Sermon Details
تصفية القلب
بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله الذى وجَّهنا لما يحبه ويرضاه، وجعل أفئدتنا تتجه إلى حضرته وتطلب منه صافى شراب أهل قربه ومودته، والصلاة والسلام على خير مرام يناله المصطفون من الأنام؛ سيدنا محمد بدر التجليات وشمس الإشراقات في القلوب النيرات، وصاحب الشفاعة العظمى والكرم الذى لا يُعدُّ ولا يُحدُّ يوم لقاء الواحد الأحد، صلى الله عليه وعلى آله التقاة، وأصحابه الهداة، وكل من مشى على نهجهم إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين .. آمين يارب العالمين.
الأصل الأول في الأصول التي ينال بها العبد الوصول إلى حضرة الله U وإلى القرب من حضرة الرسول e هو النيَّة الخالصة، والتي معها سلامة الطويَّة وصفاء القلب بالكليَّة وحسن المقصد الذى يبغيه في عمله أو في قوله أو في سيره وهو وجه ربِّ البرية U.
والأصل الثانى والثالث معاً في الوصول إلى الله U هما جهاد النفس، وتصفية القلب بالكليَّة، واعلموا علم اليقين كما قال الأمير عبد القادر الجزائرى رحمة الله عليه في مواقفه قولة سديدة: (لا يجد في طريق الله U شمَّة من لم يجاهد نفسه ولو كان شيخه قطب الوقت)
ونوضحها بمثال: لو مرض إنسانٌ بداء في جسمه وذهب إلى أعظم طبيب في هذا المجال في هذا العصر في الشرق والغرب، وعرض عليه نفسه وكشف عليه وكتب له تذكرة دواء، لكن المريض أخذ التذكرة ولم يشترِ الدواء، أو اشترى الدواء ولم يستخدمه، هل يتم له الشفاء؟! لا، مع أنه ذهب إلى أعظم طبيب في عصره! لكن الطبيب يصف الدواء بعد بيان الداء، وعلى المريض الذى يريد الشفاء أن يستخدم هذا الدواء بالحكمة التي وصفها له هذا الطبيب النُطاسى حتى يُزال عنه الألم ويُشفى من هذا الداء، ومن هنا فالأمر الباطن مثل هذا المثال الظاهر!
جهاد النفس
النفس لها عللها التي تمنعها من الفتح، والقلب قد يكون عليه أغيارٌ تمنعه من التحقق بمقام المقرَّبين والأخيار، والأغيار تعنى كل شئ غير الله! فهو يسمَّى غيراً في القرب إلى الله، فلابد للمرء من جهاد نفسه ليقضى على العلل التي تمنعه من القرب من ربِّه، ولا بد أن يجاهد في تصفية قلبه لتشرق عليه الأنوار، وتلوح في أفقه الأسرار، ويتمتع بالعطايا التي يخصُّ بها الله U الصالحين والأبرار.
وجهاد النفس يكون بعلاج البواعث النفسية والعلل النفسية التي تمنع الإنسان من القرب من ربِّ البرية U، والبواعث والعلل النفسية هى الشهوات الدنية التي تشغل الإنسان في هذه الحياة الكونية، وتبعده عن القرب من ربِّ البرية، وتجعله غير أهل لأى عطية: ” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” (14 آل عمران)
ولا بد أن يعلم المجاهد لنفسه الغاية والمقصد من هذا الجهاد حتى يتمكن من مجاهدة نفسه.
الغاية من هذا الجهاد أن يطوع شهوات نفسه ورغباتها وأهوائها في سبيل الظفر والنيل لعطايا ربِّه التي يخصها للصالحين، وسبيل ذلك أن يتحقق بالعبودية لربِّ العالمين U، كل الجهاد إن كان وسيلته الصلاة، أو الصيام، أو وسيلته الأذكار والعبادات، أو الصدقات، أو وسيلته خدمة المساكين والفقراء واليتامى والأرامل، أو وسيلته لذلك خدمة الصالحين … كل هذه الوسائل الغاية من ورائها يقول فيها الإمام أبوالعزائم t:
تلك الرياضة يا مسكين غايتها |
ذلٌّ ومسكنةٌ إن صح أنت ولىّ |
غاية هذه الرياضات أن يصل الإنسان المجاهد،والمجاهدة التي بها تتم المشاهدة لا بد أن تكون على منهج القرآن والسُنَّة، فأى جهاد على غير القرآن والسُنَّة إنما هو سبيل من سُبل الغواية! وليس سبيلاً من سبل الهداية والعناية التي فتحها رب العالمين ليعطى منها الوهب والعطايا للصالحين، فشرط الجهاد أن يكون على منهج القرآن والسُنَّة.
غاية الجهاد أن يتخلق الإنسان بأخلاق العبودية، ولذلك قال الله U عندما قال له أبويزيد البسطامى t: بِم يتقرب إليك المتقربون يارب؟ قال: بما ليس فىَّ، قال: وما الذى ليس فيك؟ قال: الذل والمسكنة والفقر والحاجة والإضطرار.
وما شابه ذلك من أوصاف العبودية التي بها يتأهل المرء لنيل العطيَّة من ربِّ البرية U، وأوصاف العبودية هذه تكون في مواجهاته مع ربِّه، وليس للخلق وإنما للخالق جل وعلا، وأوصاف العبودية تحتاج إلى جهاد شديد حتى يتخلص الإنسان من أوصافه الإبليسية والحيوانية والسبعية، لماذا؟ لأن الإنسان جُبِل على هذه الأوصاف، وهى التي تناسب التراب والطين الذى خلقه الله منه، وتناسب الأرض والسفل الذى جاءت منه عناصره الجسمانية!، فجُبِل على حبِّ العناصر التي خُلق منها ليكون ميالاً بطبعه إلى ما به حفظها، لا بد أن يأكل ويشرب وينكح ويسكن، فللأكل لا بد أن يشتهى الطعام، وللتناسل لابد من الجنس! ولولا الروح أونفخة الله التي جمَّلت الطين فجعلته سميعاً بصيراً عاقلاً ومدركاً وفاعلاً قديراً ما كان له سبيلٌ للعلو أبداً.
فالنفوس التي تسوس هذا البدن تدفعه لما يناسبه، والروح تريد منه العلو عن ذلك والتخلق بما يناسبها ويقربها من أصلها! فإذاً هو مجبول على تلك الفطر! ولابد له من جهاد في تغيير هذه الأوصاف الدنيَّة ليتحلًّى بالأوصاف النورانية العليَّة، فهو قد خُلِقَ وجُبِلَ كما قال تعالى: ” إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ” (72الأحزاب).
إذاً لا بد أن يجاهد في تغيير وصفه من الظلم إلى العدل في أى أمر أو أى شأن، حتى كان e – كما تعلمون – أُلهم العدل وهو في رضاعه! فعندما علم بفطرته أن له شريك في الرضاعة كان لا يتناول إلا ثدياً واحداً ويترك الآخر لأخيه في الرضاع ويرفض أن يتناوله أو يقربه أو يمصُّ منه مصَّة لأن الله جَبَلَه على العدل.
وكان e من شدة عدالته يبادل الطعام بين أضراسه، أى يمضغ على الجهة اليمنى مرة وعلى الجهة اليسرى مرة، عدالة مطلقة في كل أمر وفي كل شأن، وهكذا كان الرجال الذين رباهم e على تلك العدالة، والذين كان يقول لهم:
{ قُلِ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ }[1]
وفى رواية أخرى:
{ قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا }[2]
هذا مثال من هذا الجهاد في العدل، وخذوا مثالاً آخر: ” وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً ” (100الإسراء) ” وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ” (128النساء) فطبيعة الإنسان الشحّ والبخل، وفي سبيل الشحِّ والبخل تزيِّن له نفسه الحصول على الدنيا من أى سبب وبأى طريق، ولو كان في سبيل ذلك سيفرِّق بين صديقين! أو سيصنع قطيعة بين قريبين! أو سيصنع مشكلة بين زوجين! لأن حبَّ المال يجعله لا يبالى بهذه الأعمال ويرتكب هذه الفظائع التي تقشعر منها الأبدان، لأنه يستبيح أى وسيلة في سبيل الحصول على المال.
ولكنه لم يعرف أنَّ الله U كتب على خزائن كرمه المخصوصة لعباده المخصوصين أنه لا ينال أحد شيئاً منها إلا إذا تخلَّق باسم الله الكريم بين جميع المخلوقين، أى لا بد أن يكون كريماً في فعاله، وكريماً في ماله، وكريماً في أحواله حتى ينيله الله U هذا الفتح المبين .
إذاً الجهاد هنا في التخلق بخُلُق الكرم الربَّانى على منهج الحبيب الأعظم e.
وقس على هذين المثلين السابقين جهاد النفس لمن أراد أن يكون من أهل الخصوصية في الجهاد لتصفية القلب والتخلَّق بالأخلاق العليَّة بعد التخلِّى عن الأخلاق الرديَّة والسفليَّة المؤذيَّة، فلو كنت تحبُّ الإكثار من الكلام مع الأنام، فهذا خُلُق يحجب من خزائن الحكمة التي يقول فيها الله: ” يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ” (269البقرة) ومفتاحها يقول فيه e:
{ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُوتِيَ صَمْتاً وَزُهْداً فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ }[3]
إذاً جهادى لأنال هذا الفوز العظيم وأكون حكيماً وتفتح لى كل خزائن الحكيم أن أجاهد في إمساك لسانى إلا عما قال فيه الله: ” لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ” (114النساء).
