• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

5 أبريل 2012م

التربية الصوفية وأثرها في أمة الإسلام

فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد

شارك الموضوع لمن تحب

       التربية الصوفية وأثرها في أمة الإسلام

——————————————–

   الحمد لله الذي أكرمنا وأكرم الأمة كلها بحبيبه ومصطفاه، والصلاة والسلام على الحبيب المختار، كنز الهدى ومنبع الأسرار، سيدنا محمد وآله الأطهار، وصحابته الأبرار، وكل من تمسك بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

          إخواني وأحبابي: بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين

من ينظر في أحوال المسلمين الآن – على اختلاف دولهم وتنوِّع شعوبهم – يجد غُمّة شديدة تُحيط بهم، احتار المحللون في توصيفها، وذهب المفكرون كل مذهب في تفسير أسبابها، وأخذ الحكماء يتلمسون السُبل للخروج منها، واستعادة الأمة الإسلامية لمكانتها التي تليق بِها، والتي وضعها فيها ربُّ البرية عزَّ وجلَّ.

ويزيد العجب إذا نظرنا إلى أحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حوله، وكيف حوَّلهم صلى الله عليه وسلم من الأحوال الجاهلية إلى أحوال تجملوا بها مازالت موضع عجبٍ من كل البرية إلى يوم الدين، وأيضاً نجد الأمة كلما حاقت بها شديد الظلمات نجد لها وقفة تهب فيها من سُباتها، وتنفض غبار الكسل واللامبالاة من شبابها، وتـهُب فتستعيد أمجادها، حدث ذلك كثيراً، وأنتم تعلمون ذلك بمطالعة تاريخنا العظيم.

سرُّ نهوض الأمة

ما سرّ نهوض الأمة في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار؟ وما سرّ نهوض الأمة من كبوتها تارة في مواجهة المغول، ومرَّة في مواجهة الصليبيين، ومرَّة في ظهور الدولة العثمانية التي اجتاحت أوروبا كلَّها ناشرة لدين الله وهو الإسلام، وغيرها من المرات التي ظهرت فيها قوة الإرادة؟

نظرتُ بفكرٍ ويقين في هذا الأمر، فاستجليت صورة سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، فوجدت الأمر الجامع لشتات الأمة، وبزوغ أنوارها، وإظهار فتوة وبطولة شبابها، وانتصارها على أعدائها، وتحطيمها لكل من يريد كيدها، لا يحدث إلا على أيدي رجال تربَّوا على منهج الحبيب صلى الله عليه وسلم.

فالأمر الفصل هو في التربية اليقينيَّة التي رسَّخ بذورها، ووضع أحكامها ومبادئها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومَنْ بعده ساروا على هديه في ذلك. هذه التربية التي بدأها صلى الله عليه وسلم مع صحبه الأجلة وتدور أولاً على القيم، القيم الإيمانية والمكارم الأخلاقية التي أثنى عليها الله، والتي امتدحها في كتابه عزَّ وجلَّ، والتي كان عليها في سلوكه وفعاله وكل أحواله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا تعتمد على المال، ولا تعتمد على قوة التكنولوجيا، ولا تعتمد على خيرات الأرض، ولا تعتمد على قوة العدد، ولا تعتمد على صلابة الأجسام، ولا تعتمد على قوة الأعداد، ولكن تعتمد على صلابة النفس في التخلق بأخلاق الله، والتمسك بالقيم التي جاءت في كتاب الله، والتشبه في كل الأحوال بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقِهِ وقِيَمِهِ.

وأهمها وأبرزها: الوصول إلى درجة اليقين الذي يصحبه الزهد في الدنيا، والعمل لإرضاء ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، فإن المسلمين ما أُخذوا ولا غُلبوا في أي زمان من الأزمنة إلا بالتنافس في الدنيا، والتحلل والتفسخ من الأخلاق الكريمة التي جاء بِها الله، والقيم التي نادى بِها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان القائد يُرسل لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في ميدان القتال طالبا المدد، فعلى سبيل المثال أرسل له سيدنا سعد بن أبي وقاصٍ في موقعة القادسية في بلاد العراق يطلب المدد، فأرسل إليه رجلٌ واحد وقال له في رسالة مرفقة: (أرسلت إليك المقداد بن عمرو ولن يُغلب جيشٌ فيه المقداد بن عمرو).

وصدقت فراسته، فإن العدو تناوش الجيش وهمَّ بعض أفراد الجيش بالتخاذل والرجوع للخلف، فصاح المقداد وهجم بمفرده على الجيش المتقدم من الفرس وتحمَّس لخروجه نفرٌ من المسلمين وكان ذاك سبب النصر، يقول في ذلك الإمام محي الدين بن عربي رضي الله عنه: (لو ظهرتْ رُوحُ أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، لهَزَمَتْ جيشاً بأكمله).

ليست العبرة بالجسم وقوة الجسم ولكن العبرة في الروح التي تسكن هذا الجسم، يقول في ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه:

علىّ ثيابٌ لو يُباع جَمِيعُهَا بِفِلْـسٍٍ      كان الفلـس منهــن أكثـرا

وبينهما نفـسٌ لو يُقاس ببعضـها  نفوس الورى كانت أعزّ وأكبرا

وما ضرَّ نصلَ السيف إخلاقُ غمده     إذا كان عضباً حيث وجهته فرى

ليس المهم الزّى، ولا المهم في المظهر!! ولكن المهم من يسكن في هذا المظهر الذي فيه اليقين، وفيه التمكين، وفيه صدق الإيمان، وفيه صلابة العقيدة التي تلقاها من حضرة النبي، أو من ينوب عنه صلوات الله وتسليماته عليه.

وحاصر عمرو بن العاص حصن بابليون في مصر، وطال الحصار، وعلم أن الروم جاءهم مدد وبلغ عددهم مائة وعشرين ألف مقاتل، وكان جملة ما معه من جنود المسلمين أربعة آلاف، فأرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب المدد، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه أربعة آلاف جندي، ومعهم أربعة رجال، وأرسل مع الجيش رسالة قال فيها: (أرسلت إليك أربعة آلاف جندي، وأربعة رجال هم: الزبير بن العوام و مسلمة بن مخلد و عبادة بن الصامت و المقداد بن الأسود، وكل رجل منهم بألف فيكون جيشك اثني عشر ألفا، ولا يُهزم جيش من اثني عشر ألف مقاتل) (أخرجه أحمد عن ابن عباس).

فالرجل بألف، هذا المعنى مُقتبسٌ من قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [120النحل]. رجلٌ واحد ولكن يساوى أمة، ليس في مظهره ولا قوته البدنية، ولكن في جوهره وخبره وقوته الروحانية وصلابته القلبية، ونفسه القدسية التي غُذِّيت بما عند الله عزَّ وجلَّ من اليقين.

ربَّىَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الأجلاء على هذا، ففجَّر فيهم هذه الطاقات الربانية التي استودعها فيهم رب البرية، وكل إنسان فيه طاقات لا يعلمها إلا الكريم الخلاق، لكن أغلب الخلق يتكاسل ويتخاذل ويظل حتى يأتيه الموت ولم يستغل عُشر معشار ما فيه من طاقات أودعها فيه الخلاق عزَّ وجلَّ، وهى موجودة فيه ويسلمها كما هي لله عزَّ وجلَّ.

تفجير الطاقات البشرية

فالداعي صاحب البصيرة هو الذي يُفجر هذه الطاقات حتى صار الرجل العادي من أصحابه بعشر: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [65الأنفال]. وهذا كان حال جند المسلمين الذين رباهم سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما تنظر في معاركهم تجد محققاً فيهم قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [249البقرة].

في كل المعارك بهذه الشاكلة، وعندك التاريخ ابحث فيه واسترشد، لم يقاتلوا لمغنم، ولم يجاهدوا لدنيا، ولم يطلبوا بجهادهم مصالح عاجلة أو شهوات فانية، ولم يجاهدوا طلباً للزعامة، ولا منافسة في الرياسة، ولا نظراً للفخر والمباهاة والرياء، وإنما أدَّبهم على الإخلاص في قصدهم في كل أحوالهم وفى جهادهم، وهذا ما نفتقر إليه الآن جماعة المسلمين في كل مكان.

الكل ينافس لمنصب، أو لمصلحة، أو لمنفعة، أو للفخر، أو للرياء والسمعة والشهرة، لكن لو كان الكل يتنافس لله، هل سيحدث اختلاف بين الفرقاء؟! إذن لماذا الاختلاف؟ لتنوع المقاصد ولاختلاف المآرب، لكن لو كان مقصد الكل ربَّ الكل عزَّ وجلَّ، لماذا نختلف؟!

ما اختلاف النفوس والقصد واحد       والصراط السوي للمتواجد

ولذا كنت ترى خليفة الأمة يرى أن القائد العام يترك منصبه ويتحوَّل إلى جنديّ، ولا يتأثر القائد!! ولا يتغيَّر ولا يفتر!! ولا يترك الجهاد ويذهب إلى منزله معترضاً على هذا التصرف!! بل إن خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما كان في رتبة ـ أعلى من المشير الآن ـ لأن الرتب العسكرية العليا ينبغي أن تكون بعدد المعارك العسكرية التي خاضها، لا يوجد في التاريخ قائدٌ خاض أكثر من مائة معركة وانتصر فيها كلها، وكل معركة لها تكتيك جديد، يحتاج إلى مدارسته من كليات أركان العالم!! ومع ذلك جاءه خطاب العزل وهو في معمعة القتال!!

وماذا يعني العزل؟ أن يكون جندياً – وليس يُعفى من الخدمة – ورضي!! وجاءه رجلٌ من المنافقين قال: يا خالد أترضى بهذا وأنت في هذا الذي نراه؟! إن معي مائة ألف سيف على استعداد أن يقفوا معك، ولا تنفذ هذا الأمر وخالفه، قال: بئس ما أمرتني وطلبته مني يا أخي، أنا أجاهد لله وما دمت أجاهد لله لا يهمني أن أكون قائداً أو جندياً!!.

نحن في أمسِّ الحاجة إلى نفوس تَرَبَّتْ هذه التربية، وهي التي يحتاج إليها المجتمع المسلم لينهض من كبوته، وليعيد مجد الأمة مرة أخرى، ولا يتم ذلك إلا بالتربية، هل يتم ذلك بالقراءة؟ هل يتم ذلك بالخطب والمواعظ؟ لا يتم ذلك إلا بالتربية النبوية التي قال فيها الله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [151البقرة].

لو بحثنا بعد ذلك في تاريخنا المبارك لوجدنا هؤلاء الرجال هم الذين قادوا الفتوحات الإسلامية، إبتغاء وجه الله، انظر إلى عقبة بن نافع عندما وصل إلى المحيط الأطلسي، وخاض البحر بفرسه وقال:  (والله لو أني أعلم أن هناك أرضاً خلف هذا البحر، لخُضت هذا البحر إليها لأجاهد في سبيل الله عزَّ وجلَّ) لا ليكون مليونيراً ولا ليجمع ثروات، ولا ليتولى قيادة أو ليتبوأ منصباً، وإنما كل ما يريده كما قال الله: ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [28الكهف]. لا يريد إلا وجه الله جلّ في عُلاه.

انظر إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وقد بلغ من العمر أرذله – كما يقولون – ولكنهم كانوا يَحِنُّون إلى الجهاد كما تَحِنُّ الطيور إلى أوكارها في المساء، وسمع أن معاوية جهَّز جيشاً لغزو القسطنطينية فذهب ليجاهد مع هذا الجيش، وهناك في وسط الميدان مرض، فجاءه قائد الجيش يزيد بن معاوية وقال: أتشتهى شيئاً يا صاحب ضيافة رسول الله؟ لأنه أضاف رسول الله عند الهجرة، قال: نعم، إذا أنا متُ فاحملني واخترق صفوف الأعداء، وآخر ما تصل إليه من الأرض فادفني هناك. انظر إلى الوصية للرجل التي يوصي بها عند لقاء الله عزَّ وجلَّ!! ونفذ له الوصية بعد موته، فحمله الجند واخترقوا صفوف الأعداء وآخر موضع وصلوا فيه إلى الأرض حفروا فيه ودفنوه هناك، وهذا المكان بجوار سور القسطنطينية، ومازال في ضريحه المبارك ومسجده الزاهي إلى الآن، يزدهي به أهل هذه البقاع جميعها.

والأمثلة في هذا المجال لا تُعدّ ولا تُحدّ، لكن ما أبْغِي أن أصلَ إليه: عندما ضعُفت روح اليقين، أو كلما ضعُف اليقين وتنافس المسلمون في الدنيا وفى الحظوظ والشهوات والأهواء ضعُفت عندهم روح الجهاد، وخبت عندهم القيم الإيمانية، فمكَّن الله عزَّ وجلَّ عدوّهُم منهم، ولا مخرج لهم في هذه الأحوال إلا بالرجوع إلى التربية الأولى التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه الكرام.

نور الدين زنكي

خذ مثلاً سؤال: لِمَ انتصر صلاح الدين الأيوبي في حطين وقبله نور الدين زنكي الذي كان صلاح الدين قائداً من قادة جنده في معاركه مع الصليبيين؟ لأن في هذه الفترة ظهر كثيرٌ من الشيوخ المُربين، الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ عدىّ بن المسافر، وغيرهم من المشايخ في نواحي الأكراد وبلاد العراق، وكان أسُ جند نور الدين زنكي وصلاح الدين من هؤلاء الرجال الذين تربوا هذه التربية، وكانوا هم أيضا على نفس النسق، ونور الدين زنكي ـ مع أنه كان حاكم بلاد الموصل وبلاد الشام ـ لم يكن يمتلك قصراً، وكان يسكن في القلعة التي يحكم منها، وكان لا يزيد في نفقاته على أفقر رجل في دولته، ويأخذ نفقاته من ثلاثة دكاكين اشتراهم من غنيمته في حمص يأكل من ريعهم، ويصنع له صنعة، يصنع بعض الحرف البسيطة ويعطيها لرجل عجوز يبيعها له سِرا ليستكمل نفقته.

ولما ضجَّت زوجته وطلبت من أخيها أن يذهب إليه ليزيد في نفقاتها، قال : هذا المال ليس ملكي، وإنما مال المسلمين، أأعطيها من مال المسلمين وأترك الفقراء والمساكين؟! ولكن لي ثلاثة دكاكين اشتريتها من سهمي في الغنيمة في حمص وهبتها لها وليس لها شيئاً غير ذلك عندي.

وكان على صلة بالله وبحبيب الله ومصطفاه، ولذلك حدث في عصره أن رجلاً أوروبياً أرسله الأوروبيون وزوَّدوه بكل ما يحتاج إليه من المال ليستخرج لهم جسد النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب به إليهم، وذهب الرجل وتظاهر بالإسلام، وسكن في المدينة، وأخذ يُوزع على الناس أموالاً بغير حساب، حتى حسبوه من المُحسنين والمُتصدقين والمُنفقين، واشترى داراً قريبة من المسجد النبوي ومن الحجرة الشريفة، وكان يحفر بالليل في الأرض ثم يحمل التراب في كيس ويذهب به زاعماً أنه يزور البقيع ويُلقي فيه هذا التراب. ولما اقترب من الحجرة الشريفة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى نور الدين زنكي ويقول له: (يا نور الدين أغثني من هذا الرجل)، وأراه صورة الرجل وهيئته. لم يذهب إلى حاكم الحجاز أو حاكم اليمن!! وكان هذا لصلاحه!!

فذهب إلى المدينة فوراً ومعه أموالاً كثيرة، وأراد أن يعرف الرجل، فدعا كل أهل المدينة ليوزع عليهم العطاء، وكل من جاءه أعطاه كيساً فيه نقود، والرجل لم يأتي، فقال: ألم يبقى أحداً؟ قالوا: لم يبق إلا رجلاً من المحسنين المُنفقين المتصدقين، قال: أريد أن أراه، قالوا: إنه لم يأتي، قال: اذهبوا بي إلى بيته، فلما رآه عرف أنه هو الرجل الذي رآه في المنام، وكان الرجل يضع على ظاهر الحفرة حصيراً ليغطيها، فأدرك ببصيرته أن هذا هو المكان، فقال له: ارفع هذا الحصير، فوجد الحفرة، فقتله وذهب إلى ضريح حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وحفر حوله وحصَّنه بالرصاص حتى لا يستطيع أحدٌ أن يصل إليه ولا أن يقترب منه.

صلاح الدين الأيوبي

كل هذا سُقته لأعرفكم بصلاح هؤلاء الذين قادوا العباد والبلاد في وسط هذه المهالك، فحقق الله عزَّ وجلَّ على أيديهم النصر، هذا الرجل كان أحد قادته صلاح الدين الأيوبي، وصلاح الدين يحكي التاريخ عنه أنه لم تجب عليه الزكاة يوماً في ماله لكثرة إنفاقه وهو في هذا المنصب.

ففي معركة عكّا جهّز الجيش بإحدى عشر ألف فرس على نفقته الخاصة، فكانت النتيجة أن الناس على دين ملوكهم، أتباع نور الدين والمحيطين بصلاح الدين كانوا يتنافسون في هذا الخير وفى هذا العمل، وكان صلاح الدين مع انشغاله بأمور دولته وأمور المسلمين لا يترك قيام الليل، وجعل قيام الليل طابوراً ألزم به جيشه وقواته، وكان يُرسل من يفتش عليهم في وقت السحر ليرى ما يصنعون، ليتحقق النصر: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [7محمد].

إذن ما الذي يحقق النصر؟ التربية الإسلامية، واليقين والزهد في الدنيا والأهواء والشهوات.

الفتوحات العثمانية

مثالٌ آخر: كيف حققت الدولة العثمانية كل الفتوحات حتى اكتسحت دول أوروبا والدول الغربية في طرفة عين؟ جاءوا بصبيان وأدخلوهم في مدارس دينية عسكرية، وكان أيضاً من هؤلاء الصبيان كثير من النصارى وليسوا مسلمين، فأسلموا وتعلموا الدين وتعلموا العسكرية وربوهم على الفدائية والرغبة فيما عند الله والزهد في الدنيا، ما اسمهم؟ الإنكشارية .. أليس هؤلاء هم الجيش الذي حقق هذا النصر كله؟! هل حقق ذلك بخبرته العسكرية فقط أم بتربيته أيضاً؟ بالتربية التي تربى عليها، وهذه التربية هي التي حققت هذا الفتح، حتى وصلوا إلى فيينا في النمسا الآن، واكتسحوا كل الدول الأوروبية، ومن الجهة الأخرى وصلوا إلى شاطئ المحيط الأطلسي، واكتسحوا كل الدول العربية … بماذا؟ بهذه الروح التي تربوا عليها التربية الإيمانية.

وكان السلطان العثماني أيضاً من أهل هذه التربية، فلذلك أول ما دخل الشام سأل: أين قبر مُحيى الدين؟ وكانوا قد قالوا قبل ذلك: (إذا دخل السين في الشين ظهر قبر محي الدين) فظهر أن السين هي السلطان سليم، والشين هي بلاد الشام، فلما دخل السلطان سليم أحيا قبر محيى الدين لعقيدته في الصالحين، وهو الذي أسسه وبناه وجعله على هيئته التي عليها الآن.

وكان حريصاً على أن يحظى بمفتاح الحرمين، وهو أول من سمّى نفسه بخادم الحرمين، لأن هذا كان مناه وهو شرفه العالي وهو أن يكون في خدمة الحرمين الشريفين.

مثالٌ آخر: قال صلى الله عليه وسلم: {لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ } (الحاكم في المستدرك، ومسند الإمام أحمد عن بشر الغنوي رضي الله عنه). حاول المسلمون أن يفتحوا القسطنطينية فلا يستطيعون، إلى أن جاء السلطان محمد الفاتح – وكان السلطان محمد الفاتح يتربَّى تربية روحية على يد رجلٍ من الصالحين اسمه باللغة التركية (آق سُنجُر) وكان رجلاً من أهل الكشف

حاصر السلطان محمد القسطنطينية، وكان لا يفعل شيئاً إلا إذا استأذن شيخه، فقال لشيخه: أأبدأ في فتح القسطنطينية؟ فيقول له: انتظر، حتى جاء في يوم وقال له: ابدأ اليوم فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى وعبر إلى الجانب الذي فيه الروم، فأبشر قد أتى النصر، فأمر الجند بالهجوم، فنظروا فوجدوا باباً في الحصن تُرك صدفة ولا يعلمون من فتحه، فدخلوا منه وفتحوا باب الحصن، وكان سبباً في النصر، ما السبب؟ هذه التربية الربانية التي كانوا عليها.

حتى آخر سلاطين العثمانيين وهو السلطان عبد الحميد، وكان له شيخاً من بلاد الشام، وأرسل إلى شيخه رسالة – وهى موجودة إلى الآن يذكر فيها سبب زوال خلافة العثمانيين – قال له: جاءني اليهود وعرضوا علي كذا وكذا على أن أسمح لهم بإقامة دولة لهم في فلسطين، فقلت لهم: هل أبيع مجد آبائي وأجدادي بهذا المال؟! لا يكون ذلك أبداً، فدبروا مؤامرة للقضاء عليه، ولذلك الذي قضى عليه هو مصطفى كمال أتاتورك  حيث كان من  يهود الدُونمة.

بلاد المغرب

فإذا نظرت إلى التاريخ تجد هذا كله، انظر إلى بلاد المغرب، وفى بلاد المشرق، تجد أن الدول التي كان لها صولة وجولة في ردّ أعداء الإسلام وخدمة المسلمين، وأعظمها دولة المرابطين ودولة الموحّدين، دولة المرابطين أصلها كان رجلاً من الصالحين وكان اسمه عبد الله يس، وكان يسكن في جزيرة، واجتمع عليه كثير من المُريدين ورباهم على الروح الإسلامية والقيم القرآنية، فلما زاد عددهم كلفهم بالجهاد، وكان في هذا الوقت الفرنجة في بلاد الأندلس اكتسحوا جزءاً كبيراً من بلاد المسلمين نظراً لميل المسلمين الحاكمين إلى اللهو والغناء والطرف وترك الجهاد، حتى أن آخر خليفة منهم، وهو يوسف الأحمر، لما دخلوا غرناطة بكى، فقالت له أمه : أتبكي كما تبكي النساء على مجدٍ أضعته بين الغوانى!! فذهب المرابطين وكانوا من أقوى الجيوش في العالم، وأدَّبوا الفرنجة ووصلوا إلى حدود فرنسا وكادوا يجتازوا الحدود ويدخلون فرنسا، واتجهوا في الجنوب ونشروا الإسلام في موريتانيا والسنغال ومالي والنيجر ونيجيريا، ولذلك هذا الحزام الصحراوي كله مسلمون، بسبب هؤلاء.

وجاءت بعدهم أيضا دولة الموحدين وكانت على نفس الشاكلة، فهؤلاء مرابطين لأنهم مرابطون، وهؤلاء موحدين لأنهم رسالتهم نشر توحيد الله جلّ في علاه.

أثر التربية الإيمانية

إذن عندما ننظر في التاريخ كله نجد أنه لا تقوم قائمة لهذه الأمة ويعلو شأنها في كل زمان ومكان إلا بالتربية التي كان عليها الحبيب وأصحابه، وأول علامة كانوا يتربون عليها الزهد في الدنيا، وطلب ما عند الله، وأن يصدق الإنسان في كل أقواله ولا يكذب أبداً لا لاعباً ولا لاهياً، وكذلك الأمانة في كل أمر من الأمور وفى كل شأن من الشئون، والعمل وفق شرع الله، والمتابعة لحبيب الله ومصطفاه صلوات ربى وتسليماته عليه، وغيرها من المبادئ القرآنية والقيم الإيمانية، وهذه الأمور لا تتم إلا على أيدي رجال ورثوا قول الله: ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [108يوسف].

هؤلاء الرجال المربّين إذا وُجدوا والتفّ حولهم طلاب الحقيقة العلية نجت الأمة من الفتن وظهرت في الأمة الطاقات الموجودة من الكريم الخلاق المتوارية في الأجسام وانتشر دين الله عزَّ وجلَّ.

هذا الأمر كان عليه الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان في بداية دعوته، ومن حوله، ولذلك الشيخ سعيد حوّى – وكان من علمائهم – كتب كتاباً اسمه: (تربيتنا الروحية) فكان يقول: لابد من التربية ..لكن أين هي التربية الآن؟ وهذا هو الفيصل، لو وُجدت التربية فلن تجد تنافساً في الفاني ولا رغبة في شيء داني، وإنما الكل يسارع في مصلحة الكل، يفنى عن الأنانية والأثرة ومصلحته الشخصية في سبيل المصلحة العامة التي يرجوها في هذه الأمة وفى هذا الوطن الذي نعيش عليه.

ولذلك أنا أرى – كما رأيتم الآن – أننا لا مخرج لنا مما نحن فيه الآن، إلا رجالاً بهذه الكيفية!! تجرَّدوا من المطامع والأهواء الشخصية، والنزوات الفردية، والرغبة في المظاهر الكاذبة، وأصبحوا لا يريدون إلا وجه الله.

وأنتم رأيتم أمثلة حتى في زماننا هذا: الرجل الذي رأى الأمور تنحدر في السودان وهو سوار الذهب، فقام بانقلاب ليُعيد الأمور إلى مجاريها، وأجرى الانتخابات ثم سلم السلطة للرئيس المنتخب وانسحب من الميدان، لماذا؟ لأنه تربى تربية صوفية. هل لو تربّى رجلٌ في المدارس المدنية أو المدن الأوروبية يكون بهذه الكيفية؟ لا إنه يريد أن يجلس على الكرسي مدى الحياة، وكل من حوله يعظمه ويبجله ويكبره، لكن التربية الصوفية هي التربية النبوية، أو التربية الإسلامية فهى المخرج للأمة في كل هذه الأمور.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعيد لنا حالنا الأول، وأن يقيِّد لهذه الأمة رجالً صدقوا ما عاهدوا الله عليه،  يجمعون شمل الأمة، ويقودون الأمة لما فيه نفعها ورفعة شأنها، ويردُّون كيد الكائدين، ويجعلون كيدهم في نحورهم، ويقضون على ذوي المآرب والأهواء الشخصية وكلِّ مؤججي الفتن الذين يقسمون الشعوب، ويقطعون العلاقات الاجتماعية ولأخوية، حتى ندخل في قول الله عزَّ وجلَّ: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (54المائدة)، فينصرنا الله على أنفسنا أولاً نصراً مبيناً،  ثم ينصرنا على غيرنا نصراً عزيزاً، ويحق الحقَّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمّ


المعادى – الخميس 13 من جمادى الأولى 1433هـ 5/4/2012م        

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid