Sermon Details

الحمد لله ربِّ العالمين، واحدٌ أحد، فردٌ صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُواً أحد. وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، نظر إلينا بعين قدرته، وأبصر ما فينا ظاهراً وباطناً بعيون حكمته، فركَّب لنا الدواء، وجعل فيه الشفاءن وأنزله على الحكيم الأعظم سيِّد الرسل والأنبياء، وجعل للمؤمنين أجمعين حياة سعيدة هنيئة في الدنيا، وحياة سامية عالية في الآخرة في الجنة، إن عملوا بكتاب الله، وتناولوا الدواء والشفاء من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، أجرى الله عزَّ وجلَّ الخير لهذه الأمة كلِّها على يديه، فإن مشوا على نهجه فازوا في الدنيا وسعدوا في الآخرة، وإن خالفوا هديه ضلَّ من مشى على هذا الهدي السيء في الدنيا، وكان له عذاب الخزي والهوان في الدار الآخرة.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على نبيِّ الهدى والصدق، الذي كان ينطق بالحقّ، ويبلِّغ رسالات الحقّ، ويمشي بين الأنام حاكماً بالحقّ، سيدنا محمد نبيّ الهدى والرحمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومحبيه وحزبه، وكلّ من اتبع هديه ومشى على دربه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
لِـمَ نَرَ معظم المؤمنين والمسلمين في هذا الزمان تائهين في أودية الدنيا!! لا يستطيعون أن يحصلونها من الحلال، فيلجؤون إلى دروب الحرام، ليوفروا رغباتهم ومستلذاتهم وشهواتهم وحاجاتهم، ويظنون أنهم بذلك يحققون السعادة لأنفسهم، فإذا بهم يجدون هذه السعادة تنقلب إلى شقاء، من أمراض في أجسامهم، ومن مشاكل في أسرهم، ومن مشاكل لا حدَّ لها في مجتمعاتهم؟!! مع أنهم يصلُّون ويصومون، ويتلون القرآن، ويعملون على قدر طاقتهم بسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.
أخي المسلم:
جعل الله عزّ وجلَّ لكل واحدٍ في الكون بيتٌ واحدٌ يؤويه، وطعامٌ واحدٌ يتناوله بِفِيه، من طيبات الأرض ومستلذاتها، وجعل لكل مؤمنٍ بييتين، ولكل مؤمنٍ طعمين، بيتٌ يسكن فيه مع أهله، ويأكل فيه ما يشتهي وتشتهه نفسه من طيبات الحياة الدنيا، وبيتٌ آخرٌ هو بيت ربِّه عزّ وجلَّ، يأكل منه – مِنْ الله مباشرةً – طعام المحبة، وزاد التقوى والخشية، ويكرمه الله عزّ وجلَّ في ضيافته فينزل على قلبه السكينة وبرد الطمأنينة، ويشرح صدره ويُيسر أمره فيمشي في الحياة، يعينه الزاد الذي أخذه من مولاه على كل مصاعب ومشاكل هذه الحياة، فيكون كما قال الله في الصادقين من عباد الله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (97النحل).
ولا تكون الحياة الطيبة إذا كانت حياةً ماديةً جافة فقط، لأن أغنى أهل الأرض في المادة والطعام والشراب والأقوات هم السويد والنرويج والدينمارك وأميركا واليابان. أكثر الناس في العالم – كما تُحصي الإحصائيات – في الأمراض النفسية والأمراض العصبية، وأكثر الناس انتحاراً. لماذا ينتحرون وعندهم كل شيءٍ يحتاجونه من الدنيا وشهواتها ولذاتها؟!! لأنهم فقدوا الزاد الذي يأخذه المؤمن مباشرة من ربِّ العباد، وقال فيه عزَّ شأنه: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (197البقرة).
إياك أن تنسى نصيبك من زاد التقوى. والتقوى هي خشية الله، وخوف الله، ومراقبة الله، والحضور مع الله، والحبُّ لله، وما يتبعها من الصفات الجميلة العظيمة التي ذكرها الله في كتاب الله، والتي كان عليها محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم والذين معه.
قد يسأل سائل: نحن والحمد لله ندخل المساجد، ودائماً كلُّ رجلٍ منا لله راكعٌ وساجدٌ، فلماذا لا نجد ما تتحدث عنه؟!!
لأننا لم نأتِ بالمواصفات التي ينبغي أن نكون عليها عند دخول هذه البيوت العامرات، فإن الله عزّ وجلَّ قال لنا في شأن هذه المساجد: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا﴾ (18الجن).
اجعلوها خاصة لله، ولذا قال حبيب الله ومصطفاه: (جنبوا مساجدكم صبيانكم)، أى الذين لم يبلغوا سبع سنين، ولم يعرفوا آداب الطهارة والوضوء وكيفية الصلاة – (جنِّبُوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وسيوفكم ورفع أصواتكم، وبيعكم وشرائكم)[1]. كل ذلك ينبغي أن يبتعد عن بيت الله، ويضاف إليه في عصرنا السياسة – بما فيها ومن فيها – ينبغي أن لا يكون في بيت الله إلا السياسة الشرعية التي أمرنا بها الله، وكلَّفنا بها رسول الله. سياسة النفس في طاعة الله، في أيتاء الزكاة، في صيام رمضان، في برِّ الوالدين، في الرفق بالزوجة، وغيرها.
السياسة الشرعية هي التي في مساجد الله عزّ وجلَّ، أما السياسة الدنيوية فتكون في الدنيا، والمسجد من الآخرة، قال صلى الله عليه وسلَّم: (المسجد بيت الله فمن جعل المسجد بيته جعل الله له الروح والريحان، وجعله يجوز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة)[2]. لأنه جعل المسجد بيتاً لله عزّ وجلَّ، ونزَّه نفسه عن ذكر سواه وقال الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في قومٍ رآهم بعين بصيرته في هذه الآنات ما معناه: (إذا كان آخر الزمان يجلس قومٌ من أمتي في المساجد يتحدثون في أمور دنياهم، فإذا رأيتموهم فلا تكلموهم).
إياك أن تأتي بالدنيا إلى بيت الله. عندما تدخل إلى بيت الله اجعل الدنيا وراء ظهرك واجعل الله عزّ وجلَّ في وجهك، وأقبل على الله تجد كل الفضل وكل الخير وكل الروح والريحان من الله عزّ وجلَّ.
تزيَّن بالزِّينة التي يحبُّها الله عند دخول بيت الله، واسمع إلى الله عزّ وجلَّ وهو يقول لك: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (31الأعراف).
ما الزينة في هذه الآية؟ زينة للناس من اللبس والعطور وتزيين الوجه والرياش، وزينة لرب الناس يقول فيها سيِّد الناس صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[3]. ينظر الله عزّ وجلَّ إلى الزينة التي زيَّنا بها القلوب لأنها موضع نظر حضرة علام الغيوب عزّ وجلَّ. هب أن رجلاً هيأ ظاهره على ما يراد، ودخل بين يدي الله وقلبه فيه حقدٌ على فلان وبُغضٌ لفلان وكرهٌ لفلان ويدبر مكيدة لفلان، ويبحث عن شرٍّ يضعه لفلان، أمثال هذا هل ينبغي أن يقف بين يدي الله؟ والله عزّ وجلَّ كما يقول في كتابه جلَّ في عُلاه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (19غافر)، يَرَى ما في صدرك!!
ما الزينة التي تلبسها لله؟!! تُلبس قلبك زينة الحبِّ لله، ولرسول الله ولخلق الله، تلبسه حُلَّة الخشوع والخشية من الله جلَّ في عُلاه، تلبسه الرعب من الله والخوف من النار التي جهزَّها للعصاة والرغبة التي جهزها لخيار المؤمنين بالله. تلبسه جلباب التُقى التي يقول فيها الله: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (26الأعراف).
تلبس للجسم ثياباً للناس، وتلبس للقلب ثياباً تليق بربِّ الناس، لأنه هو الذي ينظر إليك وهو الذي يحبوك وهو الذي يمنحك، وقد قال عزّ وجلَّ في حديثه القدسي: (إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زُوَّارى فيها عمَّارُها، فطوبى لمن تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، وعلى المزور أن يُكرم زائره)[4]. أى أن الذي يأتي إلى هذا الموضع لابد أن يحظى بالإكرام من الكريم الأعلى عزّ وجلَّ.
كيف يكون إكرامه؟ هل بمائدة من اللحوم والأسماك؟ هل بمشروبٍ من المشروبات الباردة؟ حاشا لله – وإنما مشروبه يقول فيه الله الذي يسقيه للقلوب: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (21الإنسان).
يأتي الإنسان إلى بيت الله قد حمل من الهموم أثقالاً، فإذا خشع لله، وركع وسجد لله، يسقيه الله عزّ وجلَّ شراباً فيخرج من الصلاة وقد استراح باله، هانئ النفس قد زالت عنه هذه الهموم، وقد تطهر من هذه الوساوس والهواجس، لأن الله سقاه الشراب الطهور، وهو شرابٌ من النور يسقيه الله عزّ وجلَّ لمن أناب إليه ووقف بين يديه، لأنه سبحانه هو العزيز الغفور عزّ وجلَّ.
يسقيه الله عزّ وجلَّ من مائدة القرآن شراباً من العلم الإلهي، فيخرج من الصلاة وقد علم علوماً لم يقرأها في كتابٍ، ولم يسمعها من واعظٍ ولا عالم، كما كان أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وصلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
يوفقه للطريق السديد إذا احتار في أمر، إذا احتار في أى أمرٍ ووقف بين يديه واستخاره وصلَّى ركعتين يستخير الله في أى طريقٍ يسلك؟ يجد الله عزّ وجلَّ يتولاه بولايته، ويرعاه بعنايته، ويخرج من الصلاة وقد تبين الطريق القويم الذي يسلكه فيجد توفيق الله عزّ وجلَّ معه.
يجد الله عزّ وجلَّ إذا كان حائراً في أمرٍ، وعرض نفسه على هذا وعلى ذاك، فهذا أعرض عنه وهذا ردَّه بردٍّ جميل، وهذا صدَّه وردَّه بردٍّ قبيح، وجاء إلى الله واشتكى إلى الله ودعا الله، يجد الإجابة الفورية من الله جلَّ في عُلاه من بابٍ لم يخطر على باله قطّ ولم يفكر فيه، لأن الله قال لهذا الجمع وأمثالهم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (2، 3الطلاق).
يأتيه الرزق من باب لم يفكر فيه ولم يخطر على باله، لأن الله يرزق المؤمنين من ألطافه الخفية التى لا تتناولها الحسابات ولا يدريها الملائكة، وإنما هي خصوصية من الله عزّ وجلَّ لأهل القلوب التقية النقية. وعلى ذلك كان أصحاب النبي ومن بعدهم من السلف الصالح والتابعين والمرشدين والأئمة أجمعين.
يجد في بيت الله عزّ وجلَّ كل ما يحتاج إليه، فهو واحةٌ للنفس إذا شردت، وهو راحة للقلب إذا ضنى، وهو إعادة لقوة الجسم إذا عانى من التعب، وهو موطئ السكينة والطمأنينة. فيه كل شيءٍ – يخرج منه الإنسان وقد تأهل وتأهب لكل معضلات ومشكلات الأكوان، ولذا لا نعجب إن عرفنا من الله عزّ وجلَّ أن الرجل الذي يتسلَّح من عند الرحمن في بيت الله يخرج وبه من القوة ما يساوى عشرة ممن لم يدخل بيت الله عزّ وجلَّ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (65الأنفال).
من أين هذه القوة؟ القوة القلبية والدوافع الروحانية – الإمدادات الربانية تُعطي الإنسان قوة لها قدرة يواجه بها أعباء هذه الحياة.
فاجعلوا المساجد لله، وابعدوها عن كلِّ ما طلب الله عزّ وجلَّ أن نبعدها عنها، حتى نتجمَّل ظاهراً وباطناً لما يحبه الله ويرضاه. قال صلى الله عليه وسلَّم: (يقول الله تعالى يوم القيامة: أين جيراني من عبادى؟ فتقول الملائكة: سبحانك تنزهت، ومن الذي يستحق جوارك يا ربنا؟ فيقول تبارك وتعالى: عُمَّار المساجد هم أهل جيرتي من خلقي)[5]. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وسلوا الله عزّ وجلَّ بقلوبٍ خاشعة يجبكم الله في طلباتكم أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ونشكرك اللهم سبحانك تباركت وتعاليت على نعمك الظاهرة والباطنة علينا التى لا تُعد ولا تُحد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى في قدرته وتسامى في حكمته وعزَّ في عزِّته، إلهٌ قوىٌ قادرٌ حكيم، وخلط بذلك لنا جماعة المؤمنين أنه بنا لطيفٌ وشفوقٌ وعطوفٌ ورؤفٌ ورحيم. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، النبي الهادى بالله إلى الله، والداعى بالله إلى مايحبه مولاه.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد وامنحنا هُداه، ووفقنا أجمعين للسير على منهجه يا الله، وارزقنا في الآخرة شفاعته وجواره، وفي الدنيا المشي على شريعته وهديه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أجمعين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
سعدت الأمة الإسلامية في مطلع الدعوة وبعدها، لأنهم جعلوا المساجد هي بيت الأمة، يلتقون فيها فيتعارفون، ويتوادون ويتعاطفون كل مؤمنٍ ينبغي عليه أن يعرف الذين حوله من المؤمنين، وإذا غاب أحدهم تفقده، وإذا نظر إلى أحدهم ووجد في وجهه أنه محتاجٌ ساعده، وإذا نظر إليه ووجده مهمومٌ خفَّف عنه، فيكون المؤمن للمؤمن كما قال الحبيب: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)[6].
وكان صلى الله عليه وسلَّم يبدأ في ذلك بنفسه، فكان إذا لاحظ أن رجلاً لم يظهر في المسجد ثلاثة أيام يسأل عنه، فإن علم أنه مريضٌ عاده وزاره، وإن علم أن محتاجٌ أعانه، أو طلب من المؤمنين أن يُعينوا أخاهم، وإن عَلِمَ أن به مشكلة ذهب إليه وفحصَّها وفضَّها وحلَّها، فيشعر المؤمن بإخوة المؤمنين وبرعاية المجتمع للمسلمين.
لكننا في هذا الزمان كثرت الجموع في المساجد، وكلنا نصلِّي معاً وبعد إنتهاء الصلاة تقول لمن حولك يميناً وشمالاً: السلام عليكم – السلام يقتضي المعرفة والتفقد، ولكنك تقول له: السلام ولا تعرفه، ولا تريد أن تتعرف عليه!! دخلنا في حوارٍ يقول فيه حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم لرجلٍ دخل مجلسه – وكان غنياً، وكان يلبس ملابس يبدو عليها الثراء – فأمره أن يجلس، فكان يأمرهم أن يجلس أحدهم حيث انتهي به المجلس – يعني: في المكان الفارغ – وينهى عن توطين الأماكن سواءٌ في المسجد أو غيره – من يأتي المكان لمن يأتي أولاً فأولاً.
فتصادف أن الرجل وجد مكاناً خالياً بجوار رجلٍ فقيرٍ بثياب مهلهلة، فنظر آنفاً وجلس وهو يظهر عليه الإستياء، ولملم ثيابه، فقال صلى الله عليه وسلَّم له: (أخشيت أن يعديك فقره؟). أتظن أن فقر هذا الرجل سيُعْدِيك؟!!! وعلَّمنا – وعلَّم المؤمنين أجمعين – أن الفقير له اليد الطُولى علينا أجمعين، لأن الفقير هو الذي يحمل عني أوزارى، فإذا أذنبت أعطيته فيغفر الله عزّ وجلَّ لي، هو الذي يأخذ مني الصدقات، فإذا لم يوجد الفقير فأين أضع الصدقات؟!!
