الحمد لله الذي هدانا إلى خير دينٍ أنزله على خير خلق الله، وجعلنا من الأمة المجتباه التي منحها أعلى درجات القرب في كتاب الله، وقال مبيناً فضلها القديم الذي أخبر عنه في القرآن الكريم:
والصلاة والسلام على العبد الأكمل والرسول السيد السند الأعظم، الذي أكمل الله عز وجل به وعليه شعائر الدين، وجمله بمكارم الأخلاق التي يحبها رب العالمين، وجعله أُسوةً طيبةً للسابقين من النبيين والمرسلين واللاحقين من أهل أمته ونحن منهم إلى يوم الدين.
سيدنا محمد إمام النبيين وخير المرسلين من اقتدى به فقد فاز في دنياه وسعد في أُخراه.
نسأل الله أن نكون من أهل هذا المقام.
صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين وعلى صحابته المباركين وعلى كل من اهتدى بهديه وأعانه على تحقيق دعوته إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة الحضور بارك الله عز وجل فيكم أجمعين:
عنوان الندوة كما حددتموه:
“دور التصوف في الحياة العصرية”
بمعني هل للتصوف دورٌ يستطيع أن يقوم به لإصلاح الأفراد؟ وإسعاد المجتمعات وتحقيق الكمالات التي نرجوها جميعاً في حياتنا؟ مع أن المشككين يصفون الصوفية بأنهم يميلون إلى الإنعزالية وإلى السلبية في الحياة العملية، ولا يشاركون في الحياة الجماعية بأي مشاركة ذات قيمة، ونقول لهؤلاء:
من أراد أن يُقيِّم قوماً أو فئةً أو طائفة فعليه بالتقويم العلمي، لا يأخذ ثُلةً من هذه الطائفة ويحكم على جميع الطائفة بما رأى على هذه الثُلة، لكن يأخذ عيِّنات متطرقة من الطوائف التي تنتسب إلى هذا الإسم بالأسلوب العلمي العصري فيجد الإنسان بعد ذلك الجواب السديد الذي كان عليه أصحاب النبي الرشيد صلى الله عليه وسلَّم.
للصوفية في الحقيقة أدوارٌ لا تُعد ولا تُحد، ولا أستطيع حصرها ولا ذكرها الآن، لكن أُشير إلى بعضها:
الصوفية في الحقيقة هم الذين اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم في هديه وسيرته وسنته، ظاهراً وباطناً.
كان ظاهرهم كظاهر النبي في حركاته وسكناته وركوعه وسجوده وباطنهم يتأسَّى بحضرة النبي في الخشوع بين يدي الله، والحضور مع مولاه والصفاء والنقاء لجميع خلق الله، والشفقة والحنان والمودة والرحمة التي إمتلأ بها قلبه العظيم لجميع الإنس والجن بل لجميع الكائنات لأن الله عز وجل قال في شأنه:
وكلمة العالمين أي كل ما سوى الله عز وجل، كل ما سوى حضرة الله سبحانه وتعالى فهو من العالمين وله نصيبٌ في رحمة الله العُظمى التي جعلها مع سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
فالصوفية يتشبهون ظاهراً في عباداته وفي سلوكياته وفي أخلاقه وفي معاملاته، ويتشبهون به على قدرهم لا على قدره صلى الله عليه وسلَّم باطناً في زُهده وفي ورعه وفي حُبه لمولاه، وفي عِشقه لحضرة الله، وفي شفقته وحنانته لجميع خلق الله، وفي إخلاصه المعاملة مع مولاه، وفي صدق النية في أي عملٍ يتوجَّه به إلى الخلق، لأنه لا يريد في أي عملٍ إلا الله جل في عُلاه.
هذه باختصار أحوال السلف الصالح وهي أحوال الصحابة الكرام والتابعين وتابع التابعين والعلماء العاملين والأولياء والمرشدين، والسالكين الصادقين منذ عصر الرسالة إلى يوم الدين.
