ظهرت فاشية أو شائعة في عصرنا هذا يقول أهلها: ما لنا وللمذاهب، هم رجال ونحن رجال، فنرجع للقرآن والسُنَّة ونعمل بهما!!
وهذا شرود عن المنهج المستقيم، وتحول عن الحال السليم، لأن القرآن يحتاج إلى فهم، والسُنَّة تحتاج إلى دراية واسعة، فإذا سمع الإنسان آية من كتاب الله في موضع من مواضع شرع الله كيف يُفسرها؟! إما أن يكون قد درس مذاهب العلماء ويفسرها على هَدْى من العلم المستنير، وإما أن يفسرها على حسب هواه، وقد يكون مخطئاً في تفسيره هذا، لأنه خالف منهج السلف الصالح.
فإن أصحاب المذاهب رضي الله عنهم درسوا القرآن، وفقهوا معانيه بحسب لغة العرب الذين أُنزل عليهم القرآن – وهذا قد لا يتهيأ لكثير منا الآن – ودرسوا الأحاديث الشريفة، وهناك أحاديث قد يظهر لك للوهلة الأولى أن هناك تعارض بينها، كيف تخرج من هذا التعارض؟ درسوه وقاسوه وأصَّلوه على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل صحبه الكرام، حتى خرجوا لنا بالمذاهب الشرعية وفق أحسن تخريج يقول لنا فيه الله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾[122التوبة].
إذن فالله هو الذي أمرنا بذلك، أن يكون هناك طائفة تتفقه في الدِّين، وبعد التفقه ترجع لنا بالآراء التي رجحتها، والأمور التي استوضحتها، فنمشي على هداها، ونحن في هذا على صواب إن شاء الله.
فإذا اختلفنا ماذا نفعل يا رب؟! ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[83النساء].إذاً هناك أهل للاستنباط، وليس كل أهل الإسلام يستطيعون الاستنباط، أي استخراج الأحكام بعد وضوح الأدلة، وبعد استخراج الدلالات، هذا علم لابد منه لتوضيح التشريعات، والمشي على المنهاج الذي كان عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
وما نراه الآن في عصرنا من الفتاوى المنكرة، والأعمال الشنيعة المنسوبة للإسلام سببها الأول أن هؤلاء الذين قالوها أو عملوا بها أفتوا بحسب أهوائهم ولم يرجعوا إلى العلماء الأجلاء الذين أصَّلوا دين الله، وأحسنوا الاستنباط والاستخراج من كتاب الله، ومن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوقعوا المسلمين في هذا الزمان في حيرة شديدة، لأنهم أوهموا الناس أنهم علماء، بينما هم في مناهجهم ليسوا على هَدْى العلماء الأجلاء الذي وضعه الله في كتاب الله، والذي كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسوق في هذا البيان مثالاً:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع صحبه الكرام في وليمة دعاهم إليها أحد أصحابه على لحم جمل سمين، والجمل السمين كانوا يسمونه جزور – وكان من عادة حضرة النبي المباركة إذا دعاه قوم لطعام يؤنسهم فيُصلي فريضة من فرائض الله عندهم في مكانهم تكريماً لهم، سواء قبل أو بعد – فلو دعوه للغذاء إما أن يُصلي الظهر أو يُصلي العصر عندهم في بيوتهم تكريماً لهم، وخرج من أحد الجالسين ريح، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصيرته النورانية أن هذا الرجل عنده حياء، وسيستحي لأن يقوم فيتوضأ، وكان صلى الله عليه وسلم صاحب ذوق رفيع، فلا يُحرج أحداً قطّ، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أنه من أكل لحم جزور فليتوضأ، أي سيتوضأ الجميع.
العلماء الأجلاء راجعوا سيرة رسول الله فوجدوا أنه حضر لولائم كثيرة، ذُبح فيها جِمال، ولم يدعُ فيها إلى ما دعا إليه في هذا اليوم، بل قاموا فصلوا بغير وضوء، فعلموا أن هذا الحديث في هذا الموضع كان لحكمة لهذا السبب، وليس أمراً مستمراً، ومن هنا قالوا: لا ينبغي على المرء أن يتوضأ إذا أكل لحم الجِمال.
{وَأَمَّا خَبَرٌ: [مَنْ أَكَلَ لَحْمَ جَزُورٍ فَلْيَتَوَضَّأْ ] فَمَنْسُوخٌ بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ: [تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوُضُوءَ مِمَّا غَيَّرَتْهُ النَّارُ]. الشَّامِلُ لِلَّحْمِ الْجَزُورِ، حاشية البيجرمي على الخطيب}.
الجُهَّال الذين صنعوا من أنفسهم علماء رأوا هذا الحديث فأمسكوا به، وقالوا: من أكل لحم جمل لابد أن يتوضأ، وهذا حديث صحيح، لكنهم لم يعرفوا مناسبته، ولم يقارنوه بما سواه من المناسبات كما فعل السلف الصالح من العلماء الأجلاء الذين استخرجوا لنا واستخلصوا لنا قواعد شرع الله، من كتاب الله ومن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، ومن أعمال صحابته الكرام.
إذن الأمر يحتاج إلى هذا الاجتهاد الذي وصل إليه العلماء، لأنه توضيح لما ورد في كتاب الله، وتبيين لما حدث في سُنَّة رسول الله، وصلوا إليه بوَرَعِهم وتقواهم لربِّهم، وحرصهم على دين الله، وتوفيق الله عزَّ وجلَّ لهم.
فينبغي علينا أن نأخذ هذا التراث ونستمسك به، ونستزيد عليه بما نحن في حاجة إليه في عصرنا بواسطة أشباههم وأمثالهم، وهم العلماء الأجلاء الذين درسوا ومعهم الأدلة العلمية، ومعهم النبوغ الفقهي، ومعهم تقوى الله وعناية الله ورعاية الله جلَّ في علاه.
***********************
الحلقة الرابعة من برنامج أسئلة حائرة وإجابات شافية لفتاوى فورية :