أعظم النواحي التي ينبغي علينا إستحضارها ومعايشتها ومحاولة التخلق بها على الدوام هي أخلاق النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وهذا شيئ يغفل عنه كثيرٌ من المريدين والسالكين، يظن أن الوصول إلى الله بالعبادات بالأذكار بتلاوة القرآن.
هذه كلها أمورٌ تعبدية لها أجرٌ عند رب البرية، من يعمل يأخذ اجره، لكننا لسنا طلاب أجر، نحن طلاب الفضل، وهذا الفضل ليس هناك في الدين عملٌ يؤدي إليه، ما العمل في دين الله الذي يجعل بصيرة المرء مضيَّة؟
لا يوجد إلا إذا ذكر الله بطريقة معينة على يد مرشدٍ واصلٍ إلى الله تبارك وتعالى، فلا يذكر الله للحسنات أو للدرجات في الجنات، ولكن لفتح البصير المنيرة.
وهكذا كل المنح الإلهية والعطاءات الربانية هذه فضلٌ من الله وإكرامٌ من الله، ببركة حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
كيف نتعرض لها؟
التعرض يكون بالتخلق بأخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلَّم، فإن الله تبارك وتعالى إذا نظرنا إلى القرآن مدح أنبياءه ورسله أجمعين بالأخلاق الكريمة التي ذكرها الله تعالى لهم في القرآن:
كلها ثناءٌ من الله على أنبياء الله ورسل الله، بالأخلاق الكريمة التي خلقهم بها الله تبارك وتعالى، وهذا جهاد العارفين للوصول إلى مراتب الفضل من رب العالمين تبارك وتعالى، أي يجاهد في تحسين أخلاقه على النموذج القويم الذي وضعه الله تبارك وتعالى للخلق أجمعين من بدء البدء إلى نهاية النهايات، وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم يقول الله تعالى له ليُنبئ عن نفسه:
لن يصل أحدٌ إلى درجته في عبادة الله، ولا أحد يصل إلى درجته في ذكر الله، ولا أحد يصل إلى درجته في خشيته لله تبارك وتعالى، لكن عندما ربنا مدحه وأثنى عليه لم يمدحه بالعبادة ولا بالذكر، وإنما قال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (4القلم).
وكأن من يريد أن يكون له شيئٌ عظيم عند حضرة العظيم فعليه بجهاد نفسه في التخلق بكل خلقٍ كريم، وهذا الحال الذي عاشرنا وسمعنا وقرأنا فيه عن الصالحين أجمعين بما نالوا أرقى الدجات وبما أعطاهم الله تبارك وتعالى أعظم العطاءات بالخُلق الكريم على منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
ولو جاهد الأحباب أنفسهم في هذا الباب، لكان كل واحد منهم بلسماً شافياً لكل من حوله ولا يتسبب في معضلة.
كثير من أحبابنا ـ وللأسف ـ طبعاً الأخ إذا أحسن ينسب الناس الإحسان إليه، وإذا أساء كما سمعتم ينسبون الإساءة لنا، وأنتم لم تعلموه، أنتم لم توضحوا له شيئاً.
وكان الناس عندما يمتحنون الصالحين هو نفس الإمتحان الذي أُجري لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لما جاءه رجلٌ من اليهود في المدينة وأصَّر عليه أن يأخذ تمراً من عنده لضيوفه سلفاً إلى حين، ووضعوا وقتاً للسداد، لكن الرجل جاء قبل ميعاد السداد، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ماشياً في وسط أصحابه أمسك به من ملابسه وشدَّه وقال له: إنكم يا بني عبد المطلب قومٌ مُطل ـ ومُطلٌ يعني مماطلين ولا تردون الحقوق لأصحابها.
فسيدنا عمر رضي الله عنه غار لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ وهذا واجب أن يغير لنبيه أو يغير لشيخه، لكن لا يصنع شيئاً إلا بأمره، فلا يغير ويصنع ما يريد في حضوره، فيكون قد أساء إليه.
فقال إئذن يا رسول الله أن أضرب عُنق هذا الكافر ـ فليس معنى أن يغار على الشيخ أن يفعل ما بدا له، والشيخ موجود فأنت تسيئ له ولم تحترم تواجده.
فقال صلى الله عليه وسلَّم له ولنا مؤدباً:
(يا عمر كلانا ـ وانظر الأدب النبوي ـ كان أحوج إلى غير هذا منك ـ نحن الإثنان، وسوَّى نفسه بينه وبين هذا السفيه ـ كان أحوج إلى غير هذا منك ـ أدب الحوار الذي علمه لنا سيدنا رسول الله . تأمرني بحُسن الأداء، وتأمره بحُسن المطالبة، يا عمر خذه وأعطه ماله وزده عشرين وثقاً ـ والوثق غير موجود الآن وكان وعاءً من الخوص ولكن كان كبيرا شوية، يستوعب كماً كبيراً ـ وزده عشرين وثقاً جزاء ما روَّعته).
يعني لأنك أمسكت بالسيف لتضربه به.
سيدنا عمر أخذه وذهب إلى بيت المال وأعطاه كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقال الرجل: أتعرف من أنا يا عمر؟ قال: لا، قال: أنا زيد بن الدَثَنة، قال: الحبر؟ ـ يعني ليس رجلاً عادياً، حبر يعني عالم كبير من علماء اليهود ـ قال: نعم، قال: أتدري لم فعلتُ ذلك؟ قال: لا، قال:
لأن عندنا في التوراة أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وقد تحققتُ منها جميعاً، ولم يبقى إلا وصفٌ واحد تحققت منه اليوم ـ ما هذا الوصف؟ ـ قال: لا يزيده جهل الجاهل عليه إلا حلما ـ أي كلما زادوا في الجهل، كلما زاد هو في الحلم.
واحد جاهل يرفع صوته عليك، فترفع أنت أيضاً صوتك، فأصبحت مثله، فهل يوجد فرقٌ بينكما الآن؟ والقرآن هو الذي قال ذلك:
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ـ وهنا وقف ، ما هو؟ ـ مِثْلُهَا﴾ (40الشورى).
مثلها تماماً، فأجزي السيئة بالسيئة، فما الفرق بيننا؟ نحن الإثنان مثل بعضنا، وماذا نكون نحن هنا؟
لنا نحن وليس للآخرين، فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما وُصف في التوراة ـ سألوا سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وكان قد ملأ زاملين ـ وزاملين يعني خُرجين والخرج هو الحاوية ـ وقد ملأ زاملين من كتب أهل الكتاب، فسألوه: ما صفة رسول الله في التوراة؟ فقال رضي الله عنه: صفته في التوراة كصفته في القرآن:
[يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا ـ وعُدُّوا معي: أولاً: أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله تبارك وتعالى حتى يُقيم به الملة العوجاء، بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عُميا وآذاناً صُما] ـ نتيجة ماذا هذا كله؟ الخُلق الكريم الذي كان عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
ولذلك أحد السفهاء ذات مرة قال له: إعطني يا محمد فإنه ليس مالك ولا مال أبيك، سفيه والدين قال: داروا سفهاءكم ـ فسيدنا رسول الله أعطاه وقال له: وسيقاد منك يا أعرابي، قال: لا، قال: ولم؟ لأنك لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكنك تعفو وتصفح ـ يعني لست مثلنا ولن تحاسبنا على كل شيئ، لكن شيمتك العفو والصفح، ولذلك قال الحكيم:
[شيمة الأكرمين عفوٌ وصفحٌ،كل ذنبٍ عندكم مغفورٌ].
وشيمة يعني صفات من؟ الجماعة الكرام، وسيدنا رسول الله كأنه بُعث ليعلمنا هذه الأخلاق الكريمة، وخاصة العفو والصفح.
فلما كان في إحدى الغزوات ونزل عليهم المطر في ساعة الظهيرة حتى ابتلت ثيابه صلى الله عليه وسلَّم، وقرر أن يستريح بالجيش شوية.
فذهبوا إلى وادي ـ ووادي يعني مكان بين جبلين، والوادي دائماً يكون فيه بعض النباتات والأشجار، والمياه تنزل فيه فتنبت بعض النباتات وتظهر فيه الأشجار ـ فجاء النبي صلى الله عليه وسلَّم وأمر أصحابه ليستريحوا، ولم يُبقى معه حارس ولا حراس، وعلق سيفه في فرعٍ من شجرة، وخلع رداءه ـ الثوب الخارجي وكان قد إبتلَّ بالماء ونشره على أغصان الشجرة ليجف، واستراح تحت الشجرة.
أحد جبابرة العرب ـ والجبابرة موجودين في كل زمانٍ ومكان ـ نظر من فوق الجبل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نائماً تحت الشجرة وحده، وليس حوله أحد، فقال في نفسه: هذه فرصة أنزل وأقتله وأرح العرب كلهم من شره.
لكن رسول الله كما قال الله:
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ (الطلاق).
وحسبه يعني كافيه، والعرب مع صفات الجاهلية التي كانت فيهم وليتها ترجع هذه الأيام الصفات النبيلة التي كانت فيهم، كانت فيهم صفات نبيلة قبل الإسلام، ولذلك بُعث فيهم الإسلام وبُعث فيهم النبي لهذه الصفات، وليتها ترجع لنا مرةً ثانية.
من هذه الصفات النبيلة أنهم إذا أراد واحد منهم أن ينتقم من شخصٍ لا ينتقم منه غيلة ـ وغيلة يعني بدون أن يعرف، بأن يأتيه من الخلف ويضربه، أو يكون نائماً ويقتله، لا كان هذا عيب عندهم ويعايرون بعضهم بها، وماذا يفعل لكي يقتله؟
لابد أن يقابله وجهاً لوجه، فيظهر الفارس الكبير من الفارس الصغير في هذا اللقاء، فكانت أخلاق كريمة، فلا أحد منهم ـ كما يحدث الآن ـ يشكو أحداً بدون علمه شكوى كيدية، لا فليست شجاعة أدبية، ولكن الشجاعة أن يقول: يا فلان أنا سأشكوك في المكان الفلاني.
وكان من أخلاقهم الكريمة أيضاً أنهم كانوا يحافظون على حُرمة النساء ولو أجنبيات، ولذلك عندما أحاطوا بمنزل النبي صلى الله عليه وسلَّم في يوم الهجرة، كانوا سبعين رجلاً حول البيت ومجهزين بالسيوف، ومستعدين أن يدخلوا في منتصف الليل ليضربوه ضربةً واحدة ليتفرق دمه بين القبائل، فلا يعرفون من الذي قتله، فتعجز قريش عن مقاومتهم فتستسلم للصُلح.
فكلما نظروا يجدوا نساء في البيت، السيدة فاطمة بنت النبي وكانت لازالت موجودة، وزوجة النبي في هذا الحين وكان إسمها سَوْدَة بنت زمعة التي تزوجها بعد السيدة خديجة ـ فكلما نظروا من الباب وجدوا النساء، فيقولون هيا ندخل، فيقولون: كيف ندخل البيت وبه نساء؟ وماذا يقول عنا العرب؟
وانظروا قيمهم ـ يعني ماذا يقول عنا العرب؟ أنهجم على بيته وفيه نساء؟ لا فكانت سُبة في جبينهم أن يدخلوا بيتاً وفيه نساء، فهذه كانت أيضاً من الأخلاق الكريمة الموجودة عندعهم.
وكان من الأخلاق الكريمة التي يعتزُّون بها: الصدق وعدم الكذب، حتى أن أبو سفيان عندما ذهب لهرقل عظيم الروم وقال له: سأسألك عن أمور ـ وهرقل كان في الأصل حبر من ألأحبار المسيحية أو راهب، وكان دارساً ويعرف صفات رسول الله ـ فقال له:
من أتباعه؟ قال: الفقراء، قال: هكذا عندنا أتباع الرسل فقراء، وهذه ليتكم تنشروها للناس، لأن إخوانا ربنا يبارك فيهم مسلطين علينا أصحاب المصالح بالتليفونات، وفاكرين أنني أعرف الوزير فلان وأعرف المحافظ فلان، حتى أن بعضهم على سبيل المثال يظن أنني أعرف السيسي، فأقول له: عندما آخذ منه ميعاد سأخبرك يا بني، وماذا أقول له؟
ألايعرفون من أتباع الصالحين؟ الفقراء، ومن أتباع الأغنياء؟ الدنيا والمناصب والمكاسب، فهل يتبعون الصالحين؟ نادراً ما تجد أحدهم يمشي مع الصالحين.
فقال له: هل يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، لا يقلِّون بل يزيدون، قال: كذلك أتباع الرسل يزيدون ولا ينقصون، قال: ما نسبه فيكم؟ قال: قال: من أوسطنا نسبا، قال: هكذا الرسل يُبعثون في أوسط أنساب عائلاتهم، قال: هل كان أحد أجداده مُلكاً؟ قال: لا، قال: لو لأحدٍ من أجاده مُلكاً، لقلنا يطالب بملك جده، لكن ليس له ملك ولا شيئ، قال: هل جربتم عليه كذباً، قال: لا، وبعد ذلك قال له: ونحن منه في مدة ـ كان في صُلح الحديبية ـ لا ندري ماذا يفعل فيها.
وهذه الجزئية التي إستطاع وضعها ـ وأبو سفيان قال بعدها: لم أجد إلا هذه ـ يعني هذه الجزئية التي أستطيع أن أضعها ـ ولولا أن ينشر العرب عني كذباً لكذبتُ في ذلك اليوم ـ كنت أريد أن أكذب، ولكن خفتُ من الفضيحة ويقولون: أن أبا سفيان كاذب.
فكان الرجل يخشى أن يكون كاذباً، وهذه من أوصافهم الغريبة العجيبة.
السيدة أم سلمة رضي الله عنه وأرضاها حدث لها ما لم يحدث لأحدٍ هي وابنها وزوجها في الجهاد في سبيل الله.
خرج زوجها مهاجراً إلى المدينة، وأخو زوجها أخذها وركبَّها في هودك ـ والهودك محمل فوق الجمل تجلس فيه ويسترها ولا تظهر منه ـ ومعها إبنها ولكنه أخذها ومشى نهاراً، فخرج سفهاء مكة وخرجت عائلتها وعائلة زوجها، وسألوها: أين تذهبين؟ فقال لهم: إنها ذاهبة لزوجها، فأبو سفيان كان عاقلاً فقال له: هوِّن عليك، لأن الرجل عندما رآهم كلهم تجمعوا أخرج النبل الذي معه ويريد أن يضرب به، فقال له: هون عليك وكفَّ عنا نبلك، إنك خرجت بالمرأة في وسط النهار ـ ومعناها أنك تتحدى هؤلاء الجماعة، ولو كنت تريد الخروج كنت خرجت مستتراً في الليل أو في آخر الليل، لكنك خرجت في وسط النهار يعني تتحداهم.
فأهل زوجها قالوا: نأخذ إبننا لا يذهب معها، وأهلها قالوا: لا تترك إبنها، وأخذ هؤلاء يشدوا الولد، وهؤلاء يشدوا الولد، فخلعوا له ذراعيه الإثنين، لأن هؤلاء يشدوه من ذراع، وهؤلاء يشدوه من ذراع، وأهل زوجها أخذوا الولد وأهلها أخذوها ورجعت مرة ثانية.
فظلوا حتى هدأت الأمور وأحد العقلاء ـ ولو أنهم كفار لكنهم أيضاً عُقلاء ـ فأحد العقلاء توسَّط وقال: لماذا تركتم هذه المسكينة هنا وابنها هنا وزوجها هناك؟ ردُّوا لها إبنها واتركوها ترجع لزوجها، فأركبوها جملاً ومعها إبنها ومشت إلى المدينة وليس معها أحد، وهي ماشية رآها رجلٌ ـ وقد أسلم بعد ذلك، ولكنه لم يكن مسلماً في وقتها، وهو سيدنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكان يعرفها، فسألها: أين أنت ذاهبة؟ قالت: إلى زوجي في المدينة، قال: هل معك أحد؟ قالت له: لا، فقال لها: مالك من مَترك ـ يعني لا يصِّح أن أتركك تمشي في هذه الصحراء وحدك.
وانظر إلى الرجولة والشهامة والمروء، أين هذه الأمور الآن في زماننا هذا؟ فأغلب الشباب تحولوا إلى ذئاب ويريدون أن يخطفوا البنات.
وتحكي وتقول: صحبتُ عثمان بن مظعون فما رأيتُ رجلاً أفضل منه، كنا إذا أردنا أن نستريح نخَّ بالجمل ومشى بعيداً، وأدار ظهره لي حتى أنزل من فوقه ـ وانظر إلى الأخلاق الكريمة ـ وإذا أردتُ أن أركب هيأ الجمل وذهب بعيداً وأدار ظهره لي حتى أركب، ويأتي ويأخذ بزمان الجمل ويمشي.
أين هذه الأخلاق يا إخوانا حالياً؟ واتنبهوا أنها أخلاق الجاهلية وليست أخلاق الإسلام، فالأخلاق هي السبب في ظهور الإسلام في هذه البقاع، لكن البقاع الأخرى مع أنها الدولة الرومانية والدولة الفارسية، لكنها كانت كلها ظلم وفساد وغيره غيره، لكن هؤلاء كانت عندهم هذه الأخلاق الكريمة.
قالت: حتى وصلت إلى قُباء ـ وكان زوجها في قُباء وقال: يا فلانة زوجك في هذه القرية وتركني ورجع إلى مكة.
وانظر إلى الأخلاق الكريمة التي كان عليها أهل الجاهلية، فجاء الإسلام، فهل زاد في هذه الأخلاق أم هدمها؟ بل زاد، زاد في الجمال وزاد في الكمال في الأخلاق الإلهية، إن كان في الأدب مع رب البرية، أو في الأدب مع الحضرة النبوية، أو في تعامل الناس بعضهم مع بعض.
فكان التعامل للناس كلهم جمال في جمال، حتى أن الإنسان يعجب عندما يقرأ الذوق العالي لهؤلاء، ويعجب للزمن الذي نحن فيه وقد بلغ الحاصلون فيه على الدكتوراه والرسالات العلمية العظيمة مبلغاً كبيراً، لكنهم تراهم في الكلام أجلاف وغلاظ وشداد، لكن الآخرين مع أنهم كانوا أميين إلا أنهم كان معهم الأدب الرفيع والذوق البديع في خطاب الآخرين.
وهذه رسالة الصالحين يا إخوانا، تهذيب المريدين حتى يكونوا على أخلاق سيد الأولين والآخرين، أو على الأقل على أخلاق الصحابة المباركين، أو على أخلاق الصالحين.
ولذلك أنا أتعب جداً جداً جداً عندما أسمع واحد يكلم أخاً له في الله بلفظٍ غليظ، وبطريقة عنيفة، ما هذا؟ ولماذا؟ فنحن الذين يقول فينا حضرة النبي:
(مثل المؤمن كالنحلة، لا يقف إلا على طيب، ولا يخرج منه إلا طيب، ولو وقف على عودٍ هشٍّ لم يكسره).
[الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما].
من جماله ومن كماله، وليت أحدٌ منكم يعمل لنا بحث في جماليات الكلام بين الصحابة وبعضهم عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
نحتاج رسالة دكتوراه حتى يتعلم الناس منهم الأدب العالي والذوق الرفيع في الحديث مع بعضهمك بعضاً.
كثير من الأحباب يقف أمام شيخه، يقف ويضع رأسه في الأرض أو جالس على ركبتيه، وعامل نفسه مثال الأدب والخشوع، وعندما يبعد قليلاً عن الشيخ ويتكلم مع واحد آخر تجد الشخط والنطر والسب والشتم، ما هذا وما ذاك؟
لا ينفع هذا فالمؤمن دائماً له نصيب في تركة:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (4القلم).
جهادنا في ماذا؟ ليس بفظ كيف للواحد منا يمسك مبرد الإيمان ويبرد كلمات الفظاظة ويمسحها من قاموسه، فلا يكون عنده كلمة فظَّة خالص ولا غليظ في التعامل، بل رقِّة ومشاعر عالية راقية.
كان صلى الله عليه وسلَّم إذا صافح أحداً لم يسحب يده من يده حتى يكون الآخر هو الذي يسحب يده، وانظروا إلى رقة سيدنا رسول الله، وقالوا: كان يأتيه الطفل أو الجارية ـ يعني البنت الصغيرة ـ فيأخذ بيده ويقول له: تعالى عندنا يا رسول الله، فلا يسأله أين أنت ذاهب؟ ولا أين تذهب بي؟ فيمشي مع الطفل حتى يأخذه للمكان الذي يذهب إليه.
وانظر للآخرين أصحاب الذوق الرفيع، يقول لهم سيدنا رسول الله: السلام عليكم، يردون السلام، وكان يستأذن ولا يصحب جماعة ويذهب.
فإذا إستضافه أحدهم فكان يستأذن فلا يذهب ومعه جماعة، فذات مرة قال له أحد أصحابه: أنا أدعوك اليوم عندي، فقال له: أنا وعائشة؟ فسكت الرجل، وكررها: أنا وعائشة؟ قال: أنت وعائشة، فقال: نعم نأتي نحن الإثنان، يعني يستأذن حتى لزوجته، ولا آخذ معي عشرة إذا دعاني واحد وأقول: هو دعانا؟ أدبٌ رقيق من الحبيب ومن أصحاب الحبيب رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
ولما كان يدعوه أحد كان لا يتركه يخرج حتى يُصلي ركعتين، ولذلك رأيناها مع الجماعة الصالحين، رأيناها مع مولانا الشيخ محمد علي سلامة رضي الله عنه وأراضاه، كان عندما يدعونا أحدٌ لغداء أو ما شابه ويقول له: سنصلي العصر هنا يا بني، لأنه ينفذ السنة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلا يخرج من البيت إلا إذا بارك المكان، فبما يباركه؟ يصلي فيه ركعتين لله تبارك وتعالى.
وهم كذلك عندما كان يصلي سيدنا رسول الله ركعتين عندهم، يقول له: صل هنا يا رسول الله ويحدد له المكان الذي يرغب لصلاته فيه، لماذا؟ يقول له: أنا أريد أن تكون مصلاي.
يمشي رسول الله فيحيطوا هذا المكان ويعملوه مصلاهم في البيت، وكل من يريد الصلاة أو يختلي بنفسه قليلاً يكون في هذا المكان الذي صلى فيه النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.
ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب ـ وصخَّاب يعني يتكلم بصوت عالي، وأظن أننا لم نسمع أحداً من الصالحين يتكلم بصوتٍ عالي أبداً، بل بصوتٍ هادئ حتى في الخطب والدروس، الجماعة الذي يتباهوا بصوتهم العالي في الخطب والدروس ليس لهم بموضوع سيدنا رسول الله.
ويقولون: حتى كان في صوته صهل، يعني بحَّة بسيطة، فكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في صوته بحَّة بسيطة، معى أنه كان يُسمع كل من حوله، وكان إذا خطب على منبره في المدينة، قيل: كان يسمع العواتق ـ يعني البنات الأبكار ـ في خدورهن وهن في سترهن وهن في بيوتهن، فلم يكن هناك ميكروفونات ولا غيره، مع أن الصوت هادئ، لكن من الذي يبلغ؟
عليك الآذان وعلينا البلاغ، وليس الآذان بالصوت العالي، فالبلاغ للقلوب، ولا يوصل الصوت إلى القلوب إلا علام الغيوب.
لكن الصوت من اللسان لا يتجاوز الآذان، فأعلي صوتك كما تريد فلن يصل إلا إلى الأذن، لكن هل يدخل إلى القلوب؟ لا.
ولا صخاب في الأسواق، فكان مجلسه مجلس علمٍ ووقار، فليس له مجلس إلا بالعلم، حديث عن آية في القرآن، شرح لحكم من أحكام العبادات، أو أحكام المعملات، أو من الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها في كل الأوقات، سؤالٌ يسأله المرء في أمورٍ يحتاجها في أخراه، أو في أمورٍ تقربه إلى مولاه، فهذه الحكايات التي كانت في مجلس رسول الله.
لا تُؤبَّن فيه الحُرمات، ليس فيه غيبة ولا نميمة أبداً، ممنوع فلا يسمح بالغيبة ولا النميمة ولا القيل ولا القال، وهي المفروض أن تكون مجالس من؟ أحباب الصالحين على الدوام.
لماذا الصالحين جاءوا لنا بالأعمال التي تشغل الوقت؟
حتى إذا فرغنا فلا تنقلب النفوس إلى القيل والقال، فليس له وقت لذلك، فبمجرد أن نقرأ الصلوات وذكر الله ونسمع كتاب الله، ونسمع بعض المدائح النبوية والحكم الإرشادية من الأحباب في الله، وبعد ذلك إذا كان هناك مصلحة نناقشها معاً، أو فيه أخ مهموم بأمر نبحثه سوياً بلطف ورفق، ونقوم من هذا المجلس المبارك لم نرتكب فيه شيئاً يُغضب الله تبارك وتعالى.
فمجالسهم جنة:
(إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا).
[الترمذي عن أنس رضي الله عنه].
والجنة:
﴿ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ (25الواقعة).
فلسنا فاضيين للكلام فيها في السياسة، ولا الكلام في الاقتصاد، ولا الكلام في الانتقاد لأي أمرٍ من الأمور، فهذا الكلام غير فاضيين له، فسياسة نفوسنا أننا نريد أن نضبطها مع بعضنا، حتى نتعاون في الوصول إلى مراضي الله، وفي الوصول إلى معية الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
هذا يا إخوانا باختصارٍ شديد جهاد العارفين، ولذلك أنا دائماً أقول: أن الكتاب الخاص بالمقربين للمجاهدة كتاب: {الجمال المحمدي} فلا يحتاج إلى قراءة، ولكن يحتاج إلى هضم وتنيفذ على مسرح نفسك، فيكون الإنسان فينا صورة صغيرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فعندما نرى ولد صغير من صغارنا شاطر في الكورة مثلاً ويُقلد لاعب مشهور، فنقول: هذا الولد يُذكرنا باللاعب فلان لأنه مثله تماماً، أليس كذلك؟ أو مغني يقلد يس التهامي أو غيره، نقول: أن فلان هذا يذكرنا بالشيخ فلان، أو قرآن ففيه أولاد تقلد الشيخ عبد الباسط، والشيخ البنا وغيره وغيره، أليس كذلك؟
فمن نقلد في الأخلاق؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، حتى يصل الواحد منا إلى أن يكون صورة على قدره من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وحتى يكون صورة من رسول الله فلا يجهل إذا جهل الجاهلون، ولا يغفل عن ذكر الله إذا غفل الغافلون، ولا ينسى طاعة الله لحظة إذا نسي الساهون، بل دائماً في طاعة لله، وفي ذكرٍ لمولاه، وفي تأسي واقتداء بحبيب الله ومصطفاه، وله في الصالحين أُسوة وقدوة، وإذا قالت له نفسه:
أنت في زمان صفته كذا وكذا، وكيف تعيش مع الناس؟ ولن تعرف كيف تعيش في وسطهم، ولن تعرف أن تحصل شيئ بأخلاقك هذه، فلابد أن تكون على أخلاق السوء حتى تعيش مع أهل السوء.
فما شأننا وهذا الموضوع، نحن على أخلاق سيدنا رسول الله ومن كان على أخلاق رسول لاالله فمولاه يتولاه:
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ (الطلاق).
وأكتفي بهذا القدر.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الأحتفال بالمولد النبوى الشريف الأربعاء: 20/10/2021 موافق 13 ربيع الأول 1443 المقطم ـ بعد صلاة العشاء