إذا كان هناك من انحرف عن هذه الجادَّة فهو مسئولٌ عن نفسه وليسوا مسئولون عنه، لأنهم وضَّحوا وبيَّنوا وليس هناك بيان أجلى مما ورد ورُوي عن النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه الحسان.
ونأخذ قبساً واحداً على قدر ما يسمح به الوقت مما أصَّله النبي صلى الله عليه وسلَّم وصحبه الكرام، وقام به الصوفية من بعدهم لإصلاح أحوال الأفراد وإسعاد المجتمعات.
الصوفية يقاومون التسوَّل والمرور على الناس ومد اليد لأخذ العطاء بدون تعبٍ ولا عملٍ ولا عناء.
الصوفية يقوِّمون من يترك العمل ويدَّعي أن الله عز وجل عز وجل سيتولَّى رزقه بدون عمل لأن هذا غير واردٍ عن الحبيب وعن أصحاب الحبيب رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
يدعون إلى العمل ويجعلون العمل عبادةٌ يُؤجر فيها المرء عند الله لا تشابهها ولا تضارعها عبادةٌ من العبادات النفلية، حتى قال صلى الله عليه وسلَّم في شأنها:
(من بات كالاًّ ـ أي مُتعباً من عمله ـ بات مغفوراً له).
وقال صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه موضحاً:
(دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أعتقت به رقبة، ودينارٌ تصدقت به على فقيرٍ أو مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، خيرهم وأعظمهم عند الله عز وجل الذي أنفقته على أهلك).
جعل النبي صلى الله عليه وسلَّم في توطيد العلاقات الزوجية أن يُطعم الرجل زوجته بيده، يأخذ الطعام بيده ويضعه في فمها لكي يُرضيها، وجعل هذا العمل صدقةً لا تعادلها صدقةٌ عند الله عز وجل:
(وإن الرجل ليرفع بيده باللقمة إلى فيِّ زوجته صدقةً عند الله عز وجل).
ولذلك كان صلى الله عليه وسلَّم سيفاً مصلطاً في زمانه على المتعطلين والمتبطلين والمتسكعين والتاركين للعمل بحجة العبادة لرب العالمين عز وجل.
رأى صلى الله عليه وسلَّم رجلاً شاباً ملازماً للمسجد، فسأله: ماذا تصنع؟ قال: أعبد الله عز وجل، قال: ومن الذي يُطعمك، قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك).
لأنه مشى على العبادة الحقَّة التي أصَّلها الله والتي قام داعياً إليها حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
وكان صلى الله عليه وسلَّم سائراً في إحدى الغزوات ومرُّوا على عين ماءٍ وبجوارها بعض الأشجار الظليلة وموضعٌ جميل، فاستأذن أحد أصحابه من حضرته أن يتركه يُقيم في هذا الموضع وزعم في نفسه أنه يتفرَّغ في هذا الموضع يشرب من الماء العذب ويأكل من ثمار الأشجار ويعبد الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(لا تفعل، لمـُقام أحدكم في سبيل الله عز وجل ساعة ـ والساعة يعني لحظة في خطاب حضرة النبي ـ لمـُقام أحدكم في سبيل الله ساعة خيرٌ من عمر الدنيا من أولها إلى آخرها سبعة آلاف عامٍ في طاعة الله عز وجل).
على هذا النهج مشى عليه الحبيب وما أكثر ما تعلمون وما سمعتم في هذا الباب مما ورد في تقويم الحبيب صلى الله عليه وسلَّم للأصحاب، وأصحابه مشوا على هذا الدرب وكانوا يقوِّمون إخوانهم تشبُّهاً بنبي الله صلى الله عليه وسلَّم.
فهذا سلمان الفارسي كان هناك مؤاخاةٌ في الله بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، وذهب سلمان في سفر وعاد، فوجد زوجة أخيه أم الدرداء مُبتذلة ـ يعني غير مهتمَّةٌ بنفسها بثيابها وبزينتها يعني مهملةٌ لشأنها ـ فسألها: ما بك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ذهب مع الزاهدين في الله عز وجل ـ الرجل ترك الدنيا وهاجر للآخرة.
وجاء أبو الدرداء فلقاه وباتا سويِّاً، وكلما أراد أبو الدرداء أن يقوم في الليل ليُصلي لله جذبه سلمان، وقال: انتظر، حتى قرُب ميعاد الفجر قال: قم الآن نتوضأ ونذهب لنُصلي الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وفي الصباح قدَّم طعام الفُطور، قال سلمان: كُل معي قال أبو الدرداء: أنا صائم، قال: والله لا أذوق الطعام حتى تأكل معي، فأكل معه، ولكنه وجد غُصَّةً في نفسه كانت تدعوه إلى الزهُد الزائد عن الحد والإسلام دين الوسطية:
لا إسراف ولا بُخل ولا تبذير ولا تدمير، وإنما وسطية كما قال رب العالمين في أمة البشير صلى الله عليه وسلَّم.
فلما رأى ما به قال له سلمان:
[إن لبدنك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقا وإن لربك عليك حقا، فأعطي كل ذي حقٍ حقَّه].
فذهب أبو الدرداء إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم شاكياً أخاه في الله سلمان، وظنَّ أن القاضي وهو حضرة المصطفى سيقضي لصالحه، لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال له:
(صدق سلمان: إن لربك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا فأعطي كل ذي حقٍ حقه).
فالنبي كان يُقوِّم هؤلاء الذين زادوا عن الحد وتجاوزا الوسطية وكذلك صحبه الكرام، إن كان في زمانه أو بعد عصره وأوانه.
دخل عمر رضي الله عنه مسجد النبي فوجد شباباً صغار السن جالسين في المسجد، فسألهم:
ماذا تصنعون؟ قالوا: نعبد الله عز وجل، قال: ومن أين تأكلون، قالوا: يرزقنا الله سبحانه وتعالى، فنزل عليهم ضرباً بدُّرته وقال: قوموا لقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
إذا كان الإنسان يريد أن يكون سالكاً على الطريق القويم والدين المستقيم له أُسوة في رسول الله وصحبه البررة الكرام الذين كانوا يقولون:
[أحكم لقمتك ثم اعبد ربك عز وجل].
أُحكم لقمتك من الحلال ومن العمل الذي أباحه لك ذو الجلال والإكرام، ثم بعد ذلك عليك بعبادة الله سبحانه وتعالى والعمل في ذاته عبادةٌ لا يضارعها نافلةً من النوافل في الثواب العظيم والأجر من حضرة الكريم عز وجل.
على هذا النهج كان الصوفية ولذلك نجد كثيراً منهم عندما ننظر إلى أسمائهم التي اشتهروا بها، نجدهم قد اشتهروا باسم الصنعة التي كانوا يزاولونها، لا ينتظرون تعييناً من الحكومة أو الشركات أو غيرها، وإنما كانوا يعزمون بصدق النية ويدعون بتوجِّهٍ صادقٍ لرب البرية فيُلهمهم الله عز وجل بصنعةٍ تكفيهم سؤال الناس، وتكون عبادةً لرب الناس عز وجل.
تشبهاً بأبي الأنبياء داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، شبابنا الذي انشغل الآن بالمشي خلف السحرة والدجالين والحفر في الأنفاق والبيوت للحصول على الكنوز والآثار، لأنهم يريدون الغنى الواسع بدون كدٍّ ولا عملٍ، فهل هذا نهج النبي وأصحاب النبي؟ لا والله، قال صلى الله عليه وسلَّم:
( ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده).
يعني حتى ولو كان عنده وسعةٌ واسعةٌ في المال ورثه من الآباء أو الجدود، إلا أن خير لقمة يُدخلها في فيه هي التي يجنيها من عمل يده كما قال النبي.
(ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).
ولماذا داود؟ لأن داود اشتهر بين النبيين لشدة عبادته لله، كان يعبد الله عز وجل وينفعل في العبادة حتى أنه إذا كان يناجي مولاه ويترنَّم بمزاميره، كانت الجبال والحيوانات كلها تُردد معه ذكر مولاه عز وجل:
الجبال والطيور والوحوش كانوا الفرقة لتي تردد لحن الخلود وراء سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة واتم السلام.
جعل يوماً لطاعة الله كان يتفرَّغ فيه للطاعة، ويوماً لقضاء حوائج أهله، ويوماً للحُكم بين الرعيِّة، وكان ملكاً، وفي اليوم الذي كان يتعبد فيه لله وقد جلس في خلوته وغلَّق الأبواب إذا به يرى ملكان يدخلان عليه بغير أسباب، لا فُتح لهم باباً ولا نافذة، فتعرَّف عليهما وصار بينه وبينهما مودَّة وينزلان عليه لزيارته على الدوام، وهؤلاء يقول فيهم الله فيمن مشى في هذا المسلك من أمة الحبيب:
قد يظن البعض أن هؤلاء الملائكة لا ينزلون إلا على من هو ساكنٌس في قُلل الجبال، أو جالسٌ في غرفة ومغلقٌ على نفسه، ولا يعلمون أن الرجال ومنهم أصحاب حضرة النبي والذين مشوا على هذا الطريق السوي يرون تنزل هؤلاء الملائكة ويحدثونهم، وهم في أسواقهم وهم في بيعهم وهم في شرائهم وهم في جلسوهم يرونهم ولا نراهم، لأن الله عز وجل فتح عيون قلوبهم، وهيَّم أرواحهم فجعل هناك مجالسةٌ ومؤانسةٌ بينهم وبين هؤلاء من سكان العالم العُلوي.
وبعد أن أنس بهم طلب منهم ـ ليعلمنا أن الأخ إذا صدقت مودَّته لأخيه يطلب منه النصيحة، ويطلب منه أن يبين له عيوبه ليُصحهها حتى يجتبيه مولاه عز وجل، فقال لهم: هل فيَّ عيبٌ؟ قالوا: ليس فيك إلا عيبٌ واحدٌ وهو أنك تأكل من بيت مال المسلمين ـ مع أنه ملك وعمله كله إما لله وإما لنفع أمته من المسلمين.
فآلى على نفسه من هذا الوقت أن يكون له عملٌ بيده يكسب منه طُعمته هو وأهله حتى يكمل في مقام اليقين، وعلمنا الله عز وجل كما علَّم داود أن الإنسان إذا صدق مع مولاه فإنه يتولاه، وهو يتولَّى الصالحين.
عزم عزماً أكيداً فألهمه الله صنعة لم تكن موجودة في زمانه ولا قبل عصره وأوانه، ألهمه الله بصناعة الدروع وهي السُترة الواقية التي تقي من الرصاص الآن كانت تُصنع بسبيكة من الحديد تقي من الرماح ومن السيوف.
وحتى يعلم قدره عند مولاه عندما عزم عزماً أكيداً ليَّن الله عز وجل في يده الحديد بدون نارٍ أو تسخين أو فُرنٍ حراري:
“وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” (10سبأ).
فكذلك أي شابٍ من شباب المؤمنين عندما يُقبل بصدقٍ على مولاه، ويعزم عزماً أكيداً على أن يعمل عملاً شريفاً ينتفع به وأهله في دنياه، فإن الله عز وجل يقول في كتاب الله:
“وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ” (3الطلاق).
وحسبه أي كافيه يكفيه كل المهمات والملمات ويُوفر له كل ما يحتاجه ليعيش في الدنيا عزيزاً لأن الله عز وجل واسمه العزيز ارتضى لهذه الأمة أن لا تعيش إلا في عِزَّة وقال في شأنها:
فكان السادة الصالحون السابقون واللاحقون يبحث الرجل منهم عن عملٍ نافعٌ لنفسه، فمنهم من كان يعمل بصناعة الحُصر ويُسمَّى الحُصري، ومنهم من كان يعمل في تجارة الخزِّ وهو نوعٌ من الحرير ويُسمَّى الخزاز، ومنهم من كان يشتغل في الخرز ويُسمَّى الخراز، ومنهم من كان يشتغل بالجزارة ويُسمَّى القصاب ـ والقصاب في اللغة العربية يعني الجزار ـ ومنهم من كان يشتغل بصناعة الزجاج، والزجاج يعني القوارير، ويُسمَّى الجنيد القواريري.
كان كل واحدٍ منهم يُنطق اسمه بصنعته ومهنته التي يكسب منها قوته، ولذلك ورد أن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وكان من أولاد الملوك، ولكنه عندما سلك طريق القوم أبى أن يأكل إلا من عمل يده، قابل شقيق البلخي، فسأله: كيف سلكت الطريق إلى الله عز وجل؟
قال: رأيت طائراً أعمى في عُشٍّ في أعلى شجرة ويأتي نسرٌ ويُلقمه الطعام في فمه، فإذا انتهى من الطعام ذهب النسر وملأ فمه بالماء ثم أتى إليه ووضع منقاره على فمه ليشرب الماء، فقلتُ هل أنا عند الله عز وجل لا أساوي مثل هذا الطائر؟ فسلكتُ طريق القوم على التوكُّل على الله عز وجل.
أنظر معي وتأمل في ردِّ إبراهيم بن أدهم سليل الملوك رضي الله عنه قال:
ولم رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى، ولم تختر لنفسك أن تكون أنت النسر، لقد سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(اليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى).
هكذا كان شأن القوم، لابد لكل إنسانٍ من عمل، وكان السادة الصالحين السابقين أجمعين، أول ما يؤكد عليه على أي مريدٍ جديد أن يكون له بابٌ يأكل منه من حلال، ثم بعد ذلك يتعبَّد لله عز وجل.
ليس فيهم بطَّالين ولا عاطلين، ولا متسولين ولا متسكعين فكل من نراهم على هذه الهيئة فهم مُندثين في الصوفية لا يمتون إلى الصالحين بصلة لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانت ألسنتهم تتغنَّى بذكر الصالحين ويضحكون على الناس ليأخذوا أموالهم بذكر الصالحين، إلا أنها كلها حيلٌ لاكتساب الأرزاق من طريق لا يقره السادة الصالحين أجمعين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فهذا الجنيد رضي الله عنه يقول لتلاميذه:
[عليك بطريق الأبطال إكتساب الرزق من الحلال].
فهذه البداية أولاً، وشيخه كان اسمه السري السقطي رضي الله عنه، ورث من أبيه ثمانين ألف دينار، ولكن أبيه كان يقول قولاً يخالف ما اتفق عليه جماعة المسلمين في القضاء والقدر، فكان العمل يدعوهم إلى الورع فرفض بالكلية أن يأخذ نصيبه من الميراث، لأنه رأى فيه أنه غير خالصٍ لله عز وجل وقال لهم: قال صلى الله عليه وسلَّم:
(لا توارث بين أهل ملَّتين).
ولذلك أكسبه الله عز وجل حُلةً نورانية كان إذا مدَّ يده إلى طعامٍ فيه شُبهة يضرب عرقٌ في يده فيعلم أن هذا الطعام غير حلال فلا يأكل منه.
الورع ـ ما أحوج المجتمع كله الآن إلى ورع الصالحين، وورع السادة الصوفية الذين لا يأخذون إلا ما أحله الله عز وجل لهم، ويتركون كل شيئٍ لا يُقرُّه الشرع الشريف لهم لأنهم حريصون على القبول والله عز وجل يقول:
“إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ” (27المائدة).
وها هو سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه كان يقول لتلاميذه ـ كان يقول للزارع:
[ليكن ذكرك لله عز وجل في حرثك].
ويقول للنجار:
[ليكن ذكرك لله عز وجل في إمساك منشارك].
يطلب من كل واحدٍ منهم أن يكون له عمله الذي يأتي بالأرزاق الحلال حتى يكون عبداً مُحقق الرجاء ومُستجاب الدعاء، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم لخاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما قال له: يا رسول الله ادعُ الله الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال له النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة).
وهذه الفئة نرى فيهم إجابة الدعاء وتحقيق الرجاء والقبول من السماء لأنهم كانوا ورعين، وكانوا يراقبون الله عز وجل في أقواتهم وأرزاقهم حتى يكونوا من المقلبولين عند الله عز وجل.
فالصوفية هي الوحيدة التي تستطيع في حياتنا الدنيوية القضاء على مشاكل المجتمع لأنها تدعو الأفراد إلى استلهام الحقيقة من المنعم الجواد عز وجل.
لا نعتمد على أنفسنا فقط وإنما نستمد العون من الله، ونطلب التوفيق من الله مع صدق العزم وقوة الشكيمة فإن الله عز وجل يُحقق للعبد مناه، ويحوِّل له كل هذه الأشياء التي نراها يُسخِّرها له، ليجري له الخير بأمر الله لأن الله يقول:
ناهيك عن أن الصوفية هي وحدها التي تُكسب المجتمع مناعة من الأمراض الجسمانية والنفسانية، فإن المناعة ضد الأمراض النفسية والعصبية والجسمانية لا تأتي إلا من المداومة على ذكر الله:
وقد أثبت العلم الحديث ذلك وأثبت أهل الغرب في تجاربهم ومعاملهم ذلك، فأثبتوا أن الإنسان الذاكر تقوى عنده المناعة اجسمانية بعد قوة المناعة الإيمانية فيُحييه الله عز وجل حياةً طيبة نورانية لأنه اكتسب المناعة من ذكر الله والإقبال على طاعة الله عز وجل على الدوام.
ناهيك عن أن الصوفية وإلى عصرٍ قريب عندما كان مشايخ الصوفية والصالحون يتجولون في البلاد، لم يكن هناك مشاكل إلا القليل، كانوا يُنشرون المحبة وينشرون المودة وينشرون وينشرون الأُلفة ويحتوون الخلافات، ويُحاولون بأقصى سرعة أن يُؤلفون بين المختلفين في كل الجهات، فكانت البلاد تعيش في أمنٍ وأمانٍ واطمئنان.
فلما قلَّ ذهاب الصالحين إنتشرت الأحقاد وزادت الأحساد وأصبح الكُره سمةٌ أساسية في عموم القُرى والبلاد حتى من يريد أن يُصلح يجد بأساً شديداً وأمراً لا طاقة له به لأن هذا لا يلين وهذا لا يستكين وهذا لا يخضع وهذا له شروط وهذا كذا، فيعجز عن الصُلح بعد لأْيٍ وحين.
لكنهم عندما كان الصالحون يتجولون كانت كلمة واحدةٍ من رجلٍ صالحٍ تحُلٌّ المشكلة، فإذا قال: يا فلان تنازل، يقول: سمعنا وأطعنا، وتنتهي المشكلة.
ولا يكون هناك معضلة فكانوا يُحلُّون مشاكل الناس غير قيامهمبيواجب الفقراء والمساكين، قبل وزارة الشئون الإجتماعية من الذي كان يتولى أمر المساكين؟ والمرضى والزنَّ ومن لا أنيس لهم من المسلمين في كل زمان ومكان؟
من الذي يتولى أمرهم وينافس في رعاية شئونهم؟ الصوفية رغبةً فيما عند الله لا طلباً للذكر وللشًهرة ولا للسُمعة ولا للصيت ولا لترشُّحٍ في انتخابات، وإنما رغبةً فيما عند الله وطلباً لرضاه جل في عُلاه.
أمورٌ كثيرة يعجز الوقت عن سردها المجتمع كله الآن في حاجة إلى الصوفية لأنهم وحدهم القادرون على بسط العناية الإلهية على هذا المجتمع.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ما يُحبه ويرضاه، وأن يسلك بنا الطريق الصواب ويحفظنا من المعاصي والفتن والمخالفات.
وأكتفي بهذا القدر وسامحوني على الإطالة بارك الله فيكم.