بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله الذى أثلج صدورنا بسماع القرآن، وفتح كنوز عقولنا لفهم معانى القرآن، وجعل فى قلوبنا نوراً نستنزل به فيض فضل الله عزوجل فى هذا البيان. اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على من كان صورة القرآن فى أفعاله وأخلاقه وسلوكه وأحواله، سيدنا محمد الذى قال الله عزوجل فى شأنه لحسن أدبه مع كتاب ربه:
} وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ { (4القلم)
وقالت فيه السيدة التقية المباركة زوجه – عندما سئلت عن أخلاقه – قالت: {كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْانَ}[2]. صلَّى الله عليه وعلى آله الذين مشوا على منواله، وعلى صحابته الذين شاركوه فى أحواله، وعلى الأتقياء الأنقياء من أتباعه الذين حذوا مثاله إلى يوم الدين، واجعلنا منهم بفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
القرآن الكريم هو الدستور الإلهىّ الذى نزَّله لنا وإلينا المولى عزوجل، وعندما نهتدى بهديه – كما كان يفعل السلف الصالح من أصحاب حضرة النبى صلى الله عليه وسلم، ورضى الله تبارك وتعالى عنهم – سيغيِّر الله حالنا إلى أحسن حال، وسنصير فى نعم وأُلفةٍ ليس لها زوال.
نحن كل التغير الذى حصل فى حياتنا، وانسحب على أفعالنا وسلوكياتنا، لأننا تناولنا القرآن بغير الكيفية التى كان يتناولها به أصحاب النبى العدنان!!! المحسنون منا جعلوه كتاب تلاوة للتعبد، نعم هو ينفذ الحديث الذى ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم:
هذا الكتاب كله بركة، لكن لا نتوقف عند البركه، نضعه فى السيارة بركة! فى غرفة الصالون بركة! وهو مغلق لا نفتحه!! فالبركة فى التدبر، والله عزوجل – وهو العلىُّ العظيم – من فضلهِ وجودهِ وكرمهِ على المؤمنين يسَّر تلاوة القرآن وفهم القرآن لجميع أمة النبى العدنان، حتى الأميين منهم، حتى الذين لا يستطيعون أن ينطقوا بفصيح اللسان العربى!!
لم يقل (هل من تالى)!! (هل من قارئ)!! لأن الغاية هى التدبر والتمعن وحسن الفهم مع صفاء الذهن؛ ومع صفاء القلب والفؤاد يكون وصل للمعانى بدون هوي فى نفسه، ولا رغبه كامنة فى فؤاده، ولا أثر للفكر الموجود فى عقله، ولكن ليفهم القرآن من منزل القرآن عزوجل.
تدبر القرآن
فجعل الله عزوجل القرآن ميسَّراً حتى لمن لا يقرأون العربية ولا يفهمون العربية، وإن كان فيكم من ذهب لبيت الله الحرام وتري الجماعه الأفارقة والغير عرب، وتلقى عليه السلام ويرده عليك، لكن لا يستطيع الكلام معك – ويمسك الكتاب المكنون الذى فيه نورُ الله المصون، وعِلْمُه عزوجل المخزون، يمسكه ويقرأه بلغة عربية فصيحة!! لا يعلم العربية ويقرأ، وتجد دموعه تنزل من عينيه على سحنتيه، وهذا دليل على أنه فهم القرأن، وتأثر بالقرآن، سِرَّ قوله تعالى:
الجماعة الموجودون عندنا، الذين يأتون فى رمضان ويجعلوه موسماً لقراءة القرآن ويتبارون مع بعضهم: لقد أنهيت خمس ختمات، والآخر: لقد أنهيت عشر ختمات، لكن ماذا فهمت مما نطقته من كتاب الله؟!! ربنا يعاتب من يقرأ القرأن بدون تدبر!! فيقول: } أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ { (24محمد). لماذا لا يتدبرون القرآن؟!!! وانظر إلى الكلمة الصعبة القادمة: { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { (24محمد). قلوبهم مغلقة لا تستطيع فهم معانى كلام حضرة الرحمن عزوجل!!! وهل القلوب – يا أحباب – لها أقفال؟!! نعم.
