الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
كل عام وأنتم بخير أجمعين أهنئكم هذا العام بكتابة ثواب الحاج لمن نوى بقلبه حج البيت الحرام ولم نستطع أن نذهب لعدم استطاعتنا بذلك لأنه فقد شرطاً من شروط الحج.
في هذا الطريق ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكشف عنا كل هذه الحُجب والموانع، وأن يمتعنا أجمعين في العام القابل لحج بيت الله الحرام، وزيارة روضة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وأن يوفر ذلك لنا من مالٍ حلال، أو يوفر لنا أعلى من ذلك مقام أن تأتينا الكعبة لزيارتنا، ويأتينا حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم لزيارتنا في المنام، نحن والأحبة أجمعين، آمين آمين يا رب العالمين.
السؤال الأول:
أرجو من فضيلتكم شرح هذه الحكمة للإمام عليٍّ:
[لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع].
الجواب:
الإمام عليٍّ رضي الله عنه وكرم الله وجهه وضع في هذه الحكمة شرائط ثلاث:
إذا توفرت في الداعي إلى الله، كان هو الداعي الحكيم الذي يُصغي اللهُ قلوب الخلق لسماع كلامه، ويجذبهم نحوه ويشدهم إليه.
وإذا فقد هذه الشروط أو إحداها فإن كلامه يكون في الآذان، ولا يتجاوز الآذان كما قيل:
[إذا كان الكلام من اللسان فلا يتجاوز الآذان، وإذا كان الكلام من القلب وصل إلى القلب].
فأول شرطٍ من هذه الشروط:
أن لا يصانع:
يعني لا يحاول أن يلاين هذا ليستفيد منه، أو يحاول أن يجالس هذا ليستفيد فائدة دنوية منه من مجالسته، أو يراسل قوماً طمعاً فيما عندهم من الغنائم.
فالمصانعة هي المداهنة، والمداهنة هي التودد لخلق رغبةً فيما عند الخلق، وهذه لا ينبغي أن تتوفر في الداعي إلى الله تبارك وتعالى.
فإذا تودَّد الداعي إلى الخلق ولو رغبةً في الشُهرة عندهم، أو رغبة في إعزازهم وإجلالهم له، أو رغبةً في أن يقوموا له إذا حضر، ويقبلوا يديه إذا سلموا عليه، أو يسارعون في قضاء حوائجه الدنيوية، كل هذه رغباتٍ دنيَّة لا ينبغي أن تكون لأهل الدعوة التقية والنقية، لأنهم على منهج سيد الرسل والأنبياء، وكذا إخوانه من الرسل والأنبياء.
لا يريد مقابل دعوته أجراً ولو كان حتى ثناءً أو حمداً أو تكبيراً أو تعظيماً أو قضاء مصلحة أو الإتيان بمنفعة، لا يرجون إلا كما قال في ذلك الإمام علي، وهو من الدعاة الأوائل الذين كانوا على قدم النبي صلى الله عليه وسلَّم وعبَّر عنه القرآن فقال:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ (9الإنسان).
أي ولا حتى ثناءً ولا حمداً، وإنما يرجون الخير كل الخير من رب الخير تبارك وتعالى.
الشرط الثاني:
ولا يضارع:
أي لا يحاول أن يتشبَّه بالصالحين الذين أقامهم الله، وجعل لهم القبول عند خلق الله، وهو خاليى من البضاعة التي وهبها لهم الله، فإن الصالحين إذا وهبهم الله عز وجل من عنده كما قال في وليِّ الله صاحب موسى:
والحكم هنا هو حكم مملكته وحكم نفسه التي بين جنبيه، وليس الحكم بين الخلق في الدنيا، والعلم الإلهي فإذا آتاه الله هذه البضاعة وجمله بالحكمة الإلهية النبوية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده جبريل:
(يا جبريل إني أُحب فلاناُ فأحبه ـ فيحبه أهل السماء).
[رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وأهل السماء لها معنيين:
أي يحبه الملائكة والمقربين في السماء، أو أهل سماء في العُلوُّ في فضل الله وإكرام الله من عباد الله الصالحين، فإنهم سموا في المقام حتى أصبحوا في قرب القرابة من الله على الدوام.
