الحمد لله واسع الفضل والكرم والجود، عطاءه لعباده جل وعلا بلا حد ولا حدود، وإكرامه لأولياءه وأصفياءه لا يستطيع أن يصفهم ولا ينعتهم مع ما هم فيه من عظيم فضل الله إلا من تولاه مولاه ووالاه، وأوصله بحبيبه صلى الله عليه وسلم ومصطفاه، والصلاة والسلام على مصدر كل إنعام، وسبب كل نعمة ظاهرة أو باطنة لنا ولجميع الأنام، مصباح قلوبنا في الدنيا وشفيعنا يوم الزحام، وبابنا إلى الجنة، وجارنا في مواجهة الملك العلام، سيدنا محمد، وآله الكرام، وصحابته البررة الأنقياء العظام، وكل من والاهم على هذا الهدى القويم، وعلى هذا المنهج الكريم، وعلينا معهم أجمعين … آمين آمين يارب العالمين.
إخواني وأحبابي بارك الله U فيكم أجمعين:
أراد الله عزوجل وهو الفعال لما يريد أن أن يخلصنا من شواغلنا، وأن يفرغنا من مشاكلنا، وأن يجعلنا نتوجه إليه بالكلية في شهر العطية، فدعوا الخلق خلف ظهوركم ولا تفتشوا فيما دار، ولا تشغلوا أنفسكم بصغار أو كبار، بل اجعلوا كل همكم في وجه الله، وفي حبيب الله ومصطفاه، وفي الهناء العالي الذي جعله الله لنا في هذه الأيام المقبلة بالخير والبركة علينا وعلى المسلمين أجمعين إن شاء الله.
كلنا والحمد لله تجار مع العزيز الغفار، ورئيس شعبة التجار هو النبي المختار، ونقباء التجار هم أصحابه الأخيار، وآل بيته الأبرار، وأتباعه على هذا الدرب إلى يوم القرار، وأي تاجر في ميدان الإيمان يتعامل مع حضرة الرحمن ومع وكالة النبي العدنان لا تفوته هذه الفرصة في اغتنامها، والفوز بما هيئ الله عزوجل فيها لأهلها، وإلا كان من المفلسين يوم الدين، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
إذاً يا أحباب الله ورسوله من خرج من رمضان ولم ينل مقام مغفرة الغفار فقد باء بالخزي والهوان والذل والخسران في الدنيا ويوم لقاء الديان عزوجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديثٍ متعجباً:
الذي لا يحصل على المغفرة في هذا الأوكازيون المفتوح فمتى يحصل عليها؟! وهذا لكل المؤمنين ولجميع المسلمين، فالكل يحتاج في هذا الشهر المبارك إلى مغفرة حضرة الغفار عزوجل ، ولذلك نوَّع الله فيه أبواب المغفرة، ونوَّع فيه الأعمال وأصناف العبادات، والمهم في العمل القبول، فيريد العبد أن يقبل الله منه ويتقبل عمله ويعطيه المغفرة فيصوم، قال صلى الله عليه وسلم:
ثم يقول لنفسه لعل في نفسي علة خفية تمنع قبول أعمالي كلها عند رب البرية، فأسارع إلى العطية لأنها أسرع عمل لنيل المغفرة وإكرام الله جل في علاه، فيسارع إلى إفطار الصائمين، قال صلى الله عليه وسلم:
أما أهل الإنعام فيعلمون علم اليقين أن هذا شهر العطاء التام من الله U، وفيه تُفتَح كل كنوز الخير والفضل والجود والإكرام، ويكفينا في هذا ما رواه سيدنا طلحة الخير بن عبيد الله t فقد حكى أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قَبِيلَة بُلَيٍّ أَسْلَمَا، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخِّرَ الآخَرُ بَعْدَ الْمَقْتُولِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ، قَالَ طَلْحَةُ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فِي الْمَنَامِ، فَرَأَيْتُ الآخَرَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَوَّلِ، فَأَصْبَحْتُ فَحَدَّثْتُ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَبَلَغْتُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
كان شهر رمضان الذي صامه هو سبب هذا الرقي وسبب هذا العلو وسبب هذه الرفعة وسبب هذه المنزلة الكريمة التي جعلها له مولاه جل في علاه.
بالله عليكم عندما يسمع أصحاب الحبيب ذلك كيف يكون حالهم في رمضان؟ سيكونوا في تجارة دائمة دائبة ليلًا نهارًا مع حضرة الرحمن U، فكانوا يجعلون رمضان كله لله جل في علاه وكان الأئمة والعلماء حتى أئمة الفقه يبدأون بأنفسهم في ذلك ليكونوا أسوة.
وعلى سبيل المثال كان الإمام مالك t إمام أهل المدينة يجلس يُدرِّس حديث النبي وفقه النبي في مسجده المبارك طوال العام، فإذا هلَّ هلال شهر رمضان فض مجالس العلم وغلَّق الدروس وتفرغ تفرغًا كليًا لتلاوة كتاب الله عزوجل .
وكذلك كان تلميذه النجيب الإمام الشافعي رضى الله عنه إذا جاء رمضان صرف طلاب العلم وغلق حِلَق العلم وتفرغ لتلاوة القرآن، وكان من شدة شغله بتلاوة القرآن يُذْكَر له أمراً يعجب منه من لم يتذوق هذا الشأن، فقد رُوي عنه رضى الله عنه أنه كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة ثلاثين ختمه بالنهار وثلاثين ختمه بالليل.
اللسان يعجز عن مطاوعة الإنسان في تلاوة القرآن بهذه الكيفية، لكن إذا عيي اللسان تحرك لسان القلب والجنان، وعمل القلب والجنان أسرع من عمل الجوارح والأركان بآلاف المرات، لذا كان يقول t فيما سوى ذلك: (ما بين وضع رجلي في سرج دابتي وامتطاء دابتي يمر القرءان كله من أوله إلى آخره على فؤادي) هذه قراءة ثانية، قراءة يقول فيها الله لحبيبه ومصطفاه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق) والواو هنا واو المعية، أي اقرأ مع ربك، فالذي سيقرأ مع الله كيف تكون هذه القراءة؟!.
فكانوا يجعلون شهر رمضان شهر للإقبال بالكلية على حضرة الرحمن عزوجل أما العُبَّاد فكانوا يشغلون أوقات شهر رمضان وآناته وأنفاسه بالعبادات، وأما العارفون فكانوا قبل استقباله يجهزون القلوب، ويقتلعون ما فيها من العيوب، ويغسلونها بماء الندم والأوبة والإستغفار لحضرة علام الغيوب، ويثقلون القلب ويلمعونه بذكر الله عزوجل في كل وقت وحين، فإذا دخل رمضان كان القلب راتعاً في الجنان لا ينظر إلا إلى أسماء الله وصفاته، ولا يرقب إلا عطاءاته وتفضلاته، ولا يشتهي إلا نظرة من كمالات ذاته، أو نظرة من حبيبه ومصطفاه، لا يلتفت يميناً أو شمالاً، شرقاً أو غرباً إلا لحضرة الله.
فرَّ من الجوارح والأركان وما يحتاج إليه الجسم والنفس والأعضاء والأركان منشغلاً بالكلية بما يطلبه القلب والجنان من حضرة الرحمن عزوجل:
ولذلك يُروى عن أصحاب حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أنهم كانوا يرون أن الرجل منهم إذا شُغِلَ أو شَغَلَ نفسه بما يفتر عليه ليس له رتبة عند القوم، فكانوا لا ينشغلون إلا بالإقبال على حضرة الله، وما تحتاجه النفس والمعدة والبطن كانوا يريحون أنفسهم من الفكر فيه طوال هذا الشهر، وبمجرد أن يخطر على البال شيئاً من هذا الذي ذكرناه كانوا يعدون ذلك ذنباً في حق العارفين والصادقين والمخلصين المتوجهين إلى حضرة الله عزوجل ، وكانوا لا يتناولون السحور إلا رغبة في بركته لأن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لهم مراراً وتكراراً هلموا إلى الطعام المبارك:
ولولا تكراره عليهم ما تسحروا ولا ضجروا ولا ملوا ولا تململوا، لأن الله U وهو المقيت كان يُقيتهم بقوت من عنده، انظر إلى رجل منهم وهو يقول:
جُعنا فأطعمنا الحقائق ربنا واسق الجميع محبة الغفار
يريدون الحقائق وليس المأكل والمشرب، يريدون شربة من كأس المحبة الذي يقول فيها الصديق وهو سيد الأحبة: (من ذاق جرعة من صافي طهور محبة الله لم يلتفت نَفَساً إلى سواه) جرعة واحدة فقط: { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) }(الإنسان).
فكانوا التماساً لبركة السحور كما يحكي عنهم أئمة التابعين يقولون: كان إذا خاف أحدهم أن يفوته الفلاح – السحور – حسى حسوات من ماء، وكانوا يسمون السحور الفلاح لأن هذا وقت الفلاح ووقت المفلحين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
كثير من الناس ينظمون لهم جدولاً للسحور والفطور، ففي اليوم الأول في المكان الفلاني، وفي اليوم الثاني في المكان الفلاني وهكذا، وهو يرى أنه يُجبر خاطر الذين سيذهب إليهم، لكن لماذا لا تُجبر خاطر المساكين الذين بداخلك أولاً؟! هم يتمنون أن يشموا رائحة حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ويشربوا شربة من الشراب الطهور، ويروا ولو ساطعة من نور حضرة الغفور.
يريدون الهمم العالية وليس الهمم الدنية، فكان على هذه الشاكلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكُمَّل أتباع النبي والعارفين الصادقين الذين هم على قدم النبي، والوُرَّاث والأصفياء إلى يوم الدين، وهؤلاء موجودون دائماً: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }(32 فاطر).
والأرض مليئة – والحمد لله – منهم، فالله عزوجل عدَّ لنا ثلاثة أصناف، وتحت كل واحد من هذه الأصناف ما لا يحصى ولا يُعد من الأصناف، فهم موجودون إلى يوم القيامة، وهؤلاء كل همهم في رمضان عطاءات حضرة الرحمن، فالواحد منهم في نهاية هذا الشهر الكريم لا بد وأن يكون انتصر جُند الحق فيه على جُند الباطل، وفازوا إما بوسام أو إنعام أو إكرام، أو يُدرج في لوحة الشرف التي على باب الجنة ويُطالعها الأنام يوم الزحام.
فلا بُد وأن يجعل شهر رمضان شهر لحضرة الرحمن، ولا بُد وأن يُجهز القلب والفؤاد، وحتى لو اشتهت النفس شيئاً وتركته لله فإن الله عزوجل من إكرامه لأحبابه وأهل خاصته من عباده يأتي لهم بما يشتهون بلا تعب ولا عناء ولا طلب، حتى لا يُحاسبوا عليه، فلو طلبت النفس مني شيء وأخذت أفكر وأُقدر إلى أن أتيت بهذا الشيء فسوف أُحاسب على الوقت الذي فكرت فيه، والمال الذي اشتريت به، والشغل الذي انشغلت به عن الله، ولكن إذا جاءنا الطعام بلا حساب على يد أحد من الأحباب بلا سؤال ولا طلب: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (38 النور) فلا يكون عليه حساب في هذا الأمر.
فشهر رمضان شهر تَعَرُّض لعطاءات الله ومنح الله، وشهر حصاد لفضل الله وإكرام الله وعطاء الله، والذي يريد المقام الأرقى بأن يكون من المحسنين والموقنين، ويكون له خصوصية وإكرام عند رب العالمين، ويؤيدهم الله عزوجل بكراماته وخصوصياته في كل وقت وحين، عرَّفه ربه U أنه لا بُد أن يُغير نفسه بالكلية في رمضان، كما غير أحواله شرع الرحمن، حتى يجعله الله عزوجل من الذين يقول فيهم في القرآن: { لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } (34الزمر).
أنت تسير على نظام معين قبل رمضان، فالطعام له ميعاد، والنوم له ميعاد، هذا النظام يتم تغييره في رمضان، لذا فهو فرصة لكي تراجع نفسك وتغير عاداتك وطباعك وأخلاقك وسلوكياتك، فشهر رمضان هو شهر التغيير لمن أراد أن يكون له مقام كبير عند العلي الكبير:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } (11الرعد) وقال أحد الصالحين: (إذا أردت أن يخرق الله لك العوائد فاخرق من نفسك العوائد).
تريد من الله أن يخرق لك العادات، أي يجعل لك كرامات فالكرامة هي خرق العادة، فرجل يمشي على الأرض يقطع الكيلو متر في نصف ساعة فيخرق الله له العادة فيجعله يأخذ الأرض كلها في ساعة، وآخر يمشي على الأرض فيجعله الله يمشي على الماء أو الهواء، ما هذا؟ خرق عادة لمن خرق عاداته، فهذا دورك أنت.
كثير من السالكين يريد عاداته وطباعه وأخلاقه وسلوكياته كما هي، ويريد أن يُظهر الله على يديه الكرامات، ويؤيده الله بالمنح والعطاءات، ويريد أن تتحدث الناس عنه كما يتحدثون عن الصالحين والصالحات السابقين رضوان الله عليهم أجمعين، فمن أين سيأتي هذا الكلام؟! إلا إذا ذهبت وسط مجانين وجلست تروي لهم روايات وهم يُصدقونها، وهذه أمور لا يُصدقها عقل ولا يُثبتها نقل.
لكن إذا أردت أن يخرق الله لك العوائد لا بُد أن تخرق من نفسك العوائد، فتُغير عاداتك وأخلاقك، فلا يرفث ولا يفسق ولا يَسُب ولا يشتم، وإن أحد سابه أو شاتمه فليقل اللهم إني امرؤ صائم.
وهذا الشهر الكريم دورة تدريبية، فلو أردت العطاءات الربانية فلا بُد أن تسير على هذا المنهاج بعد الدورة التدريبية أبد الدهر، فأنت تُدرب نفسك على هذه الحقائق لكي تنال فضل الله وكرم الله وعطاء الله مثل الصالحين السابقين والمعاصرين، إذاً لا بُد أن تسير على هذا المنهاج في كل وقت وحين، فتجد الصالحين ليس لهم عادة تحكمهم لا في رمضان ولا غيره، وأخلاقهم هي أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم إن كان في رمضان أو قبل رمضان أو بعد رمضان، ودستورهم كما أخبر سيدنا أَبو ذَرٍّ رضى الله عنه قَالَ:
يا ليتنا أن نعمل بهذا مع أنفسنا وإخواننا في الله، فأضمن لكم أن تكونوا في أعلى المقامات، لأننا لا نرى الانفعالات والصوت العالي مع الإخوان وبعضهم!، النفس تريد أن تُبعد الإنسان من طريق الأنس، فإذا اقترب الإنسان من الأنس تضع له مشكله مع حبيب لكي تكون معضلة عند الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويرجع ويتوب، ثم قد يتجدد هذا مع حبيب آخر، لأنه كل أخ من الإخوان له نصيب عند حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ومن أساء إلى أخ في الله لا بُد أن يكون له من الشئون القانونية النبوية ولو لوم أو عتاب أو إنذار أو توبيخ أو تعطيل عن الدرجات والترقيات!!.
هذه حكمة الله، فلا بُد أن يكونوا رحماء بينهم، فمن الجائز أن يكون لك حال مع الله، ولك أعمال لا تُعد ولا تُحد من العبادات عند حضرة الرحمن، ولكنك أغضبت أحد من إخوتك في الله، انظر إلى سيدنا أبو بكر رضى الله عنه وما أدراك بأبي بكر؟ عن عائذ بن عمرو رضى الله عنه:
إخوانك يا أخي فيهم من هو على هذه الشاكلة، ومن الجائز أنك لا تعرفهم، ومن الجائز أنك تتهاون بهم ولا تعرف السر الذي في صدورهم، ولا تعرف الخصوصية التي في قلوبهم، فكونك تُظهر ضيقاً أو تبرماً ولو ظاهراً نحوهم ربما يكون هذا حجابك، وقد يكون لعطاء دنيوي أو عطاء أُخروي، ومشايخ القوم وظيفتهم إزالة هذا اللبس ونزع ما في الصدور: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }(47) ( (الحجر).
فإياك أن تجلس لحظة من اللحظات ويوجد بداخلك شيء نحو أحد من إخوانك في الله، فهذه مصيبة، وهناك مصيبة أعظم من هذه وهي أن بعض الإخوان يرى أحد إخوانه في الله قد فتح الله عليه في كلمة أو بيان الخصوصية، والخصوصية لا تقتضي الأفضلية، وآخر اجتمع عليه بعض الخلق، فهل هذا الجمع شرط أن يكون رضا من الله؟ لا، فقد يكون فتنة من الله عزوجل ويقول أحد الصالحين:
والخلق فتنة من أردت صدوده وشهود أهل البُعد في الأدوار
فيقوم بِحَسْده على هذه الخصوصية، ونحن لا يوجد عندنا هذا المرض نهائياً، لأنه هذا المرض قُضي عليه قضاءً تاماً من مجتمعات الصالحين الذين هم على قدم النبي علية أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكن أدعو له دائماً بأن يزيده الله ويؤيده ويسدده.
هذه الأمراض هي التي توقف كثير من الطلاب، ونحن لا نلقي لها بال، ولكن هي أساس من أسس القوم في الإقبال على الواحد المتعالعزوجل ، وبعض إخواننا يقول لي أنا لا أُحب فلان، أو أنا أكره فلان، فنحن لا يوجد عندنا أحد يكره أحد، ولكن أكره خُلُقُه إذا كان به خُلُق غير سوي، وأحاول أن أنصحه وأوجهه، لكن لا أكرهه هو، لأن هذه بضاعة الرحمن وصنعة الله، فكيف أكرهها؟!!.
ولكننا لا نرى في الكل إلا حضرة الرحمن، والرائحة التي فيكم من النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، فكل واحد منكم فيه رائحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه من أجل هذه الرائحة، وليس لأن عنده شيء، ولو أن هذه الرائحة انتهت ماذا سَنُحب فيه؟! وماذا نعمل به؟! وكل أخ له رائحة خاصة به.
اثنان من إخواننا أيام الأمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه، واحد منهم كان بينه وبين أخ من الإخوان شيء بداخله، وهذا الأخ إسمه الشيخ عبد الباسط، وهذا الرجل كان كلما أنجبت زوجته ولد يموت، فحملت زوجته، فقال للإمام أبو العزائم: يا سيدي زوجتي حامل وأنا أُريد أن يكرمها الله في هذا الحمل ولا يموت، فقال له: إذا وضعت زوجتك فقم بتسميته عبد الباسط، فقال له أُسميه عبد الباسط؟ قال له: نعم لكي يعيش، فقال له: لن أُسميه عبد الباسط، وليموت!! انظر إلى النفوس!!، نفوس قال فيها الأمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه:
فطر النفوس تقودها لعناها والله بالشرع الشريف هداها
لولا الشريعة بينت سُبل الهدى ضلت نفوس في سحيق هواها
فالنفوس هي سبب كل البُعد عن حضرة الله، والتعطل عن منازل فضل الله، والحجر عن إكرامات الله وعن عطاءات وهبات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك عليك من الآن أن تفرغ القلب من الكل:
فرغ القلب من سوانا ترانا يا مريداً جمالنا وبهانا
ووحد جمال الحبيب يا أخي، غُض العين الحسية، وافتح العين التي بداخلك، سترى النور المنثور في هذه البدور:
غُض عين الحس واشهد بالضمير تشهدن يا صب أنوار القدير
حينئذٍ تراها في إخوانك كلهم، تجدهم صور للحق صنعها بيده وصورها بتصويره وأقامها بين الخلق، ولا يتحدث واحد منهم ولا يتحرك رجل منهم إلا بما يحركه الحق، فتراهم كالعرائس في مسرح العرائس وملك الملوك هو الذي يحركها.
الأمام الجنيد رضى الله عنه كان يقول: (بقي لي ثلاثين عاماً أُحدِّث الحق في الخلق والخلق يظنون أني أتحدث معهم) يظنون أني أتكلم معهم وهو يتكلم مع السميع، من الذي يسمع؟ ما معك أنت لتسمع به؟ ولكن السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر، والمتكلم هو الذي يتكلم، صفاته تُناغي صفات ذاته المبثوثة في مخلوقاته، وليس في الخلق إلا صفاته، فهي التي تُحركهم، وتتحرك بأمره، وتواجه بعضها في هيئات خلقه إذا نظرت بعين التوحيد وعين التفريد بعد تنزيه القلب وصفاءه للحميد المجيد عزوجل .