Sermon Details
أمراض العلماء الربانيين
العلماء الربانيون هم الذين سلَّحهم الله عز وجل بالفقه في دينه، ووهب لهم سبحانه وتعالى علم الرعاية في أحكامه، فمعهم الفقه في الدين، ومعهم علم الرعاية في تنفيذ أحكام هذا الدين، حتى علموا حكمته تبارك وتعالى في كل حُكم، فسارعوا إلى المراد له جل جلاله فيما حَكم لا إلى الحُكم، فهمُّهم كله هو مراد الله من أحكامه عند العمل، لا العمل بهذه الأحكام فقط دون ملاحظة شيء آخر.
وأمراض هؤلاء العلماء خفية عن العقول، غامضة عن النفوس، لأنهم مع كمال الإخلاص لله تبارك وتعالى يشوب توحيدهم شوب بواعث الهمة عن العمل، فقد يُحجبون عن خالص مشاهد التوحيد، إما لعلة في الباعث على هذا العمل، أو لعدم تصفية مشهد التوحيد، فينسبون العمل لأنفسهم ويشهدون المجاهدات منهم، وينسون فضل الله وتوفيق الله ومعونة الله تبارك وتعالى.
الشرك الخفي
وقد يقوى هذا المرض حتى يدعو إلى شهود الإلهية في العامل من حيث لا يشعر، فيأنس بالعمل ويطمئن بالعرفان والأنس بالعمل.
والطمانينة بالعرفان شركٌ أخفى في طريق الله تبارك وتعالى، لأن من شغله العرفان عن المعروف، والعلم عمن هو مُولِّي وجهه شطره، واحتجب بنسبة العمل لنفسه، فهو مشركٌ في طريق الله تبارك وتعالى وإن كان شركٌ خفي، حتى وإن كان هذا الرجل من أهل الفردوس الأعلى، وهذا المرض العضال؛ مرض الإلهية أعظم مرض يُصاب به العلماء الربانيون، ومن أهم أمراض الخفا للعلماء الربانيين:
المرض الأول: الفرح بإقبال الناس سكوناً إليهم:
يفرح بإقبال الناس سكوناً إليهم من غير ملاحظة فضل الله وتوفيق الله، يعني يفرح إذا توجَّه الناس إليه، ويزيد فرحه إذا أقبلوا عليه، ولا يفرح بالله الذي وجَّههم إليه، وأقبل بقلوبهم عليه.
وهذا مرضٌ عضال يحتاج إلى أن الإنسان في هذا المجال يفرح بالله، ويسكن بكله إلى ربه، ويفرح بفضل الله وبرحمته، ويسبحه ويستغفر عند إقبال الخلق، ولا يفرح بحال ولا عمل، لأن العصمة من الزلل بالله تبارك وتعالى، يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في أهل هذا المقام المجملين بجمال الله:
وإذا دعاهم أن يدلوا غيرهم |
قاموا بحولٍ منه لا بفخار |
يدعون والرهبوت ملء قلوبهم |
بالهدي هدي المصطفى المختار |
وإذا رأيت الخلق مقبلة فلا |
تركن ركون مُقرب من نار |
ويقول أيضاً في حِكَمه: (الجاهل يفرح بالإقبال، والعالِم يفرح بالقبول) أي القبول من الله تبارك وتعالى.
المرض الثاني: أن ينظر إلى أهل المعصية بعين ملؤها المقت والغضب:
وهذا داءٌ عضال، فإن الإنسان لا يدري ما كُتب لهذا الإنسان في ألواح التقدير، فربما يراه بعيداً وهو عند الله تبارك وتعالى سيكون من المقربين.
ولذلك فقد كان أحد الصحابة واسمه نعيمان لا يستطيع السيطرة على نفسه في شرب الخمر، فلعنه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقال صلى الله عليه وسلَّم لهم:
{ لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }[1]
ومادام يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، فإن حب الله ورسوله سيتغلب على كل بواعث الشهوة عنده في يوم من الأيام بتوفيق الله وإكرام الله، فيتحول إلى ولاية الله، وإلى مقام القرب من مولاه جل وعلا.
وهذه المرأة التي اعترفت للرسول صلى الله عليه وسلَّم بأنها زنت، وحاول صلى الله عليه وسلَّم أن يتلمَّس لها الأسباب، ولكنها قالت: إني حامل، فأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عمَّها وهو أقرب الناس إليها أن يستوصي بها خيراً حتى تضع ما في بطنها.
وبعد ولادتها جاءت برضيعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فأمرها أن تذهب حتى تُتم رضاع طفلها، فجاءت له بعد تمام رضاعته وفي يده ابنها لقمة خُبزٍ يأكلها بأسنانه، فأمر صلى الله عليه وسلَّم أن يقام عليها الحدُّ، وبينما خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه يقذفها بحجر إذا بالدم يتطاير منها ويقع على ثيابه فلعنها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلَّم وقال:
{ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى }[2]
ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم في قول الله تعالى: (رحماء بينهم): (كان الصالح منهم ينظر إلى الطالح ويقول: اللهم تُب عليه واعفُ عنه واغفر له – نظرةٌ برحمة – ويقول الطالح عندما ينظر إلى الصالح: اللهم زده صلاحاً وتُقى وألحقني به).
فلا ينظرون نظرة مقت ولا غضب، وإنما نظرة رفق وشفقة وحنان، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مَقَتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عَذَرهم).
فيلتمسون الأعذار في نظرهم لإخوانهم حتى ولو كانوا عصاة ومذنبين لأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
المرض الثالث: الأنس بما يشهدونه وإن خالف ما عليه الجماعة:
وهذا يحدث لمن له إقبال شديد على الله في نفسه، ولا يهتم بشهود الجماعة على الدوام، فقد يرى في مشاهد قلبية أو مشاهد نفسية أنه خير من هؤلاء لما يراه في نفسه ولما يشهده في نفسه، بينما قال الله تعالى: ” لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ” (63النور) أي أن أمر الله ورسوله وشرعه وسُنَّة حبيبه هي المقَدِّمة والمقَدَّمة عند أُولي الألباب من العلماء الربانيين.
وقد يجد في خلوته مثلاً صفاءًا ونقاءًا لأنه يجد فيه حضوراً واستحضاراً، وقد يجد في حضور الجماعة مع المؤمنين في المسجد شيئاً ربما يُعكِّر صفوه، أو يُكدِّر خاطره، فيؤثر أن يُصلي مفرداً على أن يُصلي في الجماعة، مع قوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ }[3]
فهنا يؤثر إتباع الشرع والشريعة على ما يجده في نفسه من لذة في عبادة، أو شهوة في زهادة أو غيرها.
المرض الرابع: استعجال النقمة لمن خالفهم، والكرامة لمن وافقهم جهلاً بسر القدر:
فتجد الرجل منهم لاطمئنانه بأنه على قَدَم في ولاية الله، يظن أن الله عز وجل يُجري له في الدنيا ما يريد على حسب هواه، فإن كان رجلٌ لا يوافقه ولا يقدره ولا يقيم له وزناً أو يستهزئ به، فيتمنى من الله أن ينفذ مراده بإهلاكه أو بإصابته أو بشيء يحدث له يغيره إلى أسوأ حال.
وإذا كان رجل خادمٌ له أو معاونٌ له، يرجو من الله سبحانه وتعالى أن تتيسر أموره، وأن تتسع أحواله، وأن يجد الخير الذي يطلبه ويريده، مع أنه لا يعلم في كلا الرجلين مراد الله تبارك وتعالى.
فعلى الرجل العالِم العارف الرباني أن يسلِّم لمراد الله تبارك وتعالى، فإذا سأل الله يفوض الإجابة إلى مولاه، ولا يطلب حتى لنفسه أن يجيبه الله فيما يراه، لكن أن يجيبه مولاه فيما يراه حضرة الله، فإن الله عز وجل علام الغيوب، وسر القَدَر غيبٌ حتى على أهل النفوس الزكية، ولذلك يجب التسليم بالكلية، قال تعالى: ” فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” (65النساء).
المرض الخامس: الغضب على من لم يقم بالواجب عليه لهم:
وذلك مما يدسُّه عليهم عدوهم من أن المقصر في حقهم مقصرٌ في حق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، والحقيقة غير ذلك.
وهذا معناه أن الرجل من أهل الكمال يرى له حقوقاً على من دونه، فإن أخلُّوا في القيام بهذه الحقوق، ربما لجهلهم، وربما لما يغيب عن معرفته من نياتهم، يتغير عليهم وقد يعاملهم بما لا يليق بهم.
بينما الأمر الذي اتفق عليه الصالحون أجمعون أن الرجل الكامل في مقام الرجولية يقوم للخلق جميعاً بما لهم عليه، ولا يطالبهم بما له عندهم.
فإن قاموا بذلك فقد خدموا أنفسهم، وإن لم يقوموا بذلك يلتمس العذر لهم، لأنهم ربما لا يعرفون، وربما لا يعلمون، وربما تناسوا لما يشغلهم من متطلبات الحياة الدنيا، وربما أخذتهم المفاجأة عندما شاهدوه فنسوا ما ينبغي عليهم أن يقوموا به له، وهذا وإن كان من غير أهل الكمال، ولكنه يتناسى ذلك لشغله بذي الجلال والإكرام تبارك وتعالى.
المرض السادس: الغرور:
فقد يُغَر الإنسان بما يهب الله له من الفقه والفهم، حتى قد ينظر إلى السابقين من العلماء العاملين والأئمة المعتبرين بعين المساواة، ويظن أنه يساوي السابقين، بل ربما تخدعه نفسه فيظن أنه يتفوق عليهم، وهذه من خِدع النفس الإبليسية، ولا يقع في هذه الهفوة أصحاب النفوس الزكية.
وقد يُغَر بما يتفضل الله تبارك وتعالى به عليه من صوت حَسَن، وجمال الصوت من الله وليس من الأوتار التي تتحرك في الحنجرة إلا إذا شاء الله تبارك وتعالى، فإذا تعالى بصوته على غيره وظن أنه أفضل منهم بسبب صوته، فعليه أن ينسب الصنعة للصانع، ويعلم علم اليقين أن جمال صوته فضلٌ عليه من ربه تبارك وتعالى، وهذا الفضل يحتاج إلى شكر: ” لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ” (7إبراهيم).
وقد يجد في نفسه فضيلة من فضائل أهل القرب، كأن يخصُّه الله تبارك وتعالى بشيء من الفراسة النورانية، أو بشيء من الإلهام أو العلوم الوهبية، أو بشيء من التوفيق للقيام بالأعمال الاجتهادية التي يقوم بها لرب البرية، كل ذلك يحتاج إلى علاج شديد ليخرج من هذا المرض الشديد وهو مرض الغرور.
علاج الغرور
ولذا نجد أن هؤلاء العلماء الربانيين دائماً وأبداً يقفون عند معرفة نفوسهم، ويتذكرون دائماً أنهم في مقام يقول فيه الله: ” وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ” (12المؤمنون) أو مقام يقول فيه الله: ” وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ” (9مريم) أو مقام يقول فيه الله: ” هَلْ أَتَى عَلَى الانْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ” (1الإنسان).
فيرى نفسه أنه بغير فضل الله الذي عمَّه؛ لا شيء، لأنه إما ترابٌ وإما طينٌ وإما ماءٌ مهين وإما لا شيء، وكل هؤلاء لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون وليس لهم ميزة ولا قيمة في عالم الخلق إلا إذا تفضَّل عليهم الخالق بواسع فضله تبارك وتعالى، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
علمت نفس أني كنت لا شيء |
فصرت لا شيء في نفسي وفي كلي |
به تنَّزه صرت الآن موجوداً |
به وجودي وإمدادي به حولي |
ومن أنا؟ عدمٌ الله جملني |
فصرتُ صورته العليا بلا نيل |