الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، وأشهد ان سيدنا محمداً عبد الله ورسوله الرؤوف الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وافتح لنا أبواب الخير، واغلق عنا أبواب الشر، وانصرنا على أنفسنا وعلى أعدائنا أجمعين .. آمين يا رب العالمين.
من فضل الله تبارك وتعالى علينا جماعة المسلمين لو عقلنا أنه لم تحدث حادثة في الكون إلا وحدث مثلها في زمن حضرة النبي، لنعلم علم اليقين كيف عالج النبي هذه المشكلة وخرج منها وصحبه الكرام بيُسر وهناء وسلام، فلا نحتار عند أي مشكلة تنزل بنا، ولا نذهب إلى أصدقائنا نستلهم تجاربهم ولا أعدائنا، وعندنا تجربة نبينا الذي أوحى الله إليه في هذه المشكلة طريقة حلها، وحلها كما ينبغي أن يكون الحل السليم.
ضائقة الهجرة
فنحن في هذه الأيام في ضائقة اقتصادية، والكل يعاني، ومهما كان وقع هذه الضائقة وشدتها فلن تبلغ ما حدث في حياة النبي عند هجرته إلى المدينة المنورة، فقد هاجر معه أفواج من العرب من مكة وغيرها، وتركوا دورهم وتجاراتهم وأموالهم وذهبوا إلى المدينة المنورة مجردين من المال والعتاد، وكان هذا عبئاً باهظاً على أهل المدينة الذين هم في أنفسهم فقراء، ليس لهم دخل إلا النخيل يحصدون محصوله كل عام، وهذا الذي يعيشون عليه طول العام.
ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلَّم أمام هذه المشكلة لعلنا نتأسى به، ونعمل بقول الله في شأنه: ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ” (21الأحزاب).
لا تحتاجون إلى شرق ولا غرب ولا غيره وبينكم تعاليم النبي وشريعة النبي والقرآن الكريم الذي أنزله الله على النبي يا أهل الإسلام والقرآن.
دعا أولاً بأن طهَّر الصدور من الشُح والأثرة وحب الذات والأنانية، وأعلن المبدأ العام الذي به تمام الإيمان:
فانشرحت صدور الأنصار، وفتحوا صدورهم أولاً، وفتحوا بيوتهم ثانياً، وجادوا بأموالهم وتجاراتهم ونخيلهم على أصحاب نبيهم وهم فرحون بذلك وليسوا محزونين أو رغماً عنهم، بل بفرح واستبشار.
حتى كان الرجل المهاجر يذهب إلى المدينة، فيتنافس على أخذه خمسين رجلاً على الأقل من الأنصار، كل رجل يريد أن يفوز بهذه الغنيمة، لا يرى أنها غُرم، ولكن يرى أنها غُنم، لأنه يفوز برجل مؤمن ويُنفق عليه مما آتاه الله، ويجعل الله له ثواباً أجر ذلك لا يعلمه إلا حضرة الله تبارك وتعالى.
هل سمعتم أنه حدثت أزمة بعد هجرة المهاجرين للمدينة؟ كلا، عاشوا جميعاً في حب ووداد حتى وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم ونرجوا أن يطبق الله هذا الوصف علينا فقال:
ثم لاحظ النبي صلى الله عليه وسلَّم أن هناك طبقة – وهي في كل زمان ومكان – من التجار المنتفعين في أوقات الأزمات يحتكرون السلع ويعطشون السوق، ثم يرفعون الثمن أضعافاً مضاعفات، ويبيعونها بعد ذلك لكي يكسبوا ويكونوا من أصحاب الثروات الكبيرات، فأنزل تحذيره الشديد لهذا الأمر، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
يعني أخطأ طريق الجنة، لأنه اختار طريق النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن احتكار أي سلعة غذائية يحتاجها الناس ولا يستغنون عنها، وجعلها جريمة نكراء، بل جعلها كبيرة من الكبائر يؤاخذ صاحبها عليها في الدنيا بأشد الحساب، وله في الآخرة عند الله أشد العذاب.
فتصارع التجار إلى حل الأزمات طمعاً في رضا الله والفوز بما أعده الله للعاملين بما أمر به رسول الله، فكان التاجر يتنازل عن أرباحه ويبيع البضاعة بقيمتها الأساسية ويرفض أن يأخذ ربحاً فيها، بل بعضهم كان يتصدق بالبضاعة بما فيها يرجو ثواب الله تبارك وتعالى.
حدث قحط بالمدينة ولم يعد بالمدينة كلها حفنة قمح، وجاء للتاجر عثمان بن عفان ألف جمل من بلاد الشام تحمل القمح، وأظن هذا في زماننا فرصة للمحتكرين، فذهب إليه تجار المدينة وتجار التجزئة يطلبون أن يأخذوا البضاعة بضعف ثمنها، قال: هناك من أعطاني أكثر من هذا، قالوا: نعطيك الضعفين، قال هناك من أعطاني أكثر من هذا، فتفقدوا بعضهم وقالوا: ومن الذي جاءك ونحن تجار المدينة ولم يتخلف عنا رجل واحد؟ قال: يعطيني فيها الله عشرة أضعافها، أُشهدكم أني جعلتها صدقة لفقراء المسلمين.
هؤلاء التجار الذين يقول فيهم الواحد القهار: ” رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالابْصَارُ ” (37النور).
وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو تاجر آخر، دعا له النبي لعفته عندما استضافه أخ من الأنصار وقال له: يا أخي هذه داري نقتسمها نصفين، وهذا مالي نقتسمه نصفين، وأراك غير متزوج وأنا لي زوجتين فانظر إليهما، وأيهما أعجبتك طلقتها فإذا انتهت عدتها تتزوجها، فقال له: بارك الله لك في زوجك، وبارك الله لك في مالك، وبارك الله لك في بيتك، ولكن دُلني على السوق.
أُعجب النبي به لعفته، لأن الإسلام دين العزة والعفة، فالمؤمن لا يمد يده إلا إلى حضرة الله مهما حدث له، فدعا له بالبركة، فكان إذا تاجر في تراب يربح منه ذهباً بسبب دعوة النبي، حتى أنه عند وفاته وكان له أربعة زوجات ولهن جميعاً الثُمن، وكان نصيب كل زوجة ثمانين مقطفاً ذهباً حلالاً من تجارته التي كان يقوم بها.
جاءته تجارة كبيرة في زمن قحط في المدينة، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
هؤلاء هم التجار الذين يقضون على كل مظاهر الاحتكار، ويوفرون السلع للمسلمين.
أزمة غزوة تبوك
هدَّد الروم النبي ومن معه، وجهَّز ملك الروم في حمص في بلاد الشام أربعمائة ألف جندي يسيرون إلى المدينة ويقضون على النبي ومن معه، وكانت أزمة شديدة ليس لها حل، فأهل المدينة الذين يعتمدون على النخيل كان لم يحن بعد وقت حصاده، والناس في شدة.
كيف قضى النبي صلى الله عليه وسلَّم على هذه المشكلة وحل هذه المعضلة؟ دعا المؤمنين إلى العمل بقول الله: ” وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ” (2المائدة) فجمعهم وقال:
وجعل كل رجلين من المتيسرين يحملون معهم رجلاً من الفقراء والمساكين، يخدمهم ويتناوبون الركوب وهم يكفلونه من حيث الطعام والشراب والركوب وغيره حتى ذهبوا إلى تبوك، والنبي صلى الله عليه وسلَّم لأن الله وعده أن ينصره على أعدائه وبينه وبينهم مسيرة شهر، إذا سمعوا أنه متوجه إليهم وبينه وبينهم مسيرة شهر يقذف الله في قلوبهم الرعب وترتجف أفئدتهم ويتفككون ويهربون، ويذهب النبي إلى تبوك فلا يجد أحداً فيها من الروم، قال صلى الله عليه وسلَّم:
أين سلاح الرعب؟ عند الله، ما المصانع التي تخصصت في إنتاجه؟ عند حضرة الله ولا أحد سواه، وهذا سلاح من أسلحة المؤمنين في كل زمان ومكان إذا أحسنوا العمل وأتقنوا اتِّباع النبي وقاموا بشرع الله، فإن الله يؤيدهم بنصرته بالأسلحة الإلهية التي لا مثيل لها في عالم الناس إلى آخر الدنيا.
فكانوا جميعاً إخوة متعاونين متآلفين فيما بينهم، لأنهم تعاونوا في المركب والزاد ولم يكن بينهم خُيَلاء ولا كبرياء، ولا يرى أحد منهم أنه أفضل من أخيه لأنه أنفق، لأنهم يعلمون أن التقي عند الله هو الذي مدحه الله وأثنى عليه في كتاب الله: ” إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ ” (13الحجرات) والتقوى محلها القلوب.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يكشف كروبنا، وأن يُزيل غمومنا وهمومنا، وأن يبارك لنا في بلادنا، ويبارك لنا في أنفسنا وأولادنا وزوجاتنا وبناتنا، وأن يبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وأموالنا، وأن يبارك لنا في كل شيء لنا أو حولنا، وأن يغنينا بفضله عن جميع المساعدات والمعونات، وأن يجعلنا أغنياء به في الدنيا سعداء به في الآخرة أجمعين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم