الحمدلله ربِّ العالمين، خلق الخلق وأحصاهم عددا، وقدَّر لهم الحياة الدنيا، وقدَّر ألا يُبقي فيها أحدا، فإذا جاء أجلهم، وتمَّ في الدنيا ميعادهم، و(لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، جاءهم نداء العلىِّ الحيِّ القيوم: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (27: 30الفجر).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحِبُّ عباده المؤمنين، ويُقبل عليهم بخيره وبرِّه وأفضاله في كل وقتٍ وحين، فإذا أذن الرحيل وكشف عن أعين بصيرتهم بما جهَّزه لهم، رأوا ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من خير الله، وفضل الله، وإكرام الله لعباده المؤمنين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، الذي وصفه ربه فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (128التوبة)، ومن شدة رأفته ومن فرط رحمته أنه صلى الله عليه وسلّم حضر رجلاً أنصارياً يعالج سكرات الموت، فتحدَّث مع ملك الموت الذي وُكِّل به، ثم ترجم الحديث لمن حوله فقال: قلت له: (يا ملك الموت ارفق به فإنه مؤمن. فقال: يا محمد أبشر فإنِّي بكل مؤمنٍ شفوقٌ وعطوفٌ ورحيم) (رواه الطبرانى فى المعجم الكبير عن الحارث بن الْخزرج عن أبيه).
اللهم صلىي وسلم وبارك على مَصْدَرِ الرحمات، وسرِّ كلِّ العنايات، والوسيلة العُظمى للنجاة من أهوال القيامة ومفتاح الجنات، سيدنا محمد وآله الأطهار، وصحابته الأبرار، وكل من سار على هديه إلي يوم القرار، وعلينا معهم أجمعين، بفضلك وجودك يا عزيز يا غفَّار.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
مهما تحدث المتحدثون، والعلماء والمتكلمون عن فضل الله للمؤمن، فلن يبلغوا الغاية، ولن يقتربوا في ذلك من النهاية، لكن المؤمن إذا كان في مفارقة الدنيا إلي الدار الآخرة، رأى رأيَ العين فضل الله، وإكرام الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين، ليفرح بلقاء الله فيفرح الله بلقائه.
تعالوا جميعاً لنعلم قليلاً مما أعدَّه الله للمؤمنين في هذه اللحظة: يُجهِّز الله عزَّ وجلَّ أولاً للمؤمن والمؤمنة حُسن الختام، حتى يخرج من الدنيا وقد خُتم له بالإيمان، فيفوز ويجوز، لأن أعلى شيءٍ يخرج به الإنسان من دُنياه، أن يخرج بخاتمة الحُسنى يلقى بها وجه مولاه جلَّ في عُلاه!! وهذا كان مطلب حتى الأنبياء والمرسلين!! اسمعوا إلي نبيٍّ من أنبياء الله يناجي ربَّه فيقول: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (101يوسف).
ولذلك جعل ربُّ العزِّة بابَ التوبة مفتوحاً لعباده المؤمنين حتى الغرغرة، فإذا تاب .. تاب الله عليه: (إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيئُ النَّهَارِ، وَيَبْسَطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيئُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلَعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه). وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). يعني إذا دخل في الغرغرة، لكن قبل ذلك يمُدُّ يديه بالتوبة.
بل إنه عزَّ وجلَّ هو الذي ينادي كل ليلة وكل وقتٍ وحين ويقول: ( هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) (الدارقطني وبن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ” إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَذهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ،حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ“) هو الذي ينادينا لنتوب!! وهو الذي يمُدُّ يده إلينا حتى إليه نعود!! وبشرَّنا وقال لنا: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (222البقرة). فإذا تاب العبد إلي الله تاب عليه مولاه جلَّ في عُلاه، وشمله بعنايته ورعايته، وفضله وجوده ورحمته، وكان له من الإكرام ما لو كانت الأرض والسماوات كلُّها أقلام لا تستطيع أن تحصي أو تكتب بعض النعم التي خصَّه بها الملك العلام عزَّ وجلَّ.
يُهيئٌ له الله عزَّ وجلَّ حُسن الختام، ويجعل له بعد ذلك موتةً طيبة، إما أن يقبض رُوحه في وقتٍ طيب، وإما أن يقبض رُوحه على حالٍ طيبٍ أثنى عليه حبيب الله ومصطفاه، وبيَّن فضله وكرمه لعباد الله، فإذا توفاه في يومٍ مثل يومنا هذا فيا بُشراه لقول حبيب الله ومصطفاه: (مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا، وُقيَ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ) (رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو). وإذا وُقيّ من فتنة القبر فقد فاز وجاز، لأنه أمن من عذاب النار، وضمن دخول الجنة مع الأبرار.
أو يتوفاه عقب شهر رمضان، أو عقب الحج إلي بيت الله الحرام، أو عقب طاعة أدَّاها، أو عقب صلاة صلاّها لله، أو عقب عملٍ صالحٍ قدَّمه لمولاه، فكل من مات على هذه الحالات فيا هناه عند الله عزَّ وجلَّ.
بل إن الله عزَّ وجلَّ قد يَخُصُّ بعض المؤمنين فيتوفاهم على الموتة التي يطلبونها، والحال التي يرجونها إجابة لدعائهم من ربِّ العالمين. السيَّدة نفسية رضي الله عنهاحَفَرَتْ قبرها في بيتها، وكانت تنام فيه ولا تخرج منه إلا للضروريات الحياتية، وتصوم النهار وتقوم الليل وتتلو القرآن، واستمرَّت تتلو القرآن فيه لمدة خمسة عشر عاماً، ولمَّا جاء شهر رمضان وكان جسمها قد ضعف وهزل عن الصيام، وفي يوم السابع عشر من شهر رمضان وجدوها وقد أوشكت على الهلاك لضعف جسمها، فطلبوا منها أن تفطر – ولها العُذر ومعها الحُجَّة الشرعية: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (184البقرة).
فقالت: أنا أفطر!! وقد طلبت من الله عزَّ وجلَّ أن يقبضني وأنا صائمة!! لا يكون ذلك أبداً، واستمرَّت في التلاوة حتى وصلت إلي سورة الأنعام وتلت قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وخرجت روحها إلي الله عزَّ وجلَّ. استجاب الله دعاءها وقبضها وهي صائمة وتتلو كتاب ربِّها عند آية تُبَيِّنُ مقامها أنها من أهل دار السلام والله عزَّ وجلَّ يقول عقبها: ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (127الأنعام). فيُهيئ الله عزَّ وجلَّ للمؤمن وقتاً طيباً يموت فيه أو حالة طيبة.
إذا كان المؤمن له ذنوب وعليه عيوب، أو يريد الله أن يرفع مقامه في الجنة ولم يُوفِّ في هذا المقام في عملٍ يعمله، فإن الله يبتليه ليُطَهِّرَهُ من الذنوب – إن كان عليه ذنوب – أو ليرفع درجته في الجنة – إلي الدرجة التي قدَّرها القدير، ولم يقدِّم لها من عمله من البرِّ والخير الكثير – ولذلك جاء في الأثر: (إذا أحب الله عبداً أمرضه قبل موته).
فإذا مرض ولم يَشْكُ الله عزَّ وجلَّ إلي عُوَّداه، ولم يتأفف ولم يتضجر، وصبر على المرض مع أخذ الدواء والذهاب إلي الأطباء، والإلحاح في طلب الشفاء من الله عزَّ وجلَّ، فإن هذا يكون كما قيل في الأثر في شأنه: (مرض يومٍ يُكَفّر ذنوب سنة). ويقول الله عز وجلّ في حديثه القدسي في حقِّه: (إذا أمرضت عبدي ولم يشكُني إلي عُواده، أبدلته دماً خيراً من دمه، ولحماً خيراً من لحمه وقلت له: غفرت لك ما مضى فاستأنف العمل فيما بقي) (روى السيوطي في الفتح الكبير والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنهبلفظ: ” أَبْتَلِـي عَبْدِي الـمُؤْمِنَ فإذَا لـم يَشْكُ إلـى عُوَّادِهِ ذلِكَ حَلَلْتُ عنهُ عِقْدِي …”). ولايزال هذا البلاء حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، ثم لا يزال به حتى يرتفع في الجنة درجات، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إن الله يرفع العبد بالبلاء الدرجة في الجنة لا ينالها بشيْءٍ من عمله) (ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
فإذا قدَّر الله عزَّ وجلَّ له رتبة الشهادة – ولم يكن قتالٌ في سبيل الله، أو حربٌ ضد الكافرين من أعداء الله، قدَّر الله عزَّ وجلّ أمراضاً حددَّها رسول الله يُكتب لمن مات بها درجة الشهادة عند الله عزَّ وجلَّ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (أتدرون من الشهيد فيكم؟ قالوا: الشهيد الذي مات في سبلي الله، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل ولكن الغريب شهيد – الذي مات بعيداً عن بلده فهو شهيد، والمبطون شهيد– يعني الذي مات بمرضٍ في بطنه، إن كان في كبده، إن كان في قلبه، إن كان في معدته، إن كان في أىِّ جزءٍ من بطنه، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحريق شهيد،والنُفساء– أى التي ماتت أثناء الولادة أو عقبها – شهيدة) (مسلم عن أبي هريرة).
كل هؤلاء شهداء عند الله عزَّ وجلَّ، ويبلغون درجة الشهادة التي يقول فيها صلَّى الله عليهوسلَّم: (إن الله أعَّد للمجاهدين في سبيله مائة درجة في الجنة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) (البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه).
ثم يُقدِّر القدير – وهو قديرٌ عزَّ وجلَّ – أن يُغسِّله المسلمون، ويصلي عليه المؤمنون، فإذا صلينا عليه غفر الله عز وجلّ له، لأن الصلاة على الميت شفاعة من المصلين عند الله، يقول فيها صلَّى اللهعليه وسلَّم: (من صلى عليه أربعون من أمتي وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة) (مسلم عن بن عباس رضي الله عنهما). فإن لم نجد الأربعين، قال: كثِّروا الصفوف (مَنْ صَلَّى عليه صلاة ثلاثةُ صفوفٍ من أمتي– ولو كان الصف رجلاً واحداً – وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة) (روى أبو داود عن مالك بن هبيرة بلفظ: “ما من ميت يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلاَّ أوجب”). فإن كان يسير معنا في طريق الله، ويحافظ على الصلاة معنا في بيت الله، ونراه في أوقات الجماعة التي نصليها لله، وجب علينا أن نشهد له بأنه كان مؤمناً لقول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) (الترمذي وبن ماجة عن أبي سعيد رضي الله عنه) وفي رواية: (فاشهدوا له بالصلاح).
فإذا شهدنا له بالإيمان، ربما كان حاله مع الخلق لا يُرضي الرحمن، نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، فإذا قُدِّم بين يدي الحيّ القيوم يوم القيامة، دُعي الشهداء وأطلعهم الله عز وجلّ على ملفاته، وقال لهم لِمَ تشهدون لهذا وهذا عمله أمامكم؟ يقولون -كما قال حضرة النبي صلَّى الله عليهوسلَّم: يا ربَّنا أنت الذي أمرتنا بذلك، يقول الله عزَّ وجلَّ: وأين ذلك؟ فنقول: في قولك سبحانك: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ (81يوسف)، فيقول الله تعالى: (قَبِلْتُ شهادة عبيدي في عبدي، وتجاوزت عن علمي فيه، أدخلوا عبدي الجنة)(المنذري في الترغيب والترهيب عن عامر بن ربيعة). فيُدخل الله العبد الجنة بشهادة المؤمنين الذين كانوا يصاحبونه في أداء صلاة الجماعة في المسجد لله ربِّ العالمين.
إكرامٌ ما بعده إكرام، لا يستطيع الإنسان أن يذكر قليله فضلاً عن كثيره لأن الله عزَّ وجلَّ أعدَّ للمؤمنين من ضروب التكريم ما لا يعلمه أحدٌ من الأولين والآخرين. يكفي قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ (88: 91الواقعة) ـ قال صلَّى الله عليه وسلَّمما معناه: (أول بُشرى تُعجَّل للمؤمن بعد موته أن يغفر الله لكل من مشى في جنازته)، أو كما قال، ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الذي أكرمنا بهذا الهُدى وهذا الخير وهذا الدين، وجعلنا من عباده المسلمين، ونسأله أجمعين عز وجلّ أن يتوفانا مسلمين، وأن يُلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا في الحياة الدنيا وفي الآخرة من عباده الصالحين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نسأله عز وجلّ أن يثبِّتنا فيها عند الموت، وأن يُثبِّتنا في نطقها عند السؤال، وأن يجعلنا من أهلها يوم الجمع عليه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، القائل في حديثه عن هذه الأمة المجتباة ما معناه: (أمتي هذه أمة مرحومة تدخل القبور بذنوبها وتخرج منها مغفوراً لها باستغفار المؤمنين لأهلها). بل إنه صلَّى الله عليه وسلَّم سنَّ لنا في هديه الكريم أن ندعو بالمغفرة للمؤمنين في الخطبة الثانية من كل جمعة، ونؤمِّن على هذا الدعاء، وقال في سِرِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: (من سأل الله عزَّ وجلَّ المغفرة للمؤمنين، أعطاه الله عزَّ وجلَّ بمثل عدد المؤمنين حسنات) (رواه الطبراني بلفظ: “من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة” وإسناده جيد)، لأنه يسأل الله عزَّ وجلَّ لهم المغفرة.
والإنسان المؤمن إذا خرج وسعينا به يقول النبيُّ في شأنه: تقول الملائكة ماذا قدَّم؟ ويقول الخلق ماذا ترك؟ ماذا خلَّف؟ ماذا قدّم لله عز وجلّ، فلنأخذ العظة والعبرة من الموت، ونستزيد من العمل الصالح الذي ينفعنا بعد الموت، كلمة طيبة!! صدقة ولو قليلة!!ـ ركعة في جوف الليل تُنجي من عذاب القبر!!ـ صوم يومٍ حار يقي من طول عطش يوم النشور!! ستر مسلمٍ يستوجب ستر الستر يوم لقاء الله فلا يفضحه يوم يلقاه!! نتذكَّر هذه الأعمال الجليلة فنقوم بها عاملين لله، ونحرص أشدَّ الحرص على أن نُنقِّي أنفسنا من الديون، لأن الموت يأتي بغتة!!
والديون تجعل الميت محبوساً في قبره، لذلك جعل النبي صلَّى الله عليهوسلَّم أول واجب على أهل الميت أن ينظروا ديونه فيُسدِّدونها، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا حضر جنازة سأل: (أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلُّوا على صاحبكم ولم يصلي عليه) (أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)، وفي مرةٍ قال رجلٌ: علىَّ دينه، فقال: إذن أصلي عليه ) (النسائي عن ابْنَ الأكْوَعِ)، ثم قال: الميت محبوسٌ بدينه حتى يؤدَّى عنه) (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: “نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ“).
فنفُك أسرنا من الديون، وقد علمنا أن الموت يأتي بغتة، وربما لا يدري من حولنا بهذه الديون فيُسدِّدونها، وديون الله عزَّ وجلَّ – من الصلاة والصيام والزكاة والحج والطاعات – أولى بالقضاء. علينا أن نستزيد من الخير والبرّ، وخصوصاً هذه الأيام التي فيها ذكرى ميلاد الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
والحقيقة والحمد لله أرى في هذا الجمع المبارك خيراً عظيماً على الدوام، فنجدهم يسارعون في الخيرات طلباً لرضاء الله. عندما طالبناهم في شهر رمضان بألف شنطة للفقراء تمَّ الأمر في لحظات، دليلٌ على سخاوة النفوس وسلامة الصدور وقوة الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، وعندما طالبناهم في عيد الأضحى بألف كيلو لحمٍ للفقراء، لبُّوا مسرعين، وعندما طالبناهم بألف بطانية للفقراء، سارعوا كلهم فرحين مستبشرين. واليوم نناديهم ونحن نحتفي بذكرى ميلاد رسول الله، لا نريد أن نقدِّم للفقير الحلوى فهي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، وإنما أن نريد أن نُقدِّم ألف دجاجة ومعها أرزها ومعها زيتها حتى يطبخها ويأكلها الفقير. فاغتنموا الخيرات، وسارعوا إلي هذه المبرات، فلن ينال المرء من دُنياه إلا ما قدَّمت يداه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت) (أخرج الطبراني عن مطرف عن أبيه بلفظ: “يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، أو أعطيت فأمضيت“).
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعيننا على فعل الخيرات، وعمل الصالحات، وعلى استباق الفضائل والقربات، وعل الإكثار من ذكر الله والنوافل والطاعات،
ونسأله عز وجلّ أن يغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات. كما نسأله أن يشمل هذه الميِّتة برحمته، وأن يجعلها من أهل جنته، وأن يغفر لها ذنوبها، وأن يشكر لها سعيها، وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يُبيِّض وجهها يوم لقائه، وأن يُثقِّل ميزان حسناتها، وأن يعطيها كتابها بيمينها، وأن يجعلها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
كما نسأل الله عز وجلّ أن يُنزل على بلدنا الأمن والأمان، وأن يجمع شمل المسلمين أجمعين، وأن يجعلنا أخوة متآلفين متكاتفين، وأن يعيننا على النهوض بهذا البلد من وهدته حتى تكون راية مصر عالية في الخافقين، وأن يُغنينا بخيره وبرِّه عن الخلق أجمعين، وأن يصُدَّ عنا بفضله وكرمه مؤامرات الكافرين والمشركين واليهود ومن عاونهم أجمعين، وأن يجعل هذا البلد في حصون أمنه ورعايته وكفالته إلي يوم الدين. وأن يُولِّي رجالاً صالحين مصلحين يأخذون بهذا البلد إلي شاطئ الخير والأمان يا ربَّ العالمين.