إذاً جهاد النفس هو لتصفية القلب وللتخلق بأخلاق العبودية، وإمامنا فيها أجمعين هو خير البرية e.
أما الجهاد في العبادات فهذا جهاد العابدين، وربما كانت كل خزائن الفتح في هذا الميدان موصدة أمامهم، لماذا؟ لأن العابد إذا أصيب بداء الغرور فإن الله U يوصد أمامه كل أبواب الفتح، وإذا رأى نفسه خيراً من غيره فإن الله U يحرمه من أرزاق المتقين ومواهب الصالحين.
صفاءُ القلب
الأصل الثالث: تصفية القلب، وتصفية القلب لا تكون إلا بتطهيره من الأمراض والأغراض التي تمنعه من القرب من ربِّ العباد U، فإن الله U لا يُشرق بأنواره العليَّة إلا على من قال فيه في محكم آياته القرآنيَّة: ” إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (89الشعراء) سليم يعني ليست فيه علة ولا غرض ولا مرض.
ومن هنا فالأساس الأول في جهاد القلب؛ أن يكون الجهاد ليس له غاية إلا وجه الله، ليس له غاية دنيوية ولا مآرب أخروية، يقول الله U في أهل هذا المقام آمراً وموجهاً خير البرية: ” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ” (28الكهف).
إذاً جهاد القلب الأول في تخليص القلب من الوِجَه الكونيَّة والشهوات الدنيَّة والحظوظ السافلة الدنيوية، أى لا يكون أىٌ من هذه الأشياء مراده ولا بغيته ولا همُّه ولا أمله، فلا يكون للإنسان همٌ إلا في إرضاء ربِّ البرية U، لا يريد إلا الله ولا يبغى إلا رضاه، ولا يطلب في الدارين إلا وجه مولاه U، ليس فيه مقصد غير ذلك، وليس فيه مطلب أو مأرب سوى ذلك، وهذه تحتاج إلى جهاد شديد في توحيد الوجهة، أى تكون الوجهة هى وجه الله.
والجهاد الشديد لأنه يجب أن يكون كذلك وهو يعيش بين الناس ولا يترك دنياهم ولا يذهب للجبال ولا للوديان ولا للعزلة، فهذا لا يصلح مع الصالحين في زماننا هذا!.
والإنسان طالما هو في هذه الأكوان يحرِّكه قلبه، فإن القلب ما سُمى قلباً إلا لكثرة تقلِّبه، تارة يريد الظهور في الدنيا، وتارة يريد الرياسة، وتارة يريد الشهرة، وتارة يريد السمعة، وتارة يريد الأُنس بالخلق، وتارة يريد تحقيق مصالح من بينهم أو من وراءهم أو بسببهم، فالقلب يتقلُّب في هذه الشؤون.
إذاً أول جهاد للقلب في توحيد الوجهة، حتى لا يريد إلا وجه الله، لا يريد شيئاً حتى من عند الله وإنما يريد وجه الله، وليس معنى ذلك أن لا يدعو مولاه، فكلنا ندعوه، لكن صاحب القلب السليم يدعو ليتحقق بمقام العبودية في ذلِّ الطلب إلى ربِّ البرية، لأن الله غنىٌ عما سواه ويحتاج إليه كل ما عداه، فهو يُظهر لله U عند السؤال والدعاء ذلَّ الطلب، لأنه يتذلل بين يديه ويتضرع إليه ويُخبت إليه حتى يكون عبداً صادقاً بين يديه U، فهذا همُّه أو غايته من الدعاء، ويعلم بعد ذلك أن الله U يُحقق له كل ما يتمناه، وهو في الحقيقة لا يتمنى إلا وجه مولاه U:
وغاية بغيتى يبدو حبيبى |
بعين الروح لا يبدوا خفيَّا |
فنظرة منك يا سؤلى ويا أملى |
أشهى علىَّ من الدنيا وما فيها |
فيجاهد المرء ليُوحد جمال الله U، ولذا فإن تمام الجهاد لا يتم إلا بالفناء الكلىِّ عن الشهوات والحظوظ والأهواء، والفناء يعنى موت هذه الرغبات حتى أنها لا تتحرك في النفس ولا تطالب الإنسان بتحقيقها ولا تخطر على البال وتطالب المرء بنيلها لأن الإنسان أصبح له وجهة واحدة وهو وجه مولاه U، وهذا هو جهاد المحبِّين وجهاد الصالحين وجهاد العارفين.
وهذا الذى يقول فيه إمامنا ابوالعزائم t مظهراً مرتبة السالكين المبتدئين: (والسالك من توحَّد مطلوبه ورضىَّ بما قدَّره محبوبه) لكن الذى يريد أن يكون عالماً، والذى يريد أن يكون صاحب كرامات، والذى يريد أن يتمتع بالرؤيات الصالحات، والذى يريد أن يُقذف في قلبه الإلهامات، والذى يريد العطايا من الله U فهذا ما زال لم يصل إلى مقام الفناء لأن تمام المقام:
وكن عبداً لنا والعبد يرضى |
بما تقضى الموالى من مراد |
إذاً لا يمكن للإنسان أن يجاهد نفسه إلا بواسطة شيخ مأذون من الحبيب الأعظم e، وجهاد النفس في التخلص من أهوائها وشهواتها وحظوظها وبدواتها وكبح جماح الشهوات وسَوقها إلى الطاعات والقربات ومتابعة سيد السادات e.
وتصفية القلب – كما قلنا – أول أصل فيه هو توحيد الوجهة لله U، وحتى تكون الوجهة سديدة على المريد ألا يطلب على جهاده في تصفية قلبه أو جهاده لنفسه أجراً إن كان دنيوياً عاجلاً أو أخروياً، حتى لا يطلب بجهاده الفتح ولا الكشف ولا الرؤيا ولا الشهود، لأنه في هذه الحالة حدَّد أجراً، لكنه يطلب وجه الله، والله U يقيمه في المقام الذى يراه مناسباً له وهو أعلم بنا U من أنفسنا، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا جاهد العبد نفسه في الفناء، وهذا هو السبيل الوحيد لنيل الفتوحات الربانية ونيل الهبات الإلهية ونيل العطايا المحمدية … هذه بعض الأصول التي لا بد منها لمن يريد الوصول.
جهاد السالك لتنوير القلب الحالك
كيف يجاهد الإنسان نفسه في سبيل تحقيق تصفية القلب؟ الإنسان في طريق الله إما سالكٌ، وإما عارفٌ، وإما واصلٌ، وإما متمكنٌ، وإما متمكنٌ أمكن.
فما جهاد السالك في طريق الله U ليصفِّ قلبه؟
أولاً: التخلص من النفاق:
أول جهاد يبدأ به الأفراد ولا يتركه إلا أهل البعاد هو التخلص من النفاق، والنفاق علمىٌ وعملىٌ، فالنفاق العلمى نفاقٌ في العقيدة أى باطنى، فتكون العقيدة زائغة غير سديدة ولا سليمة، وسببه الشهوات والدنيا والأهواء المستكنة في باطن الإنسان، ومظاهره الاعتراض على الصالحين أحياءاً وأمواتاً، وتنقيص الأنبياء والمرسلين بأن يعتبرهم أناس عاديين وخاصة سيد الأولين والآخرين، وانتقاص المسلمين فلا يعجبه أحد من المسلمين إلا نفسه وخاصة أكابر العلماء الذين لهم بصمات واضحة في شريعة الله السمحاء كأصحاب المذاهب، وإثارة النزاعات والخلافات دوماً بين المسلمين، والتشويش على المؤمنين بكثرة الآراء .. فهذا النفاق يسمى النفاق العلمى وهو نفاق في العقيدة والعياذ بالله U.
أما النفاق العملى فهذا يحتاج منا إلى الجهاد الأعظم، وهو أن الإنسان ترغب نفسه في التكاسل والتقاعس والتباطؤ عما فرضه عليه الرحمن، أو سنَّه النبي العدنان e، ويحتاج إلى العزيمة والجهاد، وهو الذى أشار إليه النبي e في قوله:
{ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ لاَ يَسْتَطِيعُونَهَا }[4]
لا يستطيع الرجل منهم أن يصلى العشاء في جماعة في الليلة الباردة، ولا يستطيع أن يصلى الفجر في جماعة إلا قليلاً، هذا النفاق العملى خطورته لو استكنَّ له الإنسان ورضى به ولم يَلُم نفسه عليه، مثل من يصلى الصبح بعد طلوع الشمس ولا تلومه نفسه ولا تؤنبه ولا تعاتبه على هذا الفعل، وهنا خطورة هذا النفاق، لكن لو كنت تصلى الفجر في جماعة ونمت عنه يوماً فوبَّختك نفسك طوال اليوم، فهذا خارجٌ هذا المرض.
إذاً المرض لمن رضى به ووَّطن نفسه عليه ونفسه لا تلومه ولا تعاتبه ولا توبخه ولا تؤنبه على ذلك؛ وهذا هو النفاق العملى.
من أبواب النفاق العملى
هناك أبواب في النفاق العملى لا بد للإنسان أن يُطهر نفسه منها حتى يدخل إلى مقامات الإيمان، وسنختار منها خمسة أبواب لخطرها، واحذر فهناك غيرها!:
1- إذا رأى الإنسان نفسه خيراً من غيره في العادات والطاعات والقرب من الله، فذاك مرض داخلى يحتاج إلى العلاج، ويقول في ذلك أبوالعزائم t: (كفى بالمرء إثماً أن يرى الخير في نفسه والشر في إخوانه) في هذه الحالة هو شيطان وبه مرض داخلى يحتاج إلى العلاج.
2- السعى للقطيعة بين الإخوان المتحابين المتآلفين، وهى أخطر من السابقة في داء النفاق العملى؛ وهذا شيطان واضح مع أنه يصلى ويصوم وربما يقوم الليل وربما لا يملُّ من تلاوة القرآن، لكن عمله هذا يخالف منهج الإيمان السديد الذى وضحه الله U في القرآن: ” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” (6-9الحجرات) إياك أن تميل مع هذا أو ذاك، فلا تمل إلا مع الحق حيث مال.
3- أن يكون الإنسان بخيلاً وشحيحاً ويرى نفسه خيراً من غيره، لأنه يرى نفسه حريصاً ومحافظاً على ماله، بل ربما يستهزئ بالمنفقين ويراهم سفهاء ومبَّذرين، وقد يتناهى في بخله وحرصه حتى يبخل بمال غيره في نفسه من أن ينفقه صاحبه فيصير شحيحاً فتطمح عينه إلى مال أخيه ويقول: لو كان لى لحافظت عليه وما أهدرته، وتنقبض نفسه من جود أخيه بماله! ويراه سفهاً وتبذيراً! فهذا من فقه معنى الشح، فانظر إلى أى مدى يلاحظون خلجات النفوس وطرفات العيون!.
ولذلك قال الإمام عبد الوهاب الشعرانى t: (أقبح القبيح صوفى شحيح)، كيف يكون صوفياً وشحيحاً؟! فالصوفية لا تدعو إلا لمكارم الأخلاق، وأول مكارم الأخلاق الكرم والجود وخلاف الشحِّ، فالصوفى الصادق عندما يرى أهل الإنفاق يربو الإيمان والغبطة في قلبه، ويفرح لأخيه ويدعو له، ويتمنى أن لو كانت له الجبال ذهباً لأنفقها في سبيل الله! ولذا فهم يذكرون أنفسهم دائماً بقول الله تعالى: ” وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” (9الحشر)
4- أن يلقى قوم بوجه وإذا غابوا عنه ذكرهم بوجه آخر، وهو نفاقٌ عملىٌ يتبرَّأ منه كل صفىّ ويبرأ منه كل ولىّ؛ فهو ليس من صفة الأتقياء لأن التقى ما في قلبه على لسانه.
وهذا النفاق يسمُّونه المداهنة أى يداهن الناس، فعندما يرى إنسان يتقرَّبُ أو يتزلَّفُ إليه، فإذا مشى من أمامه أخذ يخوض فيه ويغتابه ويُقبِّح سوء فعله ولا يذكر إلا أسوأ ما فيه وينسى ما فيه من خصال كريمة، والحبيب e يُخَوِّف هؤلاء المنافقين بسوء العاقبة يوم لقاء الله، فالوجهان واللسانان سيكونان من نار يوم القيامة! فمن يطيق ذلك، قال:
{ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ }[5]
وقال:
{ ذُو اللِّسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا لَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[6]
فالمؤمن التقى هو الذى يرى حسنات إخوانه وعيوب نفسه، ويغضُّ الطرف عن عيوب إخوانه وعن مكارم نفسه فلا يغترَّ، لا يتذكر مكارمه ولا محامده! وإنما يضع أمامه دائماً مساوئه وجرائمه حتى يُصلح عيوب نفسه وحتى يهذِّب نفسه.
فالذين يحضرون المجالس ويذكرون الله ويصلون على رسول الله ثم يمشى أحدهم بين الإخوان ليوغل صدر هذا ويملأ صدره هذا على ذاك، فهؤلاء شياطين ولكنهم يجالسون المؤمنين، فعندما دعا الله الملائكة للسجود: ” فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ” (30-31الحجر) وهل كان إبليس من الملائكة؟ لا، ولكنه كان معهم وقتها، يقول بقولهم، ويفعل بفعلهم، فأخذ حكمهم وأُمِرَ معهم، ولكن حقيقته أبت وبقيت على غيِّها لم تطْهُر، فلمَّا أمر بما يكره أعلن رفضه وأظهر نيَّته وعصى ربه، وهكذا مثل من تبع الصالحين وقلبه معقود على صفة المنافقين.
5- أن يتصنَّع الخشوع أمام الناس ليحظى بالرفعة والتقديم، وهذا من أخطر النفاق، وهو قاطع لجميع الإمداد والأرزاق، لأن الرجل لا يزال يتصنَّع الخشوع والإنكسار أو الصراخ والبكاء وتمثيل الأحوال أمام إخوانه – وليست هكذا أحوال الرجال وإنما أحوال الجهَّال- فيفرح بتقديم السذَّج له لما يرونه منه وينتشى لطلبهم دعائه أو تقبيل يده حتى يصدِّق أنه جاز وفاز، فيتوقف عن السلوك والاجتياز، ويرى أنَّه فوق البقيَّة، وهو عند أهل الحضرة الحقيَّة منافقٌ علامته جليَّة وحالته مخزيَّة، والمصطفى يحذر من تلك المهالك المرديَّة وينبِّه ويقول:
{ مَنْ أَرَى النَّاسَ فَوْقَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الـخَشْيَةِ فَهُوَ مُنَافِقٌ }[7]
وقال:
{ الْمُنَافِقُ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ يَبْكِي كَمَا يَشَاءُ }[8]،
وبكى سفيان الثوري t يوماً ثم قال لمن حوله: (بلغني أن العبد أو الرجل إذا كمل نفاقه ملك عينيه فبكى!).
ولا تعارض هنا مع حديث:
{ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا }[9]
لأنه e أمرهم بالبكاء أوالتباكى عند القرآن ترقيقاً للقلوب وجلباً للخشية، أوعند سماع عذاب النار إظهاراً للخوف من الله القهّار، أو عند المرور بديار الخسف والصعق من الكفار، وأما المنافق فيبكى أمام الناس تصنعاً وخداعاً، ويملك دموعه إرسالاً وامتناعاً!.
فأول جهاد في مراتب السالكين لتصفية القلب أن يجاهد نفسه حتى يتطهَّر من كلِّ أوصاف النفاق والمنافقين ويدخل في قول الله U: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ” (119التوبة) إذا أعانه مولاه وقوَّاه على التخلص من أخلاق النفاق ليطبع بأخلاق أهل الصدق والوفاق، وكما قال الصادق المصدوق e ليعرِّفنا صفة المؤمنين الصادقين:
{ كُلُّ خِلةٍ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلا الْخُيَانَةَ وَالْكَذِبَ }[10]
وهاتان الصفتان الذميمتان جمعتا ووعتا كل صفات المنافقين، فكلُّها متفرِّعٌ عنهما، فخلف الوعد وغدر العهد من الكذب، وفُجْرُ الخصومة وأكل الأمانة من الخيانة، فلا بد للمريد الصادق أن يتخلص من هذه الصفات بالكليَّة، ولا يبيح لنفسه استخدامها ولو لمرَّة واحدة إذا أراد أن يرتقى لمقام السالك.
لماذا؟ لأنه لا بد للسالك أن يكون خالياً تماماً من أوصاف النفاق والمنافقين، فلا يكذب ولا يغتاب ولا ينمُّ ولا يخون ولا يخلف وعداً ولا يفجر في خصومه.
وهذه بدايات المؤمنين وليست النهايات!، لكن من أعانه الله عليها واجتازها فهذا دليلٌ على أنه من أهل العنايات، لكن الموحول فيها حتى لو حصَّل العلوم ورزقه الله جودة الفهم في تحصيل العلم وحصَّل علوم العارفين وحِكَم الصالحين إلا أنه كما قالوا في ذلك: (كحمار الرحى يظنُّ أنه قطع مسافات وهو لم يبرح محلَّه)، فهذا يظن أنه من الواصلين ومن العارفين وعندما يقال له: ” فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ” (22ق) يجد أنه لم يتجاوز موضعه، لماذا؟ لأنه لم يتخلى عن أوصاف المنافقين وصفات الكاذبين التي نهى عنها رب العالمين والتي حذَّر منها النبي المصطفى e المسلمين أجمعين.
ولذلك كان حتى أكابر الصحابة عندما يسمعون حديثاً من رسول الله e في صفات المنافقين؛ يسارعون في الحال ويقيسونها على أنفسهم مع علو قدرهم! لا يقولون ليس الكلام لنا! وإنما يبحثون فوراً في باطنهم، ولا ينامون الليل خشية أن تخدعهم نفوسهم، ولذا ورد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما سمعا وصف المنافقين من رسول الله خرجا من عنده وهما ثقيلان يجرَّان أقدامهما ترتعد أوصالهما لا تكاد تحملهما أقدامهما خوفاً من أن يكونا كما وصف e؛ فرآهم علي t فقال لهما:
{ مَالِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ؟ قَالا: حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه e، قال: مِنْ خِلالِ الْمُنَافِقِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَفَلا سَأَلْتُمَاهُ؟ فَقَالا: هِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ e، فَقَالَ: لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَهُمَا ثَقِيلانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالا: فَقَالَ: قَدْ حَدَّثْتَهُمَا، وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَهُ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ، وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخْلُفُ، وَإِذَا ائْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ }[11]
أى يقول ويعرف أنه كاذبٌ، أو يَعدُ وهو يعرف أنه لن يفى، أو يأخذ الأمانة ونيَّته في الخيانة! فانظروا لشدة حرصهم على تطهِّرهم من هذه الخصال الذميمة، وخوفهم من أن أحدهم لو قهره مانع فوق طاقته مع حرصه وترتيبه للوفاء أو الأداء فحيل بينه وبين ذلك، فحق لصاحب الحقِّ أن يطلب حقه في ميعاده، وصاحب الوعد مسؤول عن وفائه وما يترتب على خلفه، ولا نضغط على صاحب الحق ليتنازل وإن رغَّبناه في الصبر إن أمكن، ولكن الشاهد أنه لا يُكتب في ديوان المنافقين لخلْفِه لأنه لم يبيِّت النية أبداً على ذلك.
وقد تحدثت كثيراً في هذا الأمر، لكنى أجد كثيراً من إخوانى لا يعير هذا الأمر اهتمامه في طور الجهاد، فيظن أن الجهاد في العبادات والأذكار وقيام الليل، لكن أول الجهاد أن يراعى نفسه ويرعى جوارحه حتى يتطهَّر من كل أوصاف النفاق والمنافقين، فيأخذ خلعة الصادقين، ويكون موقعه: ” فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ” (55القمر) وهذه هى بداية السير والسلوك الصحيح إلى ربِّ العالمين U.
لكن طالما المرء فيه سِمة أو علامة أو آية أو صفة من أوصاف المنافقين لا يُسمح له بالجلوس أبداً في مقاعد الصدق عند ربِّ العالمين U، فمهما بجَّلوه ومهما كرَّموه … كل ذلك ليداروه، لكن الإنسان أبصر بنفسه وأعلم بمصلحته، فمن أراد أن يرتقى في مدارج الكمال ويبلغ منازل أهل الوصال يتجمَّل بشمائل الرجال وأولها التطهَّر من هذه الخصال والخلال التي حذَّر النبي من الاقتراب منها في جميع الأحوال وهى أوصاف المنافقين.
ثانياً: الحرص على القيام بالفرائض:
إذا تطهَّر السالك من أوصاف المنافقين فيكون جهاده بعد ذلك في الحرص على الصلاة في وقتها في جماعة في بيت الله U، ولا يلتمس لنفسه عذراً، لأنه لو التمس لنفسه الأعذار فسينغمس من رأسه إلى قدميه في الأوزار.
والمقصود بالأعذار؛ الأعذار التي ليست في شريعة الله، فالمريض الذى لا يصلى في المسجد هو من يمنعه الطبيب المؤمن المسلم، لكن آفة السالك أن يلتمس لنفسه الأعذار ويقبلها، وإذا نصحه أحد يتغير من جهته وربما يُعرض عنه وربما يخاصمه لأنه يريد أن يوجهه، ولذلك قال إمامنا أبوالعزائم t: (كن مع شيخك على نفسك ولا تكن مع نفسك على شيخك) فإياك أن تعاون النفس بأن تلتمس لها الأعذار وتقبلها، فيجب إذاً على السالك أن يحرص على الفرائض حرصاً كاملاً لقوله e لسيدنا عبد الله بن مسعود عندما سأله:
{ ما أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلَى اللَّه؟ قال:ِ الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا }[12]
ألم يقل الله: ” إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ” (103النساء).
ثالثاً: الحرص على أنفاسه وصحته الروحانيَّة
يحرص على أنفاسه، فلا يتنفس نَفَساً في غفلة أو في سهو أو في لهو أو في لعب أو في بعد أو في معصية أو في صدود، لا يتنفس نَفَساً إلا إذا تأكد أنه في كمال الرضا لله جلَّ في علاه.
من الذى يحرس الإنسان؟ الإنسان هو الذى يحرس أنفاسه، لأن أنفاسك نفائسك، وعمرك أنفاسك، والمطلوب عظيم والعمر قصير، وإذا استخدمت أدوات التسويف بعدت بالكليَّة عن مناهج الصالحين، أما السالكون الصادقون فإنهم يسارعون فوراً إلى ما ورد في القلب محاولين ارضاء ربِّ العالمين U، ولذلك فهم أبخل الناس على وقتهم.
فإذا رأيت سالكاً لا يهتم بوقته فاعلم أن ذلك من مقت واقع عليه من ربِّه، كيف؟ تجده ولا مانع عنده من مشاهدة التلفاز والفضائيات ومتابعة المسلسلات والأفلام والفيديوهات! أليس هذا مقت؟! ما لهذا ولسلوك طريق الصالحين؟! ربما يكون مُحبَّاً للصالحين وهذا حق، لكن الصالحين ليس عندهم وقت يقضونه في هذا! إن وقتهم أغلى من كل شئ نفيس في هذه الحياة الدنيا.
ولذا فلا تعجب إذا قال أحدهم: (لو خيرت بين دخول الجنة وصلاة ركعتين لاخترت صلاة الركعتين على دخول الجنة، قيل: ولِمَ؟ قال: لأن في صلاة الركعتين رضاء ربي وفي دخول الجنة رضاء نفسي ورضاء ربي مقدم على رضاء نفسي) انظر كيف كانوا يقيسون الأمور؟!!
هل هناك وقت عند أحدهم للقيل والقال؟! إنهم حتى في حديثهم في كلام الواحد المتعال أو في حديث الحبيب الأعظم أو سيرة الآل يقتصدون، فكيف يستبيحون وقتهم في اللغو أو اللهو أو في الباطل أو القيل والقال مع تحذيره e:
{ إنَّ اللّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَإضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ }[13]
فالسالك أحرص الناس على أنفاسه، لا ينفق نَفَساً إلا في مرضاة الله U، وهو أحرص الخلق على صحته الروحانية، فيبخل بنَفَس واحد يصرفه في غفلة أو أمل في الدنيا أو حظ نفسانى، فيعمل في الدنيا لتكون وسيلة الآخرة، ويجالس الناس لينتفع منهم أو ينفعهم نفعاً يدوم أثره: ” يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (88-89الشعراء) وقال الإمام أبو العزائم t:
نَفَسٌ بقلب سليم رفعةٌ ورضا |
وألف عام بلا قلب كلحظات |
الجسم بالقلب يترقى إلى رُتَب |
والجسم من غير قلب في الضلالات |
فإذا صفا القلب من وهم وشبهاتٍ |
يشاهد الغيب مسروداً بآيات |
رابعاً: محبَّة الله ورسوله ومن والاهم:
يحرصون بعد ذلك على محبة الحبيب e وكل من يلوذ بالحبيب وآله وأصحابه والصالحين المقتدين بهديه والمحبين له والعاشقين له، ويحبونهم حبَّاً أعلى من حبِّهم لأولادهم وبناتهم لأنهم سمعوا قول الله U: ” قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى “(23الشورى) والقربى أى ذوى رحمه، أو ذوى قرباه! أى المقربون من حضرته e، إن كان ذوى قرباه جسمانياً وصادقون في حسن اتباعهم لحضرته، أو ذوى قرباه روحانياً ونورانياً وهؤلاء أعلى في الرتبة والفضل، أو ذوى قرباه روحانياً وجسمانياً وهؤلاء أهل الكمال، ولذا قال e معلماً الأمة:
{ أَدبُوا أَوْلاَدَكُمْ عَلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ حُب نَبِيكُمْ وَحُب أَهْلِ بَيْتِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ }[14]
خامساً: التأليف بين الإخوان:
يحرص السالك كذلك في جهاده لنفسه على أن يمشى دائماً وأبداً بلسماً شافياً لجراح إخوانه، فيشفى الصدور من الأحقاد، وينزع من النفوس الغلَّ، ولا يرتاح إذا وجد أخين متخاصمين حتى يصلح بينهما، ولا يسكن في ليله أو نهاره إذا وجد خلافاً بين أخين إلا إذا ألَّف بينهما، لأن رسالة المحبين التأليف بين قلوب المحبين، واسمعوا لقوله تعالى في كتابه الكريم: ” إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ” (103آل عمران) وهذه وظيفة رسول الله وورثته وأحبابه والماشين على نهجه.
والوظيفة المخالفة هي وظيفة إبليس! فهو يسعى للتلبيس بين الإخوان، وللإيقاع بينهم، وإلى إيجاد الشحناء في نفوسهم، وإيجاد البغضاء في صدورهم.
لكن وظيفتنا هى التأليف بين قلوب المؤمنين، والحرص على المودة بين السالكين، فهذه أعظم بضاعة نتقرب بها إلى الله، وهى التي تحتاج إلى الجهاد الأعظم في أطوار السالكين، لأن النفس دائماً تحاول أن تُخرج المرء من طور السلوك بتزيين الغيبة والنميمة والإيقاع بين المؤمنين وتتبع عورات إخوانه الذاكرين والعلماء والمرشدين والمنشدين، فكل من رأيته يتتبع سقطات إخوانه فاعلم أنه ساقطٌ من عين الله U، وكلما تذكر له أخاً تجده يسارع فيذكر مساوءه وعيوبه، أفلا اتبع:
وستراً لعورات الأحبة كلهم |
وعفواً عن الزلات فالعفو أرفق |