الحمد لله الذي منَّ علينا بعظيم مِنَنِه، وأولانا بعظيم ألطافه، وأتحفنا بجليِّ آياته البينات التي عجز عن حملها والإشارة عليها جميع الكائنات. والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الهُدى والرشاد، وفاتح أبواب القرب والوداد، لمن قبل ولمن بعد من جميع الأولياء والأفراد والزهاد العبَّاد.
صلوات الله وتسليماته عليه وعلى آله الذين تابعوه، وأصحابه الذين بايعوه، ومن تبعهم على هذا الهُدى والدين إلى يوم القيامة أجمعين، واجعلنا منهم واحشرنا في زمرتههم أجمعين، آمين آمين يا رب العالمين.
إخواني وأحبابي: بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين.
يُكثر القرآن – وهو كلام الرحمن – من لفت أنظارنا إلى ما في أنفسنا وإلى ما في الأكوان، ويأمرنا الله عزَّ وجلَّ دوماً في القرآن أن نوجِّه نظرنا إلى ذلك، سواءٌ كان بنظر العين الحسيِّة، أو عين القلب النورانية، أو عين الفكر الإعتبارية، أو عين الروح الإشراقية الذاكرة على الدوام لربِّ البريَّة عزَّ وجلَّ.
يعني أنت ليس لك عينٌ واحدة، ولكن لك عيون: عينٌ ترى في الآثار، وعينٌ في القلب تشهد بها الأنوار المبثوثة في هذه الآثار، وعينٌ في الفؤاد تشهد بها إذا صفيت حضرة النَّبِيِّ المختار، وعينٌ في الروح تشهد بها إذا اجتزت وجُزت المراتب العُليا تجليات الله عزَّ وجلَّ التي يتجلَّى بها على جميع الأماكن والأقطار.
عيونٌ موجودة في الإنسان، لا تُفكّ إلا بمفتاح القرآن والمهندس الخبير الأعظم الذي يتولى تشغيلها وفك أقفالها وهو النَّبِيُّ العدنان صلى الله عليه وسلم. لا يوجد غيره – ولا يوجد مهندس تقليد – وهو مهندس واحد فقط،ـ ما هو اسمه؟ الخبير: ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ (59الفرقان).
من هو هذا الخبير يا أحباب؟ سيدنا رسول الله صلى اله عليه وسلَّم ـ خبير في أى شئ؟!! خبير في علوم الذات الإلهية، خبير في الحقائق الروحانية، خبير في الألطاف الخفية التي ركَّبها فينا ولنا وهي مبهرة لمن يمُنّ الله عليه ويُشغِّلها له خير البرية صلى اله عليه وسلَّم. وهو الذي معه سرُّ التشغيل، ولذلك ربنا ماذا يقول له؟ كلهم معهم هذه العيون ولكنك أنت الوحيد الذي يُشغِّلها: ﴿وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ (175الصافات).يبصورون الغيب المكنون، ويبصرون الأسرار الإلهية، ويبصرون الحقائق الربانية، إذا شغَّل هذه العيون سيدنا محمد خير البرية صلى اله عليه وسلَّم.
وإن كان هو صلى اله عليه وسلَّم معه أيضاً صبيان أمثالنا يعلمهم هذه الصنعة، ويعطيهم الإذن لكي يقوموا بهذه المهمة النبوية إرثاً من خير البرية، يعطيهم التوكيل، ولكن لابد وأن يكون معهم إذن من صاحب التوكيل الأعظم عن الله عزَّ وجلَّ في الأكوان والزمان، سيد أهل العرفان، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
لكن ربنا دوماً يوجهنا، أحياناً فيقول لنا: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (101يونس). وهذه متاحة للكل، فعين الحسّ هذه ترى ما في السماوات والأرض على قدرك، وعلى قدر حدود نظرك من الكائنات الربانية، التي تدُّل على عظمة القدرة الإلهية.
وأنت تأكل – لا تأكل وأنت غافل – عندما يُوضع الطعام أمامك تتوه، كيف تكوَّن؟ وكيف نشأ؟ وكيف نمى؟ وأخذ كم دورة حتى وصل عندك وأصبح طعاماً هنيِّاً سائغاً للآكلين وللشاربين؟
﴿فَلْيَنْظُرِ الانْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (24عبس). ينظر إلى الطعام في دورته من البداية: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلانْعَامِكُمْ﴾ (25: 32عبس).وهل يريد ربُّنا من هذه الأشياء شيئاً؟ لا، خلقها لنا نحن جماعة الناس، هذا الرغيف الذي يأتي أمامك، عندما تتأمل كيف وصل إليك؟ حضرة النَّبِيِّ يقول: عمل فيه ثلاثمائة صنفاً من الملائكة حتى وصل إليك.
وهؤلاء الملائكة: منهم من جاء له بالماء، ومنهم من جاء له بالهواء وهو حبة في الأرض، ومنهم من جاء له باللون، ومن جاء له بالطعم، ومن جاء له بالرائحة، وكل واحد منهم له وظيفة، ومن جاء له بالستر، ومنهم من حفظه من الآفات، ومنهم من صنع له غلافاً خارجياً لا يستطيع أحدٌ من الأولين والآخرين أن يصنعه!!
خذ أى غلاف لأى نبات من الباتات ـ من الذي يستطيع أن يصنعه؟ من الذي يقدر أن يضع لواحدة من فاكهة اليوسفي غلافاً مثل الغلاف الذي خلقه لها ربُّ العزِّة عزَّ وجلَّ ؟ أين هو؟ لغلاف واحدة من اليوسفي؟!! لو جاء في يومٍ وعمل اضراباً ولم ينتج أغلفة، هل نستطيع أن نصنِّع هذه الأغلفة؟ أبداً، لأنها أغلفة لها مهام كلَّفها بها الملك العلام عزَّ وجلَّ. وعندما تفتحها تجد هناك خيوطاً واصلة بينها وبين الفصوص، تُوصِّل الماء وتُوصِّل الغذاء، وتُوصِّل كل ما تحتاجه من هذه الطلبات، كالحبل السُرِّي في بطن الأم الذي يُوصِّل للجنين كل طلباته وهو في بطن أمه.
عندما تنظر للأغلفة فقط مثل غلاف البطيخ أو غلاف الشمام أو غلاف المانجو، أو غيره تعجب من صُنع الله جلَّ في عُلاه، من الذي يستطيع أن يُصنِّع هذه البضاعة؟!! فعندما يأكل الإنسان لا يأكل وهو غافل، يأكل وعينه تنظر إلى فضل الله في هذا الطعام، وينظر أيضاً في نفسه: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (21الذاريات).
وفي كل هذا أنت محتاج إلى أدوات لها، أدوات للطعام: أسنان تقطع، وأضراس تطحن، ولسان يتذوَّق، وأنف يُشوِّق الإنسان إلى الطعام،ـ ما الذي يُشوِّق الإنسان إلي الطعام؟ الرائحة، الأنف، وكذلك عين تجعل اللعاب يسيل لأكل هذا الطعام، فعندما يرى الطعام بالعين، اللعاب يبدأ على الفور يتجهَّز حتى يستقبل الطعام ويبدأ مسيرة الهضم.
وقدَّر ربُّ العزِّة عزَّ وجلَّقناة واحدة، يمشي فيها الهواء ويمشي فيها الطعام، وعليها عسكري مرور صنعه الحقُّ عزَّ وجلَّ ملتزمٌ إلتزاماً تاماً، ممنوع واحد يمشي بدون خط سير، وإلا تحدث كارثة لهذا الإنسان، أليس كذلك؟ لو لقمة دخلت في طريق القصبة الهوائية، ماذا يحدث؟ يضطرب ويحشرج ويُصاب الإنسان بأزمات لا عدَّ لها ولا حدَّ لها. من الذي يُنظِّم هذه الأشياء وهذه الأعضاء؟ هل أنت؟!! حتى لو لم يمُنُّ عليك بها فلن تستطيع تحريك هؤلاء، ولا تستطيع أن تُنزلهم، ولا تستطيع أن ترفع يدك هذه، ولا تستطيع أن تُخفضها!! كيف ترفعها؟ بتحريك المُحرِّك وقدرة القادر عزَّ وجلَّ.
فأنت شغال بأى شيء؟ بقدرة الله، كما كان يقول الرجل الصالح: أنا آلة والله جلَّ الفاعل، هو كالآلة:
أراني كالآلات وهو مُحركِّي أنا آلة والله جلَّ الفاعلُ
من يدهن أى دهان مهما كانت مهارته في الصنعة ومهما اخترنا له الأدوات التي يستخدمها، وكانت المواد التي يستعملها من أرقى الأنواع، بعد قليل لابد وأن يغيِّر لونها، أليس كذلك؟ لكن الدهان الذي اختاره الله عزَّ وجلَّ على حالته على الدوام، فلو حصل تغير في نقطة واحدة، الأطباء يتحيروا، والحكماء يتحيروا كيف يعالجوها؟ وكيف يصنعوها؟ فما هي القوة التي تحافظ على هذا المنظر العظيم؟ وعلى هذا اللون عديم النظير؟
الخلايا التي تحت الجلد كيف تعمل؟ ومن الذي يُشغِّلها؟ وهل يوجد من يستطيع أن يوقفها؟ كل من يعمل فيك هو من خالقك وباريك عزَّ وجلَّ.
وتُنزل الطعام، وكلَّف هو كل جهة من الجهات تخرج شيئاً يهضم الطعام!! شيءٌ يهضم العيش والميكرونة والنشويات، وهي موجودة هنا في اللعاب، وشيءٌ يهضم السكريات وهي موجودة في البنكرياس، وشيءٌ يهضم الدهون والطعام السمين وهي موجودة في المرارة، كل شيءٍ يخرج معين على هضم الطعام، وينتظرون حتى ينزل الطعام إلي المعدة وكل واحدة منهم تُخرج مادتها بقدرٍ معلوم، بعد قياسات الحيُّ القيوم.
هذا الطعام ماذا يحتاج؟ هم يُخاطبون بعضهم، ونحن لا ندري ولا نرى ولا نعرف، يقولون: نحتاج قليل من اللعاب لأنه أكل اليوم نشويات كثيرة، أو نحتاج كثير من الأنسولين لأنه أكل اليوم حلوى كثيرة، نحتاج قليلاً من العصارة المرارية لأنه أكل اليوم دهوناً كثيرة.
تنزل كل هذه العصارات إلي المعدة ويأذن الله بحركة المعدة، من منا يتسطيع أن يُؤخِّر هذه الحركة نصف ساعة؟ هل يوجد من له دخلٌ في ذلك؟!! لا،ـ إن كان ينظر إلي الطعام فيرى قدرة الله عزَّ وجلَّ العُظمى في عنايته بالإنسان، هيأ له ما يحتاجه في الأكوان، وأتي له بكل ما يلزم هذا الكيان، وهيأ هذا الكيان لهضم كل شيءٍ تستلذه ويريد أن يأكله الإنسان، والذي يُحرِّك الداخل والخارج والكل هو حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ. ولذلك ربنا قال لنا: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ (54طه).
وأنت تأكل تنظر وتراعي هذه النعم، فتشكر الله عليه، وهذا الشكر واجب، وهذا هو المطلوب من العبد المؤمن في كل وقتٍ وحين، فينظر لما في السماوات والأرض فيرى قدرة الله، ينظر في المخلوقات التي خلقها الله ليرى عجائب صُنع الله:
﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ – لأى شيءٍ يا ربِّ؟ – إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (17: 21الغاشية). لماذا لا ينظرون إلى كل هذه الأشياء التي حولهم؟ حتى يروا عظمة الله وبديع إبداع صُنع الله جلّ في عُلاه.
حضرة النبي يا أحباب كان على الدوام – في بداية الدعوة – كانت الدراسة الأولى المكلف بتدريسها لأصحابه هي هذه الآيات، فعنده سبورتان: سبورة الأكوان ويلوح فيها كل بضاعة الله وصُنع الله في الأكوان. وسبورة الإنسان فيرى عجائب الله عزَّ وجلَّفي الإنسان، كان يُوضِّح لهم في هذه، ويُلمح لهم في الأخرى، حتى قال سيدنا عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: (تركنا رسول الله صلى اله عليه وسلَّم ، وما من طائرٍ يطير في السماء بجناحيه إلا وذكر لنا عنه علماً)[1].
لا يوجد طائرٌ يطير في السماء إلا وشرح لهم عجائب قدرة الله في هذا الطائر، من الذي علَّمه؟ الرحمن عزَّ وجلَّ ، علَّمه كل ذلك: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (53فصلت) فنحن نحتاج كلنا يا إخواني إلى النظر باعتبار إلى هذه الآثار.
بعد النظر بالإعتبار، الإنسان سيذكر الله ذكراً فيه حضورٌ مع الله، شكراً لله على هذه العطايا كلها التي سخَّرها للإنسان. إذا ذكر الله وشكر الله على عطاياه، انفتحت عين البصيرة، ورأى الأنوار المبثوثة في كل خلق الله، ورأى كل شيءٍ في الكون فيه نور.
سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه عندما كان في هذه المرحلة، يقول: كنت في الصحراء فرأيت كل شيءٍ في الوجود نوراً، ورأيت ذرَّات الرمل كلها نور، وأراد الله عزَّ وجلَّأن يردَّه إلي بشريته للكمال ـ قال: فأخذني حصر البول فاحترت، هل أتبوَّل على أى شيءٍ فكل شيءٍ نور، فقلت: يا ربِّ احجبني عن هذا المشهد، فنُوديت: لو سألتنا بكل أنبيائنا ورُسلنا ما حجبناك، ولكن سلنا أن نُقوّيك. فقوانِّي الله عزَّ وجلَّ،فشهدت المشهدين بالعينين، عين الرأس ترى المظاهر، وعين القلب ترى نور الله المكنون في هذه المظاهر.
نسأل الله أن يمُنّ علينا بالعلوم الوهبية، والأحوال النبوية، والأعمال المرضية، وأن يجعل حياتنا كلها نقاءٌ وصفاءٌ، ونورٌ وضياءٌ وبهاءٌ، بنور سيِّد الرسل والأنبياء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمّ
*********
[1] روى الطبراني عن أبي الدرداء قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في السماء طائر يطير بجناحيه إلا ذكرنا منه علما.
مسجد أبو دوح ــ طفنيس المطاعنة ــ الأقصر ــ بعد صلاة العشاء