قال: (فيُحبه أهل السماء، ينادي جبريل: إن الله يُحب فلاناُ فأحبوه ـ ونداء جبريل يكون في القلوب، وليس في الإذاعات ولا تسمعه آذان الرؤس، وإنما في قلوب المتقين المشرقة بنور سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم ـ فيُحبه أهل السماء، ثم يُوضع له القبول في أهل الأرض ـ
أي الذين ما زالوا متمسكين من عالم الأرض وما فيها من منافع وشهوات، وآمال فانية، ولكن لهم قدرٌ من التوفيق عند الله إذا جُمعوا على هذا العبد، أخذ بأيديهم ورفع عنهم هذه الحجب الدنيوية، وقرَّبهم إلى حضرة الله تبارك وتعالى.
هؤلاء القوم يعملون كما قلنا لله طلباً لمرضاة الله، ومن تشبَّه بهم ولم يحصُل على بضاعتهم من عند حبيب الله ومصطفاه، إنما يكون لغاية في صدره، لحبٍ للظهور، أو لرغبة في الشُهرة، أو لجمع المال من هنا وهناك، وقد قيل:
[حب الظهور يقسم الظهور].
فإن هذا وأمثاله وإن طال أمده في الدنيا فإنه يوماً في الدنيا لابد أن ينجلي أمره، ويفضتح شأنه، لأنه ليس في درب المخلصين الذين أثنى عليهم ومدحهم رب العالمين سبحانه وتعالى، وعصمهم من الشيطان عندما قال:
﴿ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (83ص).
فلا يستطيع أن يوسوس لهم، ولا أن يُزين الأشياء الفانية لهم، لأنهم في حفظ الله وكنف الله، ويُجمَّلون ظاهراً وباطناً بقول الله:
وهذه طامة كبرى لا ينبغي لداعي إلى الله أن يتصف بها، أو يتخلق بأخلاق أهلها، فإنه يطمع فيما في أيدي ذوي الأموال، ويطمع فيما عند ذوي الأحوال إلى حالٍ وهبه لهم الواحد المتعال.
هذه الأطماع تملأ قلبه ونفسه بالصراع، وتجعله يمتلئ بالأحقاد والأحساد التي نهى عنها رسولنا الكريم حيث قال صلى الله عليه وسلَّم:
(لا حسد إلا في إثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو قائمٌ به آناء الليل وأطراف النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه على الفقراء والمساكين).
[رواه أحمد عن إبن عمر رضي الله عنهما].
أما هذا فيحسُد أهل الدنيا على ما عندهم، وأهل الأهواء على ما نالوه، وأهل المطامع على ما حصَّلوه، وهذا طمعٌ نهى عنه الله سبحانه وتعالى، مما جمع هذا الطامع فإنه سيخرج من الدنيا يوماً ولن ينفعه شيئاً مما جمعه، بل سيُسأل عنه، ويُحاسب عليه عند الله تبارك وتعالى.
إذاً الداعي الحكيم الذي وصفه الإمام عليٍّ رضي الله عنه وكرم الله وجهه ـ والذين نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون على هيئته أجمعين ـ هو الذي لا يداهن الناس من أجل مكانٍ هم فيه من الدنيا، ولا يتشبه بالصالحين مع خلوه من أحوالهم ومواهبهم، ولا ينصب نفسه للدعوة طمعاً فيما عند الناس من دنيا فانية، أو أشياء دانية.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل ذلك، وأن يبلغنا جميعاً ذلك.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
فالجمال المحمدي جمالٌ ظاهر وجمال باطن، فالجمال الظاهر يعشقه ويميل إليه الإنسان إذا سمع أو قرأ أوصاف حضرة النبي من قلبٍ من عاشقٍ متوقٍ لرؤية النبي، أو قلب رجل ورعٍ كان مملوءاً قلبه بحب النبي، فيُحب النبي صلى الله عليه وسلَّم عن السماع من الصالحين، أو القراءة من كتب الصالحين.
فإذا ارتقى في المقام ورآه صلى الله عليه وسلَّم في المنام، يستحضر جمالاته الوهبية، وحُلله النورانية فيزيد الحب في قلبه لحبيب الله، لما رأى عليه من الجمالات التي جمله بها الله، وهذه الجمالات لا تُرى لعين الرأس، ولكن تُرى لعين القلب وعين السر وعين الروح وعين الفؤاد.
وهذه الجمالات ليست محصورة، ولا مقصورة، بل تتجدَّد على الدوام، ولذلك قال بعض الصالحين:
من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رؤيا عينية ـ يعني رآه في حقيقته النورانية ـ وكان لابساً حُلةً إلهية ـ فمن كرمه صلى الله عليه وسلَّم يخلعها عليه ـ يُعطيها له والله عز وجل يُجدد له بحلة أبهى وأشهى وأحسن منها، وخير الله عز وجل لا ينتهي، لأنه لا نهاية لجمال الله وكمال الله، وكذا لا نهاية لعطاءات الله لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
والتي أشار إليها الله في قوله:
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ (5الضحى) ـ
ولم يقُل أعطاك، وسوف للمستقبل ولسوف يعطيك في الدنيا والبرزخ والآخرة والجنة حتى ترضى، وهذه العطاءات لا يستطيع أحدٌ أن يصفها، ولا أن ينعتها، لأنها عطاءات خاصة بحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
لذلك عندما قال صلى الله عليه وسلَّم:
(توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يومٍ وليلة مائة مرة).
[صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
والرسول صلى الله عليه وسلَّم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمم يستغفر الله؟
قالوا: كلَّما إرتقى مقاماً، إستغفر الله من المقام الذي قبله الذي كان فيه، لأنه أرتقى إلى مقامٍ أعلى وأجمل.
وفي الرواية التي يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم:
(إني ليُغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة).
[أبو داود عن الأغر المزني أبو مالكرضي الله عنه].
قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه إحترتُ في هذا الحديث، والغين يعني الغير، فكيف يأتي غيرٌ على قلب رسول الله؟ قال: فجاءني صلى الله عليه وسلَّم في المنام، وقال:
(غين الأنوار، لا غين الأغيار يا مبارك).
فإن الأنوار التي على القلب عندما تنزل عليه أنوار أسطع منها وأبهى منها وأنور منها وأجلى منها، يستغفر الله تبارك وتعالى من الأنوار السابقة، وأنه وقف ولو نفساً عندها، لأنه كان يمشي والله عز وجل يقول له:
لا تقف بل قُل:
﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (114طه).
والعلم هنا هو علم الشهود، يعني ربِّ زدني شهوداً في ذاتك، شهوداً في أوصاف ذاتك، وشهوداً في جمالاتك، وشهوداً في كمالاتك، ولا منتهى لجمالات الله ولا لكمالات الله سبحانه وتعالى.
أما كيف السبيل إلى ذلك، فإن هذه منحٌ إلهية، وعطاءات ربانية، يقول الله تبارك وتعالى فيها لخير البرية:
هذا عطاؤنا ـ كله معك ـ فامنن ـ على من تشاء ـ أو أمسك ـ على من لا تشاء.
فهو يقسم هذه العطاءات على قدر صفاء النوايا، وطهارة الطوايا، وخلو القلوب من الأغيار، وعلو الأرواح طالبةً لما عند الله من العطاء المدرار، ولا يعطيه لأحدٍ مجاملةً، ولا يعطيه لأحدٍ بغير سببٍ مما ذكرناه، لأن الله عز وجل يعلم علم اليقين، أنه كما قال في شأنه:
أي ليس ببخيل، فلا يبخل بعطاء عن مستحقٍ له، فإذا جهَّز الإنسان نفسه، واستعان بالله فأعانه، وطلب من الحبيب مدده، فأمده وتأهل لذلك، فإن الله عز وجل يعطيه ذلك فضلاً من الله ونعمة والله عليمٌ حكيم.
وصلى الله وسلم ويبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
السؤال الثالث:
من هم أهل بدر؟ وهل يمكن لإنسان في هذا الزمان أن يصل لمكانتهم؟ أم أنها خصوصية لمن شاهد غزوة بدرٍ فقط؟
الجواب:
أهل بدرٍ في عصر النبي صلى الله عليه وسلَّم كانوا طائفتين:
الطائفة الأولى الذين حضروا معه في الغزوة، وجاهدوا الكفار ونصرهم الله، وأيدهم بجنودٍ من عنده من الملائكة الأبرار.
وطائفة كانوا بالمدينة أو حولها، وكانوا يتمنون أن يخرجوا مع رسول الله، ولكن منعهم مانعٌ من الخروج، لأنهم لم يعلموا أنه خارجٌ لحربٍ، وإنما كان خارجاً للتجارة، فهؤلاء شاركوهم في العطاء بقلوبهم ونياتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما كان في غزوة تبوك، وكانت في شمال الجزيرة العربية وبينها وبين المدينة حوالي سبعمائة كيلومترا، وكان الجو حاراً وكانت في أيام جمع محصول التمر، وكان الطريق طويل، ولا يملك كل إنسانٍ دابةً يركبها، أو زاداً يبلغه الوصول إلى هذا المكان.
فعندما وصل صلى الله عليه وسلَّم إلى تبوك قال:
(إن بالمدينة لأقوام، ما سلكتم طريقاً، ولا قطعتم وادياً، ولا عملتم من عمل، إلا وشاركوكم في الأجر، حبسهم العُذر).
[البخاري عن أنس رضي الله عنه].
فهؤلاء كانوا في الأجر سواء مع الحاضرين مع حضرة النبي في غزوة تبوك، وهكذا في كل غزوة، أو في كل عملٍ من أعمال الإسلام مع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلَّم.
أهل بدرٍ قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(رُبَّ إطلع الله على أهل بدرٍ فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم).
[البخاري على علي بن أبي طالب رضي الله عنه].
وقال بعض المتشككين كيف سيقعون في المعاصي ويغفرها لهم، مع أنه يعلم أنهم سيقعون فيها، وهؤلاء جهلوا قدرة الله وإكرام الله لعباد الله الصالحين، فإن الله تبارك وتعالى جعل للأنبياء العصمة، والعصمة هي أن لا يخطر على قلوبهم ذنبٌ أو معصيةٌ، أو شيئٌ يُغضب الله تبارك وتعالى، لا تمر حتى على بالهم، ولا تخطر على قلوبهم.
وجعل الله عز وجل لهم الحفظ لأنه قد توسوس لهم نفوسهم في صدورهم بمعصية، أو أمرٍ يُغضب الله، ولكن الله تبارك وتعالى لحفظه لهم في قوله:
يحفظهم من تنفيذ هذا الوسواس الذي جاش في صدورهم، فيكون لهم أجرٌ عند ربهم، لقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(من هم بحسنة فلم يعملها، كٌتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة ـ وهنا الأمر ـ ولم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له سيئة واحدة).
[الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
فإذا خطرت المعاصي في نفوسهم، وخرجت وساوس إلى صدورهم، فإن الله يمنعهم بما شاء وكيف شاء، قال صلى الله عليه وسلَّم في شأن هؤلاء:
(إن من العصمة أن لا تجد).
يعني لا تجد طريقاً لتنفيذ ما فكرت فيه، أو لا تجد وسيلة لتحقيق الرغبة التي جاشت في صدرك، فإن الله يُقيد لك أي وسيلة تمنعك من ذلك، كأن يُفكر الإنسان في سرقة شيئ ما في مكان، ويضع خُطة في نفسه، وعندما يهم بالتنفيذ يجد رجلاً دخل عليه، فيمتنع عن التنفيذ، وهذا حفظٌ من الله تبارك وتعالى له.
وهذا الحفظ هو الذي حفظهم الله به، إلى آخر حياتهم حتى لا يقعوا في عملٍ يُغضب الله تبارك وتعالى.
هؤلاء البدريون يُوجد أمثالهم وأشباههم في كل زمانٍ ومكان، كيف يصلون إلى ذلك؟
يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه، وهو الخبير القرآني في ذلك:
[إذا إنتصر الحق فيك على الباطل، فكل يومك يوم بدر].
فإن الإنسان فيه جنود للحق، وهم الروح والسر والخفا والأخفى والعقل، وغيرها من الجنود الروحانية.
وفيه جنودٌ للباطل، وهم النفس والشهوات والرغبات الدنية والآمال الكاسدة، وهؤلاء بينهم حربٌ ضروس على أرض القلب للسيطرة عليها، لأن من ملك منهم أرض القلب، ملك هذه المملكة، وأصبح يُحرك هذا الإنسان كما يريد، فإذا غلبت النفس الشهوانية، أو النفس الإبليسية، أو النفس الحيوانية، إذا غلبت النفس الإبيلسية على إنسان وسيطرت على ساحة قلبه، كان إنساناً ظاهراً ولكن صورته الباطنة صورة إبليس، وفيه يقول الله تبارك وتعالى:
فبدأ بشياطين الإنس أولاً لأنهم أخطر، فيمشي بين الناس يفرق بينهم، ويحاول أن يزيد الخلافات بينهم، ويحاول أن يفرق بين الأحبة، ويحاول أن يُوقع بين الأصدقاء، ويحاول أن يصرف الأوفياء عن الوفاء، ويحاول أن يجعل الصادقين يستمرئون الكذب ويتركون الصدق في كل وقت وحين، وهذا إبليس في صورة آدمية.
وإذا تغلبت النفس الجمادية، تجد هذا الإنسان كسولاً عند الطاعات، جامداً عند السعي على الأرزاق، لا يريد إلا أن ينام ويأكل بدون تعبٍ ولا عناء، ويريد من يُطعمه ويؤكله ويأتي له بما يشتهي، ولا يتعب في ذلك، فيكون كالجماد الذي هو حولنا، لأنه جامد فلا يتحرك، وقد أمرنا الله بالحركة، وجعل في الحركة البركة.
قال صلى الله عليه وسلَّم حتى عن الطيور، فإن الطيور تسعى لرزقها، تخرج صباحاً وترجع مساءً بعد أن حصَّلت أرزاقها، فقال:
(لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً).
[الترمذي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه].
فيفعل بعض الجهال أنه يسكن في مكانه ولا يتحرك ويرزقه الله وهو في مكانه، بل ويأتي له بمن يضع له الطعام في فمه، ولم يلتفت إلى الحديث، والحديث قوله صريح، تغدوا يعني تمشي في الصباح الباكر، وتروح يعني ترجع في المساء بنعم الله وخيرات الله التي جنتها.
وهكذا فإذا سيطر على الإنسان النفس الحيوانية، كان همه كله في الشهوات الدنية، فمنهم من همه في شهوة الطعام، ومنهم من همه في شهوة النكاح، ومنهم من همه في شهوة اللعب، وهكذا تتعدد هذه الشهوات.
فإذا غلَّب الإنسان عقله، وجعله يأتمر بكتاب ربه وسنة نبيه، وأطلق لروحه العنان لتملأ القلب بما أتت به من عند الله من لطائف الحكمة، وغرائب المعاني والأحوال العلية، وجعل السر يأتي له من عند الحضرة النبوية، بما يُباح له على قدره من حبيب الله ومصطفاه، وقامت بينهما الحرب بينهما، واستطاع أن ينصر جند الرحمن على ما فيه من جند الشيطان.
هنا يكون يومه في هذا اليوم الذي انتصر فيه يوم بدر، فإذا دام على ذلك، وظل ينتصر في كل الأيلام بتوفيقٍ من الملك العلام، كان من أهل بدر وتوَّجه الله بتاج ولايته، وأحاطه بحفظه وعنايته، وجعله مجملاً بالحفظ الإلهي.
وهؤلاء هم الأولياء الربانيون، والعلماء العاملين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون منهم أجمعين.
وصلى الله الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الخميس: 22/7/2021 موافق 12ذي الحجة 1442 هـ دار الصفا الجميزه طنطا