحتها ولها عظمتها لأن الله عز وجل لا يُعطي لشيئٍ في الجنة طعماً واحداً لكل متشابه، كل واحد له خاصية خصَّه بها رب البرية عز وجل.

أريد أن أزور فلان في الجنة، وهذا شيئٌ في خاطري، السرير الذي أنا جالس عليه بدون أن أقول له شيئاً يتحرك من تلقاء نفسه ويأخذني إلى هناك، فالجنة هكذا لا تحتاج إلى أوامر فهي تعرف ما يخلد في نفس الإنسان وفكره لأن الله عز وجل سخَّرها لنا وخدَّمها لنا، لكي يطمئننا بأنه عز وجل لن يُخرجنا منها يوماً ليعلمنا أننا خالدين فيها، ولن نخرج منها أبدا:

“جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الانْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (12الصف).

المصيف اللي في الجنة هناك حضرة النبي يقول فيه:

سيكون لؤلؤة فيها سبعين غرفة على أنهار الجنة ـ يعني في الجنة مصيف هناك لمن لم يصيِّف هنا، ولكنه مصيف عالي والجنة عندما يدخلها ربنا يقول:

(إن لكم أن لا تهرموا أبدا ـ لا يهرم فيها أحد ويظلون شباباً على الدوام ـ لا يتبولون ولا يتغوطون ـ وبالنسبة للنساء ـ لا يحيضون ولا يتنخمون ـ كل من يضايقنا في الدنيا غير موجود هناك ـ قالوا: يا رسول الله ما بال الأكل كيف يخرج؟ ـ أي كيف تخرج الفضلات؟

قال: تخرج رشحات عرقٍ رائحتها كرائحة المسك، لأن ثمار الجنة ليس لها فضلات، وإذا حدث يخرج عرق له رائحة طيبة كرائحة المسك، ويمكن هذه الصورة ربنا أراناها ونحن في الدنيا في حضرة النبي:

كان صلى الله عليه وسلَّم وهو في الدنيا ـ كما يحدث لنا في الجنة ـ عندما يعرق عرقه كان رائحته كرائحة المسك، وكان عندما يعرق ويشتد العرق كان يذهب عند السيدة أم سليم ـ وكانت من كبار الصالحات من الصحابة المباركين ـ كان يقيل عندها في وقت الظهيرة.

وذات يوم إستيقظ فوجدها تمسك بمناديل وتمسح بها العرق وتعصرها في زجاجات، فقال لها: ما هذا يا أم سليم؟ قالت: نساء الأنصار يطلبن عرقك ـ يريدون عرقك ـ قال سليهنَّ: وماذا يصنعن به؟ قالت: يقلنَ نُصلح به طيبنا وهو أطيب الطيب).

عندما نشتري طيباً وتكون رائحته غير جميلة نضع فيه قطرات من عرق حضرة النبي فتكون رائحة زكيَّة ليس لها مثيلاً أبداً ـ نُصلح به طيبنا وهو أطيب الطيب.

جاءه رجلٌ ذات مرة وقال له: يا رسول الله أنا أريد أن أُزوج إبنتي خطبها خاطب وليس عندي شيئٌ أجهِّزها به، فقال له: نحن ليس عندنا شيئٌ الآن، ولكن هات زجاجة فارغة، فجاءه بزجاجة فارغة فأخذ صلى الله عليه وسلَّم يأخذ من عرقه ويضعه في الزجاجة حتى ملأها وقال له: ضعها في جهاز إبنتك.

وبعد أن تزوجت تاجر زوجها ففتح محل عطارة، وبُني على أي شيئ؟ يجلب العطور ويضع عليها قطرة مما في زجاجة حضرة الرسول صلى الله عليه وسلَّم وأصبح محله اسمه “بيت المطيبين” ـ يعني الجماعة ذوي الرائحة الطيبة ـ لماذا؟ من عرق الرسول صلى الله عليه وسلَّم.

ففي الجنة سيكون أهل الجنة خلودٌ بلا موت، وشبابٌ بلا هِرم لا يتبولون ولا يتغوطون ولا يتنخمون وإنما على ربهم عز وجل يتوكلون في كل أحوالهم.

وهذا للجسم ـ وماذا بعد ذلك؟

بعد هذه المتع كلها يتجلى رب العزة عليهم فيقول:

(يا أهل الجنة هل بقي لكم شيئٌ عندي؟ فيقولون: يا ربنا كيف بقي لنا شيئ وقد حصلنا وأعطيتنا كل ما نطلب وزيادة، فيقول الله تعالى: بقي لكم شيئٌ عندي: أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا).

فيحصلون هنا على:

“وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (72التوبة).

فيبقى عندنا آيتين من القرآن فيهما صلاح الدنيا وسعادة الآخرة وجلاء الأحزان وذهاب الهموم وذهاب الغموم، فلماذا نترك هذا الكلام كلام الرحمن ونمشي على هوانا ولا نعمل به.

نسأل الله أن يُفقهنا في ديننا وأن يُلهمنا رشدنا وأن يجعلنا عاملين بالقرآن، متبعين لسنة النبي العدنان موفقين في طاعة الله في كل وقتٍ وآن، وأن يرزقنا عز وجل التسليم لحضرته، والمراقبة لمقام عزِّته ويجعلنا إخوةً متآلفين متكاتفين متوادين ويُخرج من نفوسنا وصدورنا الأضغان والأحساد والأحقاد لإخواننا المسلمين وللخلق أجمعين.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمّ

 

  

       

 

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid