• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

3 مارس 2022

أصول الفتح القلبي

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

أصول الفتح القلبي

أول أصل من أصول صفاء القلب وارتقائه إلى المقامات الكمالية والأكملية، قال فيه الصالحون رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين: (تصحيح النية، وصفاء الطوية، وإخلاص العمل لرب البرية).

وهذه حكمة انتقلت من صدور الصالحين إلى صدور أهل سابقة الحُسنى من الصادقين من المريدين.

تصحيح النية

أول أصل من الأصول لفتح القلب لمرادات الله وفتح الله، هي أن يلحظ الإنسان التطبيق العملي لقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى }[1]

لم يقُل ما عمل، ولكن ما نوى، وإنما للتأكيد، فالإنسان إذا عمل عملاً وأراد أن يفوز بالقبول لا بد أن يتحرى النية قبل بداية كل عمل، والنية قد تكون رغبة في الفرار من النار الأُخروية، وقد تكون رغبة في الجنان النعيمية، وقد تكون مرضاة لوجه الله سبحانه وتعالى وهي الأكملية، فعلى حسب النية يكون المراد من رب العباد تبارك وتعالى للعبد.

وكثيرٌ من المسلمين العاديين يظن أن النية في الأعمال التعبدية فقط، إن كان في الصلاة أو الصيام أو الحج، لكن النية تجعل كل أعمال الإنسان – حتى الأعمال العادية – تنقلب إلى عبادة لله تبارك وتعالى، وهذا ما سبق به الصالحون، فإنهم استحضروا قبل كل عمل حتى الأعمال العادية، وجعلوا كذلك نواياهم كلها خالصة لوجه الله لا يبغون فيها غير رضاه.

فإن الله تبارك وتعالى قال في القرآن محدداً لنا: ” فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ” (110الكهف) لم يقل: يرجوا الجنة، ولكن (يرجوا لقاء ربه) والشرك هنا هو الشرك الخفي، ومعناه أن يكون قاصداً بهذا العمل غير الله، كأن يكون قاصداً للشُهرة، أو قاصداً لمنفعة يرجوها من عند الناس، أو يكون قاصداً لحب الظهور، أو أي قصد خفي ليس فيه الإخلاص الكلي للرب العلي تبارك وتعالى.

وبيَّن صلى الله عليه وسلَّم في القرآن حال أهل اليمين في نواياهم، وحال السابقون المقربون في نواياهم، فأما أهل اليمين فذكرهم الله سبحانه وتعالى فقال: ” يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ” (90الأنبياء) يعني رغبةً في الجنة، ورهبة من النار وأهوال يوم القيامة.

أما السابقون المقربون وهم الذين أمر الله النبي أن يكون معهم على الدوام، ويصبِّر نفسه في مجالستهم على مدى الأيام، فقال فيهم: ” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ” (28الكهف).

فهذا صنفٌ، وهؤلاء صنف، السابقون المقربون يريدون وجه الله، وأهل اليمين إما أن يكونوا يرجون الفرار من أهوال النار وأهوال يوم القيامة، وإما أن يطمعون في نعيم الجنان والثواب العظيم من حضرة الرحمن تبارك وتعالى.

فمن أراد الفتح الإلهي القلبي بأن يكون داخلاً في قول الله: ” وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ” (282البقرة) أو يحظى بقول الله: ” آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ” (65الكهف) أو يحظى بفتح الله ووراثة رسول الله في قوله عن الله: ” قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ” (108يوسف) أن يكون صاحب بصيرة منيرة، ويرث في هذه البصيرة الذات المنيرة؛ ذات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، وغيرها من الفتوحات الوهبية الإلهية المنبثة في القرآن الكريم.

من يريد ذلك لا بد أن تكون نواياه كلها في أي قول أو عمل يعمله لوجه الله لا يريد سواه، وهذا ما قاله الله عز وجل عن أنبياء الله ورسل الله: ” قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ ” (47سبأ) لأنه لا يريد بدعوته إلا وجه مولاه.

وعلَّمه النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه المبرزين ومن بعدهم على نهجهم إلى يوم الدين، وقال الله عنهم في كتابه المبين في سورة الإنسان: ” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ” (9الإنسان) فحتى الإطعام لوجه الله.

والطعام للمرء إذا طعم ينوي بطعامه هذا أن يستعين به على طاعة الله، فيكون هذا الطعام كله عبادة لله، أو ينوي ويستعين بالله لمقام أعلى وهو أن يفتح الله عليه عند الطعام فيشهد فيه صُنع الحي القيوم تبارك وتعالى ويُعرض عليه قوله عز شأنه: ” فَلْيَنْظُرِ الانْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلانْعَامِكُمْ ” (24-32عبس).

وفي ذلك يقول بعض الصالحين: (من أكل ولم يشهد المنعم الرزاق فكأنما قد سرق) لأنه يأكل من ورائه، والإنسان الحاضر بقلبه مع ربه لا بد أن يحضر مع الله حتى في أكله، فيشهد صُنع الله وكيف ساقه له وجهزه له وأتى به له وقسمه له، وهذا بالنية التي تسبق الطعام.

النية في الفرائض

النية في العبادات لا بد أن تسبق العمل إذا كان العمل فريضة، فلا بد للإنسان أن ينوي قبل الصلاة تكبيرة الإحرام، فهذا على مذهب الإمام الشافعي والمذاهب المعتمدة.

والإمام مالك رضي الله عنه يرى أن الإنسان يطيل تكبيرة الإحرام حتى ينوي أثناء النطق بها هذا العمل لوجه الله تبارك وتعالى.

فإما أن ينوي قبل أن ينطق بالتكبيرة وهنا لا عليه أن ينظق بالتكبيرة مسرعاً، وإما أن ينوي أثناء التكبيرة فيطيل التكبير: (الله أكبر) بالمد الطويل، ويمر على قلبه هذه النية وهو يكبر رب البرية سبحانه وتعالى.

وكذلك لا يجوز للإنسان الصيام في الفريضة إلا إذا نوى قبل الفجر، لقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ }[2]

لا بد أن تكون النية قبل أذان الفجر لو لم يتسحر، أو تسحر ولم ينوي حتى أذَّن الفجر، فلا تجوز النية بعد صلاة الفجر، لأن الصيام يبدأ مع أذان الفجر، والنية في الفريضة لا بد أن تكون قبل العمل.

النية في النوافل

الرحمة المهداة والنعمة المسداة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جعل لنا في النوافل غير الصلاة، بأن ننوي أثناءها أو بعدها، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم إذا أصبح يسأل زوجاته عن طعام، فإن قيل: لا يوجد، كان ينوي الصيام.

فينوي الصيام في النافلة أثناء النهار وليس قبل الفجر كالفريضة، ودرج هذا العمل مع جميع الأعمال، لأنه يريد منا أن نكون عابدين لله في كل الأقوال والأفعال والأحوال، قال صلى الله عليه وسلَّم في الأكل:

{ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ }[3]

وفي رواية أخرى:

{ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ، فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلَّا لُقْمَةٌ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ }[4]

رحمة بنا وشفقة علينا جعل النية في هذه الأعمال التي تتحول إلى عبادة بالنية الطيبة لله سبحانه وتعالى، ولا مانع إذا نسي الإنسان أو سها في أول العمل أن يؤخرها ويقولها إذا تذكرها أثناء العمل، أو بعد العمل.

ويلاحظ الإنسان كذلك أن كل أعماله يستطيع أن يحولها إلى عبادة حتى النوم، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ نَامَ عَلَى تَسْبِيحٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ تَحْمِيدٍ يُبْعَثُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَامَ عَلَى غَفْلَةٍ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الذِّكْرَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ }[5]

ثم ذكر ما أردنا التنبيه عليه وهي أن النوم يكون عبادة، فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ }[6]

وفي الأثر: ((من نام على ذكر الله، كُتب طوال ليلته هذه قائماً ذاكراً، فإذا استيقظ قالت له الملائكة: ادعُ فإن لك دعوة لا تُرد)).

إذاً المؤمن يستطيع أن يجعل كل أعماله وكل ليله ونهاره طاعة وعبادة لله؛ إذا استحضر النية الصالحة بقلبه، والنية محلها القلب، لأنه هو معقد النوايا لله.

ولذلك كان الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه إذا استعان بالنوم في القيلولة على قيام الليل يقول لمن حوله: (لا توقظوني من وردي)، فكأن النوم وردٌ له، لأنه ينام حتى يستجم الجسم قليلاً فيستطيع أن يقوم الليل وهو يقظٌ وحاضرٌ بين يدي مولاه تبارك وتعالى.

لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم كرَّه للعبد المسلم أن يقوم الليل وهو يغالب النوم، لأنه ربما يغلب عليه النوم فتأتيه وساوس الشيطان فينطق بما لا يحبه الرحمن تبارك وتعالى، إذاً لا بد أن يكون يقظاً ومنتبهاً لما يقول وينوي نية صادقة قبل عمله لله سبحانه وتعالى.

التحدث بالعمل

ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلَّم من أمر قد لا يفطن له كثيرٌ من الناس، وهو أن الإنسان يعمل العمل سراً بينه وبين مولاه، ثم بعد ذلك بعام أو أقل أو أكثر تضحك عليه نفسه فيُخبر الناس بما عمل على سبيل الفخر أو الخُيلاء فيحبط عمله، لأنه نوَّه بما لا ينبغي أن ينوه به نحو مولاه سبحانه وتعالى، فإن عمل السر يفضُل عمل العلانية بسبعين ضعفاً، ولذلك إذا نوى هو أن يعمل العمل سراً، فينبغي عليه أن يحافظ على سريته حتى يأخذ أجره كاملاً، ويهبه الله سبحانه وتعالى مواهب عباده المقربين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون منهم أجمعين، فقال صلى الله عليه وسلَّم في ذلك:

{ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُكْتَبُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي السِّرِّ يُضَعَّفُ أَجْرُهُ سَبْعِينَ ضِعْفًا، فَلا يَزَالُ بِهِ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَذْكُرَهُ لِلنَّاسِ وَيُعْلِنَهُ فَتُكْتَبَ عَلانِيَتُهُ، وَيُمْحَى بِضَعِيفِ أَجْرِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ لا يَزَالُ بِهِ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَذْكُرَهُ لِلنَّاسِ الثَّانِيَةَ، وَيُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُحْمَدَ عَلَيْهِ فَيُمْحَى مِنَ الْعَلانِيَةِ، وَيُكْتَبَ رِيَاءً }[7]

وأظن هذا ما يقع فيه كثيرٌ من الناس في زمننا هذا، وبخاصة النساء، تريد أن تتحدث وتقول: أنا عملت لفلانة كذا وكذا، وأنا أديت لفلان كذا وكذا.

الإنسان له مرة أن يُحدِّث بها إذا أراد أن يُعلِّم الناس ماذا يصنعون إن كان مُعلماً أو عالماً، أو يرشد الناس إلى أفضل ما يتوجهون به إلى الله، لكن إذا جعل هذا العمل حديثه في كل مجلس، ويتحدث به هنا وهناك، كُتب كما قال صلى الله عليه وسلَّم رياء.

الإخلاص

ولذلك فإن النية تحتاج إلى إخلاص بالكلية، وإلى صفاء الطوية، فلا يكون في طويته وفي قلبه رياء، ولا حب للشُهرة، ولا حب للسُمعة، ولا رغبة في الظهور، ولا رغبة حتى في إظهار الكرامات على يديه ليُقبل عليه الخلق، أو أي رغبة من الرغبات الدنية أو الدنيوية، أو الرغبات التي تشبه الأعمال الأُخروية لكنها ليس فيها تُقى لرب البرية سبحانه وتعالى.

وضرب لنا صلى الله عليه وسلَّم أمثلة لما يحدث بين أصحابه حتى نعرف أهمية النية، فأوصى سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال له:

{ أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ }[8]

فالعبرة ليست بكثرة الأعمال، وإنما العبرة بالإخلاص في أي نية يتوجه بها الإنسان إلى رب البرية سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلَّم في الصلاة:

{ قَدْ يَتَوَجَّهُ الرَّجُلَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلَاتُهُ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ إِذَا كَانَ أَفْضَلَهُمَا عَقْلًا، وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ وَصَلَاتُهُ لَا تَعْدِلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[9]

وقال في الرواية الأخرى:

{ إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي الصَّلَاةِ مَنَاكِبُهُمَا جَمِيعًا، وَلَمَا بَيْنَ صَلَاتِهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }[10]

ودعا صلى الله عليه وسلَّم إلى الإنفاق فقال:

{ سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا }[11]

إذاً العبرة بالنوايا، واعلموا علم اليقين يا أحبة أن الصالحين الصادقين وما يسمون في مخطوطنا العارفون؛ لم ينالوها بكثرة الأعمال، وإنما نالوها بالإخلاص في النوايا وصلاح الأحوال، فإن النوايا تجعل كل أعمالهم خالصة لوجه الله، حتى قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ }[12]

وقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ }[13]

وقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ }[14]

إذاً علم النوايا هو أُسُّ العلوم كلها لمن أراد أن يكون قريباً من القريب سبحانه وتعالى، وأن يكون خالصاً مخلصاً، ويفوز بالمواهب الربانية.

إذاً لا بد من تصحيح النية وجعلها خالصة لوجه الله.

تصفية الطوية

تصفية الطوية من الأمور التي تحسنها النفس للإنسان من الرياء والسمعة والظهور والشهرة وغيرها، وأن تكون النية مرتبطة بالإخلاص.

ما الذي يعكر صفو هذا الأساس؟ وما الذي ينبغي أن يبدأ به المريد الذي يريد أن يحصل على ما قلناه من المواهب؟ أن يعالج النفاق وأمراض النفاق، فإن النفاق يجعل القلب غير خالص لحضرة الكريم الخلاق تبارك وتعالى.

إذاً لا يكون رجلاً من الصالحين أو من المريدين الصادقين حتى يتخلص من كل أحوال المنافقين، إن كان النفاق العملي أو النفاق القلبي، والنفاق القلبي والحمد لله لا يوجد عند جموع المسلمين الصادقين.

لكن النفاق العملي الذي يستهين به المسلمين، ويستهين به أيضاً – وهذا في غاية السوء – كثيرٌ من المريدين، يقول فيه حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ }[15]

هذه الأوصاف لا بد أن يتبرأ منها كلها بالكلية، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلَّم كما حكى عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال:

{ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ }[16]

لو لم تعطه لكُتبت كذبة، ولحاسبها الله عز وجل عليها يوم القيامة، وكان صلى الله عليه وسلَّم يقول عن ذاته الشريفة:

{ إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا }[17]

يعني حتى المزاح لا يُسمح فيه بالكذب، فالكذب هو الكذب، ولا يُوجد في الإسلام كذبٌ أبيض وكذبٌ أسود.

ومن عجائب هذا الأمر أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تفلي رأس أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، ثم تقصع أظفارها على غير شيء، فتجعل له صوتاً كقصع القمل، فنبهها صلى الله عليه وسلَّم أن هذا الفعل نوعٌ من الكذب، فقال:

{ مَهْلاً يَا عَائِشَة أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ هَذَا مِنْ كَذِبِ الأَنَامِل }[18]

ورُوي أن الإمام البخاري ذهب إلى رجل في حضرموت عنده حديثٌ لم يسمعه من غيره، والرجل كان له جمل قد ندّ – يعني ذهب بعيداً – فذهب لإحضار الجمل، ففتح حِجره ليوهم الجمل أن في حجره طعام ليأت إليه، فما كان من البخاري إلا أن تركه وركب ومشى، فتعجب الرجل، فقال: أليس هذا من الكذب؟!! وإذا كنت تكذب على حيوان، فكيف آمنك على حديث النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم؟!.

فإذاً لا بد أن يُطهِّر السالك نفسه من النفاق أولاً، حتى يدخل الإخلاص، فالإخلاص لا يستقر في قلب فيه صفةٌ من صفات المنافقين لأنه يتعارض معها.

فالنفاق أن يعمل الإنسان عملاً يبغي به الظهور عند الناس، أو الحصول على شيء من الناس، أو رضا الناس، وهذا يتنافى على من يقصد في عمله كله وجه رب الناس سبحانه وتعالى.

ولذلك قيل: (إذا برئ الإنسان من أوصاف النفاق وأخلاق المنافقين، لديها يُصبح قلبه سليماً، وحاله مستقيماً) وقال سلفنا الصالح: (ليس الجهاد جهاد النفس في الأوراد، ولكنه في تصحيح خطوط الإمداد مع رب العباد تبارك وتعالى، وذلك لا يتم إلا بإخلاص القصد).

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، ومراقبة الله تبارك وتعالى في كل وقت وحال، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلَّم في كل شيء نقوم به في الدنيا، وأن نُحشر معه في الآخرة أجمعين.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[2] جامع الترمذي وأبي داود عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها

[3] سنن الترمذي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها

[4] سنن أبي داود والطبراني عن أمية بن مخشي رضي الله عنه

[5] الثاني من الفوائد المنتقاه لأبي القاسم الأزجي عن الحكم بن عميررضي الله عنه

[6] سنن النسائي وابن ماجة عن أبي الدردراء رضي الله عنه

[7] شعب الإيمان للبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه

[8] الحاكم في المستدرك وحلية الأولياء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

[9] المعجم الكبير للطبراني عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

[10] الزهد والرقائق لابن المبارك

[11] سنن النسائي وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه

[12] صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه

[13] البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

[14] صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[15] البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[16] سنن أبي داود والأحاديث المختارة

[17] معجم الطبراني عن ابن عمررضي الله عنهما

[18] أودره الديلمي عن عائشة رضي الله عنها 

درس بعد صلاة العشاء الجميزة – السنطة -الغربية الخميس 29 من رجب 1443هـ 3/3/2022م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid