الحمد لله ربِّ العالمين، واسع الفضل والجود، كريم العطاء والخير والبرّ فعطاؤه للمسلمين بغير حدود.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يسحُّ الخير لعباده المؤمنين سحًّا، فيغمرهم به ظاهرا وباطناً، دُنْيَا وآخرة، ويجعل المسلم الفقير يوم القيامة عند الله عزَّ وجلَّ غنيًّا وله ثروةٌ لا تعدُّ ولا تحدُّ من الحسنات والخيرات المباركات.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، البحر الأعظم لجميع الخيرات، والمحيط الشافع للأنوار والجود والعطاءات والهبات. اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على من كان قوله هداية، ونظره إلى المؤمنين عناية، ومَسُّ يَدِهِ للمرضى رحمةً وشفاء، وحركاته كلها وسكناته كلُّها هينئاً لمن اتبعها فهي تُرضي إله السماء، سيدنا محمد إمام الرسل والأنبياء، وباب السعادة والسَّدُّ في طريق الشقاء. صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكلِّ مَنْ اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني وأحبابي:
تعلن الحضرة الإلهية عن أوكازيونٍ ربانيّ لأهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، مدته ثلاثين يوماً وليلة، فيه من العطاءات، والمنح والهبات، والحسنات المضاعفات، والباقيات الصالحات، ما لا تستطيع جميع الفضائيات والإذاعات أنْ تَصِفُه، ولا تستطيع جميع الأقلام للصحفيين وغيرهم أنْ تكتبه؛ لأنه مِنْ بحر الجود والكرم، الله ربِّ العالمين أرحم الراحمين.
تعالوا بنا نتصفح بعض الهبات التي جهَّزها الله عزَّ وجلَّ في هذا الأوكازيون الربَّاني. يعطي الله عزَّ وجلَّ في كل ليلة سبعين ألف وسام!! من أخذ واحداً منهم أعتق الله رقبته من النار!! يقول فيهم صلى الله عليه وسلم: {إن لله في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار، فإذا كانت ليلة الجمعة أعتق الله فيها مثلما أعتق في سائر الأسبوع، فإذا كانت أخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله فيها مثلما أعتق في سائر الشهر}[1]. فهنيئاً لمن يحصل على هذا الوسام الذي مكتوب عليه بكلام الملك العلام: ﴿أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [82الأنعام].
هناك في هذا الشهر الكريم منحة إلهية لجميع الصائمين؛ الذين يصومون ابتغاء وجه الله، ويرجون من عملهم رضاه جلَّ في علاه. كلُّ رجل من الصائمين، وكلُّ امرأة من الصائمات، يُمنح في آخر الشهر وسام المغفرة الإلهية؛ لأن الله عزَّ وجلَّ غفر له ما تقدم من ذنبه. ويجعل الله عزَّ وجلَّ توزيع هذه الأوسمة في حفلٍ عام يدعو له جميع المؤمنين في الدنيا، وجميع عمار الملكوت من الملائكة، ويأمرهم أن يهبطوا إلى الأرض، ويقفوا على أفواه السكك، ويبشرون المؤمنين فيقولون: (يا أمة محمد، اخرجوا إلى ربٍّ كريم، يعطي الجزيل، ويغفر الذنب العظيم) ، ويقفون على القصور الإلهية – وهي المساجد التي خصصت لعبادة ربِّ البرية، أو الساحات التي جهزت لحفل العيد – يسجلون الأسماء.
فإذا صلَّى المؤمنون صلاة العيد شكرًا لله عزَّ وجلَّ على هذه المنح والعطاءات؛ خطب ربُّ العزَّة، وكلامه مُنَزَّهٌ عن الصوت والحركات – وقال كما أنبأ عنه سيِّدُ السادات: (يا عبادي وعزتي وجلالي لا تسألوني في هذا اليوم شيئا لأخراكم إلا أعطيتكم ولا تسألوني في هذا اليوم شيئا لدنياكم إلا نظرت إليكم، انصرفوا مغفورا لكم لقد أرضيتموني فرضيت عنكم)[2]. فينصرفون بوسام المغفرة، وكل واحد يذهب وقد غفر الله عزَّ وجلَّ له ما تقدم من ذنبه ما دام صام لله، وحافظ على آداب الصيام وأحكامه التي جاء بها رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه}[3]. وهناك منحة أخرى لجميع الصائمين تسلَّم لهم في الموقف العظيم!! كل صائم يأخذ تذكرة بدخول الجنة من باب الريان.
فإذا كان الموقف العظيم وجمعت الإنس والجن والملائكة، وكان الكرب شديد الهول والوعد عتيد، فتح الله عزَّ وجلَّ باب الريان وقال له يا محمد: أَدْخِلْ أُمَّتَكَ من باب الريان، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل أحد غيرهم[4].
جعل الله عزَّ وجلَّ في هذا الشهر من المنح الإلهية والعطاءات الربانية، ما جعل رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا متصافيين ومتصادقين، يمشيان معاً، ويتعبدان لله عزَّ وجلَّ معاً، ويعين أحدهما أخاه على البرِّ والتقوى. مات أحدهما شهيدًا في سبيل الله، ومات الثاني بعده بعام موتة طبيعية، فرآهما معاً طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، رآهما معاً في الجنة، ورأى الرجل الذي مات موتة طبيعية أعلى منزلة في الجنة من الذي مات شهيداً فتعجب!! ولما أصبح الصباح ذهب إلى مسجد حضرة النبي ليصلِّي مع حضرته صلاة الصبح – وكان من دأب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقد علم بنورانيته الربانية أن أصحابه يبيتون على الفراش بأجسادهم، ويصعدون إلى الملكوت الأعلى بأروحهم، يشاهدون من فضل الله ما جهَّزه الله لهم – فيقول لهم عقب الصلاة: مَنْ منكم رأى الليلة رؤيا؟ فيقص عليه طلحة بن عبيد الله رؤياه، وهو متعجب مما رآه!! فقال له صلى الله عليه وسلم: مما تعجب؟!! قال: رأيت الرجل الذي مات موتة طبيعية أعلى من الذي مات شهيداً في ميدان القتال، فقال صلى الله عليه وسلم: ألم يصم بعده شهر رمضان. قال: بلى قال: فبذاك[5].
فإن أجر المؤمن، وأعمال المؤمن، وعطاءات الله عزَّ وجلَّ للمؤمن في شهر رمضان، شيءٌ يجعل ملائكة الرحمن تعجز عن كتابته وتسجيله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله في حديثة القدسي: (كلُّ عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يترك شهوته وطعامه من أجلي)[6]. فالله عزَّ وجلَّ يتولى بذاته القدسية تقدير أجر الصائمين، وإفضال المنح الإلهية والعطايا الربانية للصائمين أجمعين.
أما أهل الخصوصية الذين يهتمون بهذا الشهر الكريم، ويقبلون فيه بالكلية على الله، فإن الله عزَّ وجلَّ يقيم لهم حفلةً خاصةً قبل الحفلة العامة حفلة العيد، في العشر الأواخر من شهر رمضان يربط فيه الملكوت الأعلى بالأرض، ويأذن لملائكة السماء أجمعين أن ينزلوا إلى الأرض، ويبشروا عباده الخواص بفضل من الله خاصٍ واختصاص، منهم من يحضِّر الله عزَّ وجلَّ له سلاماً من حضرته، يأمر الملائكة أن تذهب إليه وتبلغه بهذا السلام، ومنهم من يأمر الله أمين الوحي جبريل بذاته أن يذهب إليه ويبلغه السلام من السلام، ومنهم من يكشف الله عزَّ وجلَّ الحجب، ويريه بديع وجه الحبيب الشفيع ويهيئه ويجهزه ليستمع منه السلام، يبلغه عن حضرة السلام عزَّ وجلَّ: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [44الأحزاب].
أما عوام أهل الاختصاص فإن الله عزَّ وجلَّ يجعل لكل واحد منهم من الأجر إذا حافظ في العشر الأواخر على العشاء في جماعة والصبح في جماعة يجعل له أجر عبادة ألف شهر أجر عبادة ثلاثة وثمانين عامًا، ليلها قيام ونهارها صيام، عبادة مقبولة كلها إخلاص للملك العلام عزَّ وجلَّ.
منح إلهية أشار إلى بعضها في خطبته الجامعة خير البرية، عندما فرض الصيام على المسلمين في العام الثاني من الهجرة في شهر شعبان، جمع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان وذكر لهم بعض هذه المنح فقال: {أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وجعلت قيامه تطوعًا. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزاد فيه في رزق المؤمن. وهو شهر أوله رحمه، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
من فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق لرقبته من النار، وكان له مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شئ. قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على تمرة، أو على شربة ماء، أو على مذقة لبن. ومن أشبع فيه صائماً سقاه الله تعالى من حوضي يوم القيامة شربةً لا يظمأ بعدها أبدا، ومن خفَّف عن مملوكه فيه اعتق الله رقبته من النار.
فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى لكم عنهما، أما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما فتسألون الله تعالى الجنة وتتعوذون به من النار}[7]. أو كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي أكرمنا بهداه، ووفقنا بتوفيقه للعمل بما يحبه ويرضاه، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يزيدنا تقى وهدى ويوفقنا دائمًا لمتابعة حبيبه ومصطفاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، ولم يأمرنا بالصيام لنجد مسَّ الجوع وألم الظمأ والمعاناة في هذا الجو الحار، إلا لأنه يريد أن يرفع شأننا ويزيد قدرنا، ويجعلنا في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قال صلى الله عليه وسلم: {من صام يومًا شديدًا حره باعد الله بينه وبين النار سبعين خندقًا}[8].
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله؛ إمام الهدى ومصباح الدجى وكاشف الردى. اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وارزقنا في الدنيا متابعة حضرته، وارزقنا في الآخرة جميعًا شفاعته واجعلنا جميعا في الجنة من أهل جواره في دار النعيم.
إخواني وأحبابي:
إن فرصتنا في هذه الحقائق الإلهية وهذه العطايا الربانية هي نفسها إكرام من الله عزَّ وجلَّ لنا، وكان سلفنا الصالح إذا جاء شهر رمضان يقولون في أنفسهم نجتهد في هذا العام لعلنا لا يأتي علينا رمضان بعده، فنكون قد أخذنا الأجر الموفور، والعطاء الإلهي المنشور، ونفوز من الله عزَّ وجلَّ بهذا النور، قبل أن تفتننا الدنيا وهي دار الغرور.
من منا يدري أن سيعيش إلى العام القادم، فيسوف العمل، ويؤخر الصالحات، ما دمنا لا نعلم يقينا متى لقاء الله، والله عزَّ وجلَّ أخفى عنا هذا الأمر، فعلينا جميعًا أن نعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبه الكرام: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح واعدد نفسك في الموتى}[9].
إياك أن تفوتك فضيلة من رمضان، حافظ على صلاة القيام ولو بما تيسر من الركعات، فليس لها حدود في البدء ولا في الختام، فقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنها:{إن لله موضعًا يسمى حظيرة القدس وهو من النور، فيه ملائكة يعبدون الله تعالى عبادة لا يفترون ساعة، فإذا كان شهر رمضان استأذنوا ربَّهم أن يهبطوا إلى الأرض، فيصلون معكم صلاة القيام، فمن مسَّهم أو مسُّوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا}[10].
واعلم يا أخي عِلْمَ اليقين أن المؤمن إذا كان قائماً لله بما ينبغي في رمضان، وتوفاه مولاه، فإن الله يجرى له الخير الذي كان يعمله في رمضان في كلِّ عام إلى يوم الدين، لأن الذي منعه هو الموت، ولو عاش كان سيصنع ذلك، فيقول الله تعالى كما قال الحبيب: {إذا مرض العبد يقول الله تعالى: يا ملائكتي، أجروا له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح}[11]، وكذلك إذا مات العبد، أمر الله الملائكة أن تجري له العمل الذي يديم عليه، ويحافظ عليه، إلى يوم الدِّين، فضلاً من الله، وإكراماً من الله، ومِنَّة من الله.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل هذا الشهر الكريم شهر خير وبركة علينا وعلى المسلمين أجمعين، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وعلى تلاوة القرآن، وعلى عمل الخيرات واستباق الصالحات، وأن يحفظنا فيه بحفظه من المعاصي والمخالفات والغفلات والهفوات، وأن يفطم نفوسنا فيه عن الفضائيات والمسلسلات، وأن يجعلنا نشغله في طاعة الله، وفي عمل البرِّ لخلق الله، وفي صلة الأرحام، وفي مواصلة الأيتام، وفي إطعام الفقراء والمساكين، وفي الصلح بين المتخاصمين من المؤمنين، وفي عمل الخير والبرِّ لله، في كل وقت وحين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربِّ العالمين.
اللهم ولي أمورنا خيارنا، ولا تولي أمورنا شرارنا، وأصلح ولاة أمورنا وأئمتنا وحكامنا، واجعلهم بشرعك عاملين، وبسُنة حبيبك آخذين، ولوحدة الوطن والبلاد عاملين، وللفرقة والتشرذم مطفئين.
اللهم أهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين.
[4] روى البخاري عن سهل رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد).
[5]رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.