Sermon Details
الإيمان برسول الله وطاعته ونصرته
المذيع: نريد أن نتكلم عن جوانب من حياة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وجوانب من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلَّم، بما يفتح الله على ضيفنا الكريم
فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبو زيد الداعية الإسلامي.
فضل الله ورحمته
المذيع: فضيلة الشيخ يقول الله تعالى: ” قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ” (58يونس) ما المقصود بفضل الله في هذه الآية؟
خير من فسَّر هذه الآية ترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال رضي الله عنه: (فضل الله ورحمة الله في هذه الآية هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم) لأنه أكبر فضل منَّ به الله علينا في الدنيا والآخرة.
لا تجد فضلاً حسياً ولا معنوياً أعظم من هذا الفضل وهو الانتساب لهذا النبي، وأننا صرنا من أمته، لذلك كان الأنبياء السابقين يتمنوا أن يكونوا أهلاً لذلك، ويطلبون من الله تبارك وتعالى أن يوصلهم لذلك، ولذلك جمعهم الله له بعد أن أحياهم في بيت المقدس ليكونوا أتباعاً له، ويكون هو الإمام لهم صلى الله عليهم وسلَّم أجمعين.
وهو رحمة الله لأنه الرحمة العُظمى لجميع الأنام: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ” (107الأنبياء) فكل ما سوى الله من العالمين، وكل ما سوى الله له نصيب من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إن كان من أهل الأرض أو أهل السماء أو أهل الملأ الأعلى، كلهم لهم نصيب من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فضله صلى الله عليه وسلَّم على الملائكة
المذيع: حتى الذين جُبلوا على التعبد من الملائكة؟
نعم، أمينهم وأميرهم سيدنا جبريل كما ورد في كتب السيرة عندما وقف عند سدرة المنتهى في رحلة المعراج قال: إلى هنا انتهى مقامي، قال: يا أخي يا جبريل أهاهنا يترك الخليل خليله؟ قال: يا رسول الله أنا لو تقدمتُ قدر أنملة – يعني طرف الإصبع – لاحترقت، وأنت لو تقدمت لاخترقت، فقال صلى الله عليه وسلَّم: ألك حاجة؟ – يعني يذكرها له عند ربه، قال: نعم منذ خلقني الله وأنا أخشى من عظمته، وأريد أن يؤمنني الله عز وجل من الخوف، فنزل قول الله تبارك وتعالى: ” نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ” (193-195الشعراء)) فأعطاه الله الأمان في هذه الآية بنص القرآن، فقال: يا رسول الله عليَّ أن أضع جناحي على الصراط عند مرور أمتك حتى لا تحتوشهم النيران.
يريد أن يؤدي ويرد التحية ببعض مثلها، فحتى الملائكة لهم نصيب من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولذلك طلبوا من الله عز وجل أن يروا هذا النبي ويشافهونه ويحادثونه، فصعد به الله إلى السماوات سماءاً تلو سماء، وفي كل سماء كان ينتظره مقربوها وملائكتها، ويفتحون له بابها ويقولوا: مَن؟ فيقول أمين الوحي: جبريل، فيقولوا: ومن معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلَّم، فيقولوا: أوقد بُعث؟ فكانوا منتظرين صعوده صلى الله عليه وسلَّم إليهم، لأن لهم نصيب في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
نور النبي صلى الله عليه وسلَّم
المذيع: فضيلة الشيخ هناك ملامح غنية للنبي صلى الله عليه وسلَّم في القرآن الكريم، قال الله في القرآن الكريم: ” قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ” (15المائدة) وفي القرآن: ” اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ ” (35النور) وفضيلتكم ذكرتم في مرة سابقة: أن كتاب الله نور، ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما مرتبته في هذه الأنوار؟ وما درجته في هذه الأنوار؟
تتضح هذه الرؤيا فيما حكيناه الآن عن أمين الوحي جبريل، فإن جبريل وقف عند سدرة المنتهى وهي قمة عالم الملكوت الأعلى، ولم يستطع أن يخرج منها لأن نوره ملكوتي من نور عالم الملكوت، والذي يخترق لا بد أن يكون نوره من نور الحي الذي لا يموت، من سر: ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ” (72ص) قال صلى الله عليه وسلَّم كما ورد في بعض الأثر: (أَنَا مِنَ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِن نُورِي).
فنور رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من نور الله تبارك وتعالى، والكيفية غيبية لا تدركها العقول الجسمانية، ولا نستطيع أن نصوغها في نظريات كونية، ولكنها أمور قلبية تحتاج إلى صفاء القلوب، وإلى طهارة الأرواح لترى ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على قدرها لا على قدر رسول الله، ولا على قدر حضرة الله، حاشا لله تبارك وتعالى.
سر الرسول فينا
المذيع: يقول الله تعالى: ” وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ” (7الحجرات) كيف؟
هذه الآية يوضحها الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ }[1]
إذاً الحقيقة التي تستوعب الأنوار الإلهية، والتي تنشرح عند سماع الآيات القرآنية، والتي تميل إلى طاعة رب البرية، والتي تشتاق إلى بيت الله الحرام، هذه الحقيقة هي في قلوبنا نور من نور رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ونور رسول الله من نور الله.
بهذه الحقيقة آمنا وأطعنا وتلذذنا بطاعة الله، ونشتاق إلى بيت الله، ونفعل ما يحبه الله، ونفرح إذا فعلنا ذلك، ونحزن إذا تباطأنا أو تكاسلنا عن فعل ذلك، ولذلك يقول فيها الله: ” وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ” (40النور).
لو جئته بكل الأنبياء والمرسلين فلن يصدق ولن يؤمن، لأن ليس معه هذه الحقيقة التي نسميها القابل النوراني، الذي يقبل عن الله تبارك وتعالى.
والله عز وجل جعل لنا في العصر الحديث أمثلة توضح هذه الحقائق، فأنا إذا أردت أن أشترك في قناة من القنوات المشفرة، لا بد أن يعطوني جهازاً أضعه في تلفزيوني لتظهر لي على الشاشة هذه القناة، فهكذا الأمر، لا بد أن يكون هناك قلب نوراني إلهي غير القلب الجسماني، وهو الذي يستقبل هذه الأمواج الإلهية، ويستقبل الأحاديث النبوية ويفرح بسماع ذلك، وهذا ما يقول فيه الله: ” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ” (37ق).
إذاً ليس الكل له هذا القلب، القلب الجسماني موجود مع الكل حتى مع الحيوانات، لكن القلب النوراني الذي يقبل عن الله ويستجيب نداء الله ويتأسى برسول الله خاص بأحباب الله، وفيه يقول الله تبارك وتعالى: ” حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ” (7الحجرات) هذا لمن؟ للراشدين كما ذكر رب العالمين، هل الملحدين والكافرين والمشركين معهم هذه الحقيقة؟ لا، ولذلك لا يؤمنون بالله أبداً.
بين الألوهية والربوبية
المذيع: أخذ الله العهد على الأنبياء بمقام الألوهية: ” وإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ” (81آل عمران) وفي الآية الأخرى: ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ” (172الأعراف) وهذا مقام الربوبية، ما التمايز بين هذين العهدين في كل آية؟ وما قدر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في مقام الربوبية؟
مقام الربوبية يعني مقام التربية، والذي يقوم به هو الله لجميع العباد ولجميع المخلوقات، يربيهم بتوصيل أرزاقهم التي يوكلونها إليه، وبتوصيل ما يحتاجون إليه من الماء، وبتوصيل ما يحتاجون إليه من الهواء، وبتوصيل ما يحتاجون إليه ليصنعوا منه الكساء .. كل الذي يحتاجون إليه يقوم به مقام الربوبية: ” الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (2الفاتحة) رب العالمين كلهم، إنسهم وجنهم، مسلمهم وكافرهم، الكل في مقام التربية يربيهم الله بنعمه التي خلقها والتي يواليها سبحانه وتعالى.
لكن مقام الألوهية مقام ذاتي للمصطفين الأخيار والأطهار والأبرار الذين انفردو بتوحيد الواحد القهار، عبدوا الله ولم يشركوا بالله شيئاً، وهذا المقام لا يقوم فيه إلا من أفردوا الله عز وجل بالوحدانية، وأفردوه بالعبادة، وأخلصوا له بالكلية.
وأعظمهم وأكرمهم الأنبياء والمرسلين، لأن هؤلاء صفوة الله من الخلق أجمعين: ” إِنَّ الله اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ” (33آل عمران) هؤلاء اصطفاهم الله على الخلق جميعاً، ولذلك الذي عاهدهم تكريماً لهم هو الله عز وجل بذاته وباسمه الجامع لكل صفات كمالاته وهو (الله)، فإن اسم (الله) الجامع لكل صفات الجمال والجلال والكمال لله سبحانه وتعالى.
ومن إعجاز هذا الاسم أنه لم يتسمَّى به بشر، ومن إعجازه أيضاً أنه إذا انتقص منه حرف ما تأخر من الحروف دلَّ على حضرة الله، فإذا حذفنا الحرف الأول أصبح (لله):” لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ ” (284البقرة) وإذا حذفنا اللام الأولى، أصبح (له): ” لَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” (13الأنعام) وإذا حذفنا اللام الثانية، أصبحت (هـُ): ” هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (3الحديد) في كل حالاته حتى لو انتقص حرف منه يدل على الذات الإلهية، ولا يستطيع أن يتصف به من قبل ولا من بعد أحد من البشرية، وهذا إعجاز الله في هذا الاسم الكمالي وهو اسم الله الأعظم (الله).
ضوابط رؤية النبي
المذيع: ما الضوابط التي يتبعها الإنسان ليشاهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟
رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تكون بشرى للإنسان أنه اكتمل في مقام الإيمان، لأن الله جعل من وظائف النبي صلى الله عليه وسلم التي كلَّفه بها في القرآن: ” وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلا كَبِيرًا ” (47الأحزاب) لم يقُل أجراً ولكن (فضلاً) ورؤية الرسول من الفضل وليست من الأجر على عمل، فلو كانت أجراً على عمل كنا عملنا هذا العمل، ومن يعمل هذا العمل لا بد أن يراه، ولكنه فضل، وفضل يعني منحة لمن يحبه الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
والرسول صلى الله عليه وسلَّم لأنه خاتم النبيين فرسالته ممتدة إلى يوم الدين، ومادامت رسالته ممتدة إلى يوم الدين فهو دائماً وأبداً بروحه وكله يوجه المؤمنين والمؤمنات في الأمور المهمات إذا كانوا صادقين معه في العهد ومحسنين في الاتِّباع لحضرته.
فإذا وقع أحد في مأزق جاءه حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم لينبهه، وإذا كان واحد منهم في أمس الحاجة لمطلب دنيوي بأن يفتح الله له باباً للرزق، أو يوفقه لوظيفة ما، أو يرزقه بغلام، أو ما شابه ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلَّم لمعزَّته عنده يأتي إليه في المنام ويبشره بفضل الله الذي سيرد عليه.
وإذا كان المؤمنين مجتمعين في كرب عظيم في حرب مع الكافرين أو المشركين أو غيرهم، وقدَّر الله لهم لإصلاحهم لأحوالهم ورجوعهم إلى ربهم النصر، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلَّم لبعض صالحيهم ليبشرهم بالنصر، كما حدث في حرب أكتوبر عام 1973م عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى رجل من الصالحين ورآه ومعه صحبه الكرام، وقال له: اتبعني إلى سيناء، فعلم أن النصر آت لا ريب فيه، وبلَّغ الرؤيا لشيخ الإسلام في وقتها الشيخ عبد الحليم محمود، فصعد منبر الأزهر الشريف وحكى الرؤيا وبشر المسلمين ورفض هذا الرجل الصالح أن يُذكر اسمه ليظل مخفياً عن الخلق رغبة في عدم إفشاء سره للناس.
الرؤيا تكون بالقلب مناماً، والرؤيا صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي }[2]
لا نقول إنها حُلم من الشيطان، ولكن رؤيا صحيحة من حضرة الرحمن تبارك وتعالى.
والمحبين الذين يريدون أن يتمتعوا دواماً برؤية رسول الله إن كان كل ليلة أو كل شهر أو كل مناسبة، فهؤلاء لهم مثال في حياتنا الدنيا، إذا هام الإنسان بفتاة وشغفته حباً وأصبح مشغولاً بها ليله ونهاره وفي كل أوقاته كما حدث لمجنون ليلى قيس بن الملوح وقد كان يقول:
أمر بالديار ديار ليلى |
أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدار |
وما حب الديار شغفن قلبي |
ولكن حب من سكن الديار |
يعني كان يذهب إلى الديار ويُقبِّل حتى الجدران، لماذا؟ لأن ليلى ساكنة فيها.
فإذا ارتقى الإنسان بحبه لنبيه، وأحب النبي لكمالاته وأخلاقه وجمالاته الربانية التي كساه بها رب البرية، فإذا رأى ذلك لأنه يريد أن يتابعه ويصل إلى بعض ذلك، ويمشي وراءه بحسن المتابعة، وامتلأ قلبه بحبه، فالحب يمنع كل الشواغل والحواجز التي في قلبه، ويرفع كل أغشية الحظ وستائر الهوى التي تمنعه من رؤية نبيه من القلب.
فإذا انقشعت هذه الغيوم وزالت هذه الحجب ولم يبق في القلب إلا رسول الله، فهنا لا بد أن يرى رسول الله على قدره، منهم من يقول كما قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: (ما بتُّ ليلة إلا ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في المنام) لأنه كان يتابعه ويعيش بين الناس ناشراً لأحاديثه، فيعيش في الأحاديث النبوية بين الناس وتطبيقها على مسرح نفسه فيما بينه وبين ربه تبارك وتعالى، ويشغل البال بحضرة النبي وبكمالات أخلاق وأوصاف النبي التي مدحه الله من أجلها، وقال له فيها: ” وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” (4القلم).
يجهز القلب ويرفع منه كل الأغشية والحجب الموجودة فيه، فيظهر نور النبي ساطعاً فيه صلوات ربي وتسليماته عليه، والقلب ككوب ماء إذا كان الكوب فارغاً ونظيفاً ووضعت فيه الماء يظهر صافياً، ولكنه لو كان فيه شيء آخر كتراب أو غيره عكَّر ما ينزل فيه، ولذلك حضرة النبي لا ينزل إلا في قلب تطهَّر من جميع الأغيار، والأغيار يعني كل شيء غير الله، وأصبح مشغول البال بالكلية برسول الله، وشغل البال يجعله من خيار المتبعين له في كل حركاته وسكناته، وفي كل عباداته وفي معاملاته، وفي كل أمور حياته، يمشي خلف النبي وحذو النبي النعل بالنعل فيفتح الله عليه ويتمتع بالنبي صلى الله عليه وسلَّم على قدره.
الخلاص من الأغيار
المذيع: فضيلة الشيخ كيف يتخلص الإنسان من كل الأغيار بما فيها نفسه؟
بالحب، قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[3]
وفي رواية أخرى:
{ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ }[4]
تمام الإيمان يستوجب أن يكون حب النبي أعلى من حب هؤلاء في القلب، ولا نمنع حب هؤلاء في القلب، لكن المكانة العُليا تكون لحضرة النبي ويكون حبه أكثر من كل هؤلاء، وإن كان هذا لتمام الإيمان فما بالك بمن أراد أن يكون مع النبي؟! لأن من رأى النبي سيدخل في قول الله: ” مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ” (29الفتح) لم يقُل معه في مكة أو في المدينة أو في زمنه، بل معه إلى قيام الساعة، فكل من وصل إلى هذه المنزلة يكون معه.
وهذا الحب الذي كان فيه أصحاب النبي حتى النساء، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ:
{كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ قَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوْا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أَمَّ فُلَانٍ، فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ}[5]
وجلل يعني صغيرة، فما دمت أنت حي لا يهمني شيء آخر، وهذا هو الحب الذي يستوجب الرؤية.
وثوبان خادم النبي صلى الله عليه وسلَّم كان كلما النبي يجده قد اصفر وجهه وانكمش جسمه وتغير، فقال له:
{ يَا ثَوبَان، مَا غيَّر لَونك؟ فَقَال: يَا رسُولَ الله مَا بِي مِن ضُرِ ولا وَجَع، غَيْر أَنِّي إَذَا لَم أَرَك اشْتَقتُ إِلَيْكَ، واسْتوحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَة حَتَّى أَلقَاك، ثمَّ ذَكرتُ الآخِرة وأَخافُ أَن لا أَرَاك هُنَاك، لأَنِّي أَعرفُ أَنَّك تُرفَع مَعَ النَبِيِّينَ، وأَنِّي إِن دَخلتُ الجنَّة كُنْت في مَنزِلة أَدْنَى مِن مَنزِلَتَكَ، وإِن لَم أدخُل الجَّنَّة فَذَاكَ أحْرَى أَن لا أَرَاكَ أَبَداً، فَنَزَل قَول الله تَعَالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً) }[6].
وحب الصدِّيق الذي لا نستطيع أن نحيط به، ولكن يكفي أنه وهو في الهجرة تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي خلفه، وتارة يمشي عن يمينه، وتارة يمشي عن شماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ مَا هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ فِعْالِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَذْكُرُ الرَّصْدَ، فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَذْكُرُ الطَّلَبَ، فَأَكُونُ خَلْفَكَ، وَمَرَّةً عَنْ يَمِينِكَ، وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِكَ لا آمَنُ عَلَيْكَ }[7]
الرصد يعني المترصدين، والطلب يعني الذين يأتون من الخلف، وورد في بعض الأثر أن النبي قال له: (أتحبني يا أبا بكر؟ فيقول: نعم يا رسول الله، ثم يسأله: أتموت في سبيلي يا أبا بكر؟ فيقول: نعم يا رسول الله، أنا إن مت فإنما أنا رجل وأنت إن مت فإنما أنت هذا الدين).
تمثل بقول الشاعر:
أحبك حباً لو يُفاض يسيره |
على الناس مات الناس من شدة الحب |
وما أن موف بالذي أنت أهله |
لأنك في أعلى المراتب من قلبي |
وهكذا الأمثلة في هذا المجال من الصحابة الأجلاء فضلاً عن الصالحين والأولياء، يموت الإنسان غراماً وحباً وشوقاً في حبيب الله ومصطفاه ليتأسى به ويتابعه، هنا يتفضل الله عليه ويمن عليه بأن يريه جمال وجهه، وأحياناً يكون رفيقاً له يجيبه على ما استشكل عليه من الأسئلة ويوجهه وينصحه ويكون مرشداً له كما يرشد أحدنا أخاه في الدنيا على الدوام، وهذه خاصية موجودة بين الصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
بعض أحوال الصالحين في رؤية النبي
المذيع: ما أحوال الصالحين في هذا المقام؟
أحوال الصالحين في هذا المقام كثيرة لا نستطيع أن نحيط بها، لكن يكفي أن الإمام البوصيري رضي الله عنه وأرضاه كان قد أُصيب بالفالج يعني الشلل، وهو مرض ليس له علاج، وجاءه رسول الله في منامه لأنه كان يُكثر من الصلاة والتسليم عليه، ولما رآه واجهه وخاطبه ومما قال فيه:
فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلُقٍ |
ولم يدانوه في علم ولا كرم |
ثم قال: (فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ) ووقف ولم يستطع أن يُكمل، فأكمل له النبي البيت مناماً وقال: (وأنه خير خلق الله كلهم).
وبعد أن انتهى من قصيدته خلع النبي بردته – يعني عباءته – في المنام وألبسها له، وقام من النوم لا يشكو ألماً ولا وجعاً، وأولاده فوجئوا أنه واقف على رجليه وليس به بأس ولا ضُر.
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم لا يستطيع أحد من الأولين ولا الآخرين أن يصف بعض جماله ولا بعض كماله، لأن الذي كمَّله وجمَّله هو الله سبحانه وتعالى.
إيمان تُبَّع بالنبي
المذيع: فضيلة الشيخ قبل ميلاد النبي الجسمي ونزوله إلى الدنيا آمن به تُبَّع فأعطنا أمثلة من هذه المشاهد؟
تُبَّع قصته مذكورة في كتب السيرة المعتمدة ككتاب (الوفا في ذكر أخبار المصطفى) وفي غيره من الكتب.
كان ملكاً على اليمن واتسع ملكه وأراد أن يوسع الملك إلى دائرة أكبر، وكان معه ثلاثمائة ألف جندي، فذهب إلى المدينة المنورة، وذهب بعد ذلك إلى الكعبة وهو أول من كسا الكعبة.
وهو على أبواب المدينة المنورة خرج إليه علماء اليهود، وكانوا يعرفون أوصاف النبي ومكان النبي ومكان ميلاده ومكان هجرته وموعد بعثته وكل شيء عنه يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وسكنوا في هذه المدينة ترقباً لظهور النبي صلى الله عليه وسلَّم، فأخبروه بعد أن حاصر المدينة فترة طويلة أنك لن تستطيع أن تدخل هذه البلدة لأنها مهاجر نبي آخر الزمان، وكان من كمال عقله يصحب معه سبعين عالماً يستشيرهم في أموره، فسأل العلماء فصدقوا له الرواية لأن اليمن كانت منتشرة فيها اليهودية.
فبنى لهؤلاء العلماء الذين معه لكل رجل منهم بيتاً من طابق واحد، وكبيرهم بنى له بيتاً من طابقين وقال له: هذا البيت بنيته للنبي إذا هاجر إلى هذه المدينة حتى لا يسكن عند أحد، وترك رسالة معه شعرية مكتوب فيها:
شهدتُ على أحمد أنه |
رسولٌ من الله باري النسم |
فلو مُد عمري إلى عمره |
لكنت وزيراً له وابن عم |
وجاهدت بالسيف أعداءه |
وفرجت عن صدره كل هم |