لذلك سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه – وكان من الأئمة العظام فى كتاب الله، واصَلَ التدبر والتمعن فى تلاوة كتاب الله جلَّ وعلا حتى يسَّر الله له التلاوة، وطوى له الزمان أثناء التلاوة، كان يقرأ القرآن كلَّه من أوله إلى آخره فى ركعتين بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء، فكيف هذا؟!!! لكن وما ذلك على الله بعزيز، لأن هؤلاء القوم لهم ما يشاؤون عند ربهم. كان يقول: (لو طهرت القلوب ما شبعت من كلام علام الغيوب). ما الذى يمنع التدبر؟ الفتحات والأعضاء التى تورد للقلب – من عالم المُلك الذى نحن فيه – ما يشغله عن خالقه وباريه!!!
سلامة القلب والأخوة الإيمانية
القلب خلقه الله عزوجل وجعله لذاتهِ، لتجلياتهِ ولتنزلاتهِ، ولعلمهِ الإلهامى ولفيوضاتهِ، ولأسرار كتابه ولأنوارِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحبابه. هو معدٌّ لهذا الأمر!! لا يجوز للمؤمن أن يدخل فيه الدنيا والمشاكل، والمشاغل والأهواء، والحيل والمكر والدهاء، كل هذا لا يجوز فى قلب المؤمن أبداً, وكان أحرص ما يحرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه سلامة القلوب، لأن الله عزوجل بيَّن فى قرآنه أن الذين يقبلون على الله، فيقبل عليهم الله ويواليهم بألطافة وفتحهِ، هم الذين يقول فيهم الله:
يعنى قلب ليس فيه شك ولا شركٌ ولا منازعه للربوبية فى حضرة الألوهية، بل تسليم مطلق لحضرة الحق. وليس فيهِ غلٌ ولا حقد، ولا حسد ٌ ولا بغضٌ ولا كره، لأحد من خلق الله. مَنْ المؤمنون عندك يا رب ؟ من لهم مكانه ومنزلة عند الله!!! {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } عندما ينزع من صدورهم الغِلُّ، يصبحون } إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ { (27الحجر). كأن من عنده غلٌّ أو حقد، أو كُرْهٌ أو حسد، لم يصل إلى درجة الأخوة الإيمانية القرآنية.
نريد مزيداً من التفسير؛ نرجع للمذكرة التفسيرية التى وضعها خير البرية فى تفسير الآيات الإلهية، { لا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَلا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ بَعْضٍ }[4]، و {لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا ، وَلا تَدَابَرُوا } ، وبعد ذلك { وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا }[5]، اذا تركتم ماسبق تكونوا إخوانا وهذا يعنى تحبوا بعض ، ونسعى فى مصالح بعض ، ونشفق على بعض، ونعطف على بعض ونتعاون مع بعض ، ولذلك عندما ترى الخلافات والمشاكل، فهم لم يصلوا للأخوه الإيمانيه ، لأن الأخوة الإيمانية جعلها الله عزوجل فى درجة علية وأشترط فيها خلو القلب من جميع مايضير وما يسئ لجميع البرية ،ثم خلو القلب من الشوائب الكونيه ، لأن الذي يعمل بالله لا بد أن يعلم علم اليقين أن الله سيتولاه وهو يتولى الصالحين . فممن يخاف ، إذا كان يقول فى حديثه القدسى:
{ قد رزقت من غفل عني وعصاني فكيف لا أرزق من أطاعني ودعاني }[6]
إذن من أين المصيبة ؟
من الشك! أفى الله شك ؟ الشك فى الرزق شك فى الرزاق عزوجل. حسن التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب يجعل الإنسان فى رعاية الله وعناية الله على الدوام . فإذا طهر القلب وجدت فيه بضاعة الإيمان ، يأتى للصلاة يلبسه القلب حلة الخشوع والحضور, ويصلى خاشعاً لله وهى الصلاة التى امتدحها الله فى أول سورة المؤمنون ، الذين هم فى صلاتهم هل قال: يطيلون فى الركوع والسجود؟ أو يطيلون فى القراءة ؟ لا هذا ليس له خاصة ولكن:
لذلك يقول ربنا: } يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ { (31الأعراف)، فكيف؟ نلبس الجديد ونضع العطر؟!! لا، بل إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم , لكن إلى ماذا ينظر؟ ينظر إلى القلب بالهيئة التى ستقابل بها الله؛ هو يريد الخشية والخشوع والحب لله الذى لا شريك لهُ معهُ سواه , وحسن التوكل على الله، والتسليم فى جميع الأمور لله. عندما يصلى الإنسان الصلاة بهذا الخشوع يجد فى الصلاة فتحاً من الله، يجد فى الأيات التى يقرأها تنزلات لمعانى لم يسمعها من أحد من خلق الله!! أريد أحداً يقول لى من أيِّ كتاب تفسير قرأ الصحابة؟!! هل كان موجود تفسير مكتوب؟!! ويقول الآخر: مكتبة الصحابة الأجلاء كان فيها كم من الكتب؟ هو كتاب واحد!! كتاب الله عزوجل.
لكن عندما نسمع أخبارهم وأحوالهم، من أين جاءوا بهذة العلوم؟!! وكيف وصلوا للحقائق ؟!! يأتى سيدنا على يقول فى واحد منهم – سيدنا عبد الله بن مسعود مثلاً – يقول: (عبد الله ملئ علماً من رأسه إلى أخمص قدميه). تخرج من أى كلية عبد الله؟ من كلية: } مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ { (29الفتح). لم يدخل جامعة مفتوحة ولا مغلقة من الجامعات الدنيوية، لكن فى الجامعة الإلهية!!! والإمام علىٌّ نفسه يقول: (لو فسرت فاتحة الكتاب بما أعلم – مما علمه لى ربى – لوقرتم سبعين بعيراً؟)، تحملون سبعين بعيراً كتب فى تفسير الفاتحة. من أين ذلك يا إخوانى؟ من: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ 3{ (282 البقرة). تقوى الله، ويعلمهم الله من علمه المكنون.
تربية الأبناء على الصفاء
لكنهم حافظوا وحافظ لهم النبىُّ على صفاء القلوب، هذا هو الأهم. وكان يحرص على ذلك حتى للتلامذة الجدد الصغار فى السن، سيدنا أنس بن مالك دخل على حضرة النبى وكان عنده عشر سنين، وأمة كانت من كبار الصالحات – السيدة أم سليم رضى الله عنها وأرضاها – كانت قد نذرت إن أعطاها الله ولداً تهبه خادماً للكعبة، وهذا قبل الإسلام وقبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلم، وعندما هاجر النبى وشرح الله صدرها للإسلام؛ أتت بأنس وقالت: يارسول الله، إنى نذرت نذراً إن وهبنى الله غلاماً أجعله خادماً للكعبة، واليوم أوفى بنذرى وأجعلة خادما لك)، جعلته خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت له: أريد أن أطمئن عليه، فدعا له النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقال:
فعاش أكتر من مائة عام، وله اكثر من ثلاثة وستين ولداً غير أحفاده, وكان مالُةُ من فضل الله عليه، كانت حديقته هي الفريدة الوحيدة التى تنتج فى العام مرتين، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له.
هذا الرجل عندما استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
وهى البداية يا أحباب!! بداية النبى مع من؟ مع المبتدئين فى طريق رب العالمين. وانظر ماذا نفعل نحن الآن؟!! إن الرجل والمرأه يلقنان الولد أن عمك فلان عمل كذا وكذا، وعمتك فلانة عملت كذا وكذا؛ يكبر الولد ولا يريد أن يرد السلام على عمه، وبالطبع لا يريد أن يفعل له أى مصلحة، ولا يحترمه ولا ويوقره، لماذا؟ لأن الأب والأم لقنوه!!! هل هذا مبدأ الإسلام يا إخواني؟!! لا، مبدأ الإسلام ليس كذلك!!
بركة سلامة القلوب
لو حافظنا على سلامة القلوب، حفظنا الله عزوجل من العيوب، ثم بعد ذلك حفظنا من الذنوب، ثم بعد ذلك نزَّل لنا خيره المبارك من السماوات ومن الأرض، وأغنانا عن جميع خلقه؛ هذا كلام الله وليس كلامى!!
ونحن محتارون كلنا كيف سنعيش؟ وما الذي نفعله والأرزاق شحيحة والخيرات قليلة؟!! وكلام الله واضح .. (لو آمنوا واتقوا) .. لم يقل سيفتح لكم خيرات، بل قال: (بركات)، والبركة إذا نزلت فى القليل سيتحول إلى كثير، وهذا ما علَّمه الرسول للصحابة الكرام. لم يعلمهم أن يبحثوا على الكثرة، بل (البركة)، لأن البركة إذا أتت فحدِّث ولا حرج، وحكاياتهم فى هذا المقام إذا مكثنا هنا لقيام الساعه لانستطيع أن ننهيها أو ننتهى منها!!!
سيدنا أبو هريرة رضى الله عنه وأرضاه، سيدنا رسول الله أعطاه جراب جلدٍ وبداخله التمر، وقال له: كل منه ولكن لا تفتحه وتنظر ما فيه، وخرج مع جماعة فى إحدى الغزوات؛ جماعة من أصحاب الرسول بعثهم فى بعث. ولما مشوا نفد الزاد، ولا يوجد غير الجراب الذى مع أبي هريره, واستمروا خمس عشرة يوماً وكان الجيش حوالى ثلاثمائة فرداً يعيشون على تمر الجراب، كان يعطى كل واحد فى اليوم تمره يأكلها فيشبعه الله ولا يحس بالجوع ابداً. وهذا مثل من الأمثلة لكن هذا الباب ليس له حد. ولا أحد يقول إن هذة النماذج إنتهت من الدنيا، كلاَّ هى موجودة والحمد لله، لكن من الذى يعيش بها؟ الصادقون من الصالحين، لأن هذا قرار الله للمؤمنين.
قدَّر الله – وهو قدير – لغير المؤمنين أن يأكلوا من الأسباب بغير دعم من حضرة الوهاب، وقدَّر الله للمؤمنين أن يرزقهم من الأسباب ثم يضيف لهم دعماً من كنوز الوهاب:
هذه لمن؟ لنا نحن خاصة، بينا نحن بمن ؟ بمن يتقى الله } وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا( 2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { (الطلاق)، من طريق لا يعلمه ولا يتقنه، ليعلم أن الله يتولاه، وأن الله عزوجل يتكفل به ويرعاه، وأن الله عزوجل يواليه دوماً لأنه يتقى الله، فيشكر الله فيزيد فى تقواه لله عزوجل.
قراءة الصحابة المباركين للقرآن
وهؤلاء الجماعه سيدنا رسول الله علمهم كيف يقرأون القرآن؛ وسيدنا عبد الله بن مسعود يقول عن الطريقة التى ساروا عليها لكى نتعلمها: (جعلنا القرآن الكريم رسائل ربنا إلينا) – رسالة أرسلها الله لنا – (فكنا نقرأه ونتدبرة بالليل ثم ننفذه بالنهار)، لا يقرأ الرجل منهم جزءً أو أكثر، لكن يقرأ آيات أو آية واحدة ولا ينتقل منها إلا عندما يطبقها فى حياته وفى سلوكه، وفى عمله وفى بيته، بين أحبابه وبين جيرانه … يصدقها فى المجتمع ليكون صورة من كتاب الله عزوجل.
والله عزوجل نبَّه المؤمنين وأرسل لنا رسالة تنبيه صغيرة مع سيدنا داوود، وهو أحد أنبياء الله السابقين والذى كان مشغولاً بالعبادة، والعبادة الخاصة بة وقت ما يناجى الله كان يتغنى ويتلذذ بالعبادة، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قال: { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ }[9]، وأن تقرأ بترنم لا تقرأ قراءة جافة، عندما سمع ذلك كان يمر عليهم الرسول فى الليل ويراهم وهم يقرأون القرآن ويقول:
وكذلك أصحاب رسول الله؛ سيدنا أبو بكر رضى الله عنه فى مكة صنع لنفسه غرفة فى مدخل البيت يترنم فيها بالقرآن؛ الكافرون والنساء والصبيان والعبيد وقت ما سيدنا أبو بكر يبدأ التلاوة يتجمعوا ويتركوا ما معهم ليسمعوا سيدنا أبو بكر رضى الله عنه فى تلاوته للقرآن، لأنها تلاوة من عند الله.
فسيدنا داوود، قال الله تعالى له:
{عبدى يأتيك كتاب من قريب لك وأنت فى الطريق تمشى فتجلس إليه وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً، وهذا كتابى إليك .. أفكنت أهون عندك من بعض أقاربك وأصدقائك؟!! عبدى يأتيك صديق لك يتحدث معك فتقبل عليه بكل وجهك، وتصغى إليه بكل أذنك، وها أنا ذا متحدث معك .. أفكنت أهون عندك من بعض أصدقائك؟!!}[12].
من يقرأ القرأن يناجى الرحمن!! قال صلى الله عليه وسلم:
وكما قلت كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يمر فوجد سيدنا أبو بكر يقرأ بصوت هادىء، وسيدنا عمر يقرأ بصوت عالى، وسيدنا بلال يختار آيات – لا يقرأ بالترتيب – آيتين من هنا وأخرى من هنا؛ وكان هذا المرور ليلاً، هو يتابعهم ليشتغلوا بخالقهم وباريهم، ولتزيد أنوارهم وأسرارهم، وتزيد علومهم وكل أحوالهم العلية من ربِّ البرية عزوجل.
فأتى الصبح ليراجع ما حصل ليلاً، مثلاً من رأى رؤيا بالأمس ويحكى له، ماذا فعل هذا وهذا؟ إمام يربى هؤلاء على التربية الإلهيه صلى الله عليه وسلم. فقال لأبى بكر: لِـمَ تقرأ القرآن بصوت خافت؟ قال: لأسمع من أناجى!! أنا عندما أقرأ أسمع الله وهو يقرأ كلامه. وعندما نقرأ كلام الله نجد فيه العجب!! وعندما شيخنا بارك الله فيه يقرأ لنا:
جعله الله عزوجل ينطق بلسانه بالنيابة عن حضرة الله، لكن المتحدث والناطق هو الله جلَّ فى علاه. والصالحون يقرأون كلام الله وهم على يقين أن الذى يُسمعهم داخل قلوبهم أثناء التلاوة هو الله عزوجل.
قال صلى الله عليه وسلم: وأنت يا عمر ِلِـمَ تجهر بالتلاوة؟ قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان؛ لأطرد النوم القادم، والشيطان .. لا يوسوس لى.
وأنت يا بلال لِماذا تنتقى الآيات؟ قال: لأخلط الطيب بالطيب!! سيدنا بلال كان يختار آيات الجنة ويضعها مع بعضها، كان لا يحب آيات جهنم وكذا، هل هناك مانع؟ لا. فأقر الجميع على ذلك. فكانوا يكتفون بتلاوة آيات مع التدبر ومع التأنى، ولم يكن هناك مانع أن يقرأ الفرد منهم الليلة كلها بآية!! لأنهم علموا أن النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أخذ ليلة كاملة يرتل آية واحدة من كتاب الله:
ليلة كاملة مع آية واحدة!! ولا قبلها ولا بعدها، لماذا؟
لأنه عاش فيها!!!
حتى سيدنا عبد الله بن عمر قال: كان من يحفظ البقرة من أصحاب النَّبِىِّ يُدعى عظيماً. يأخذ لقب عظيم!
لقب باشا من ألقاب هذه الأيام، وهي كلمة تركية تعادل عظيم فى اللغة العربية، وأعطوه لقب عظيم لأنه لا ينتقل من آية لآية إلا إذا اتقن الآية الأولى علماً وعملاً، وأنزل الله عزوجل عليه أنوارها، وأفاض عليه علومها وأسرارها، وأحاطه علماً ظاهراً وباطناً بأخبارها، ثم ينتقل إلى الآية الأخرى. على هذة الكيفية إنتشر القرآن فى مدينة النبى العدنان والدولة الإسلامية.
والقرآن جعل الله للمسلمين فيه ذكر الصفات السيئة التي لا يحبها الله من عبادة المؤمنين، عندما يهضم المؤمن هذه الآيات لو سولت له نفسه فعل هذة السيئات أو واحدة منها سوف ينتفض ويرتعد، كيف سيخالف كلام الله؟
كيف سيمشى وهو يعلم ومتأكد تماماً أنه بهذا العمل سيكون بعيدا عن الله؟
لأنه لو كان مؤمناً يعلم أن الله مطلع عليه، ويرى حركاته وسكناته، ويطلع على خلجات صدره، ويعلم خفايا القلوب، فكيف يفعل شيئاً مثل هذا؟!! يرى أن الله مطلع عليه ويراه عليه!! سيستحى من الله أن يعصى الله عزوجل.
هذه الآيات كلنا نسمعها، ولا ينفعل بها إلا من يتدبر ومن يتذكر، ومن يصفى القلب من القاذورات والأغيار ويملؤها الله عزوجل بالأنوار، ويبدأ القلب فى هذه اللحظات مثل إشارة المرور الإلهية – التى نراها فى الكون – عندما نقترب من معصية .. اللون الأحمر ينير، يعلم أنه سيقع فى ذنب فيرجع عنه، يريد أن يمشى فى طريق؟ اللون الأخضر تنير ويعلم أن الطريق سليم، أو الأحمر ينير يعلم أنه غير سليم، لأن الله جعل له نوراً فى قلبه:
والفرقان هنا يا إخواني بمعنى ميزان، ويقول فيه النبى العدنان صلى الله عليه وسلم: { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ }[15] – وفى رواية:
{ احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ، وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ }[16]، لأن الله يؤيده على الدوام.
عندما يقرأ .. النور من الآيات التى سمعناها اليوم يجد فى الآية: } كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ {، وهنا فيه وقف، وكل هذا سيئات!! وكيف يقع فى السيئات؟!! سيحفظه الحفيظ عزوجل.
يريد أن يكون من الجماعة الأخيار والأبرار والأطهار، ينظر فى صفحاتهم فى كتاب الله، ويعمل أفعالهم؛ مرة ينظر إلى عباد الرحمن، ومرة ينظر إلى:
سينظر إلى الصفات العظيمة ويتجمل بها، وسيتخلى عن المعاصى ويتجمل بما يحبه الله عزوجل من عباده، وهذا المقصد الأعظم لأى مؤمن يريد أن يخرج من الدنيا وقد فاز بفضل الله ورضوان الله وإكرام الله.
[6] ذكره ابن عطاء الله السكندري في “تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس”: { أيها العبد: أمرتُك بخدمتي، وضمنتُ لك بقسمتي، فأهملتَ ما أمرتُ، وشكّكتَ فيما ضمنتُ، ولم أكتف بقسمتي لك بالضمان حتى أقسمتُ، ولم أكتف بالقسم حتى مثّلت، فخاطبت عباداً يفهمون فقلت ] وفي السماء رزقكم وما توعدون. فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ (22،23الذاريات)، وقد رزقتُ من غفل عني وعصاني، فكيف لا أرزق من أطاعني ودعاني؟}.