الصدقات يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم – عندما حرَّمها على نفسه وعلى أهل بيته وقال: (إنها أوساخ الناس)[7]. لا يحب أن يأخذها لا هو ولا أهل بيته، فكونك تجد رجلاً يأخذ أوساخك ويحمل عنك أثقالك، ويورد عليك مغفرة الله وإكرام الله ورضوان الله، يجب عليك أن تهشَّ له وتبشَّ له، لأنه هو الذي يبلغك رضوان الله. أنت تعطيه شيئاً زهيداً فانياً لا قيمة لك، وهو يعطيك شيئاً باقياً ذا قيمة!! يعطيك مغفرة الله، يعطيك مدخلاً في جنة الله، يعطيك منزلة كريمة في رضوان الله، فأيهما الأعلى؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم: (اليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى)[8].
فقه هذا الحديث عِليْةُ الصحابة الكرام، فكان أحدهم إذا أراد أن ينفق جعل يده السُفلى وجعل يد الفقير هي العُليا، ويقول: لأن الفقير صاحب الفضل علىَّ، فأنا أعطيه شيئاً دنيوياً، وهو يعطيني عيشاً طيباً أخروياً.
كانت المساجد تجعل المسلمين أجمعين يتباحثون في مشاكلهم، وينظرون في أمورهم، فيحلُّون كلَّ المشاكل التي في منطقتهم ومحلاتهم، ولا يحتاجون إلى حكومة تدخل بينهم – إلاَّ في الأمور الكبرى العُظمى التي تحتاج إلى قيادة مركزية – لكن معظم الأمور التي بينهم يفضونها، فكان المسجد هو مجلس القضاء، والقضاة هم المصلُّون، يأتون بالمتخاصمين ويحلُّون المشاكل بينهم ويرضونهم ويخرجون من المساجد متصالحين، والمسجد هو حلُّ لمشاكل الفقراء والمرضى والمساكين، والمسجد هو إذهاب الهمِّ والغم عن المهمومين. كلُّ ذلك لأن المؤمنين كانوا في بيوت الله يجعلون المسجد واحة لجميع المؤمنين.
فهلاَّ عدنا إلى هذا الدور مرةً أخرى؟ ونكرِّرُ سيرة الأولين؟ وننفذ هدى النَّبِيِّ الأمين؟ لعل الله عزّ وجلَّ ينظر إلينا نظر عطفٍ وحنان، ويُصلح حالنا كما أصلح حالهم، ويغير شأننا كما غير شأنهم، ويُغْنِينَا بعد فاقة، ويُعزُّنا بعد ذلة، ويجمعنا بعد فرقة، ويحفظنا بحفظه وصيانته من شرِّ الكافرين والمنافقين وأهل الشرِّ أجمعين.
اللهم انظر إلينا نظر عطف وحنان، وبدِّل حالنا إلى أحسن حال.
اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم فقهنا في الدِّين، واجعلنا في الدنيا من أهل الاستقامة، ومن عبادك الصالحين، وحبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم يسِّرْ لنا فعل الخيرات، واحفظنا من المعاصي والمنكرات، وجنِّب بلادنا من كل الفتن والمؤامرات، واجمع شعبها على الخير إلى يوم الميقات، واحفظنا من الشرِّ في الداخل والخارج أجمعين، واجعلنا بفضلك ونُورك دائماً منصورين، وارفع لواء مصر وأهلها على العالم أجمعه إلى يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعوات، يا ربَّ العالمين.
اللهم إنَّ كل مَنْ تآمر على مصر يريد منع المياه عنها فامنع عنه الماء يا رب العالمين، واقضِ على هذا الأمر، واجعل هذا الأمر نافقاً، وارزقنا ماءاً من عندك إلى يوم الدين، واغننا بغناك وفضلك ولا تحوجنا إلى أحدٍ من العالمين.
عباد الله اتقوا الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (90النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
***********************
[1] ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الشَّامِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ).
[2] الطبراني في الأوسط من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ: (المسجد بيت كل تقيّ، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالروْح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله في الجنة).
[3] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] روى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] أخرجه الحارث بن أسامة في مسنده
[6] متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[7] رواه مسلم كتاب الزكاة 1784
[8] البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
خطبة الجمعة بمسجد النور بحدائق المعادى بالقاهرة 2/5/2014 الموافق 3 رجب 1435هـ