Sermon Details

درجات الفتح النوراني
سؤال: ما درجات الفتح النوراني؟
———————-
من الذي يستطيع أن يعُدّ؟!!، سأل رجل أحد الصالحين وقال له: أنا أريد أن أصل إلى مقام الإحسان، فقال له: بينك وبينه عشرة آلاف مقام!! فمن يستطيع أن يعدَّهم أو يحدَّهم أو يوصَّفهم؟!
لكن ماذا نفعل؟ نُسلِّم، يقول أحدهم مثلاً: أنا أسافر إلى أسوان لأتعرَّف على البلاد التي في طريقي، هذه البلدة وغيرها، وهذا النجع وغيره، هذا سيحتاج إلى سَنَة وقد لا يصل، فماذا أفعل؟ أحجز في القطار، وأُسلِّم نفسي لسائق القطار، وأقول له: أنا أريد أن أصل إلى أسوان، ولا أنظر إلى هذه المحطة ولا إلى تلك المحطة، فيقول لي: ستصلها بعد ساعات محدودة، وبعد هذه الساعات أجد نفسي في أسوان.
فسلم لأهل الحال روحك واعتقد |
تفُز بشراب الراح عند وروده |
لكن العقل يقول لي: ستمشي كم محطة؟ وأين تذهب؟ والعقل لو وقف عندي سيكون حجر العثرة لي، لأن كل شيء يريد أن يزنه بميزان حسِّي، وهذه الأشياء لا تُوزن، فهل يصِّح أن أزن الذهب بميزان قباني؟! أو حتى بميزان كفَّات؟! لا، فالعقل يزن المحسوسات والملموسات، لكن عالم غير المرئيات ما للعقل وما له؟! سيحتار: (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) (4الملك). والبصر هنا هو العقل، لأنها ليست قدراته، ولكنها تحتاج العقل النوراني.
والعقل النوراني يأتي بعد التسليم للفرد الرباني، والخروج من عالم المباني إلى عالم المعاني، وكل هذا فيك، ففيك عالم المباني وفي نفس الوقت فيك عالم المعاني – بداخلك، أين هو؟ لا تراه، إذا كُشف لك ما فيك من معاني خالقك وباريك ستُفَاتح بكل هذه الأمور وتكاشف بها، وهي علوم ما تُحَصِّله في نَفَس منها قدر ما تحصِّله الحواس كالعين والأذن والعقل في خمسين ألف سنة!!.
ولذلك العقل لا يدرك هذه الأشياء، عشرة آلاف مقام، كم من الوقتٍ لتستطيع تحصيلهم؟! لكن في لحظة الوصل تُحَصِّلهم في سِنَة، كيف؟ إنها غيوب لا تلوح لمحجوب، ولا لمن على قلبه عيوب:
إذا صفا القلب من وهمٍ وشبهاتٍ |
يشاهد الغيب مسروداً بآياتٍ |
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (5، 6التكاثر)، (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) (18: 20المطففين)، هل يقرأه؟ لا يستطيع أحدٌ أن يقرأه لأنه مشهود: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (21الطففين)، يقولونه لمن؟ كما قال سيدنا علي: ((إن هاهنا لعلوماً جمَّة لو أجد لها حملة))، من الذي يستطيع حملها؟!!، وكما قال سيدنا موسى: (وَيَضِيقُ صَدْرِي) – لماذا؟ للعلوم التي فيه – (وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي) (13الشعراء) لأنهم لن يصدقوا هذا الكلام ولن يتحملوه، وسيدنا علي زين العابدين رضِي الله عنه قال ذلك:
يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به |
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنَ |
ولاستحَّل رجالٌ مسلمون دمي |
يرون أقبح ما يأتونه حسناً |
سيقولون: إنه رجلٌ كافر، لأن هذه أشياء لا يعرفونها، فالكفر يعني الغطاء، وكل شيء تُغَطي عن العقل – إذا كُشفت – تُكِّفر صاحبها، لأنها لا تظهر للعقل، والعقل يريد شيئاً محسوساً ملموساً.
فمقامات القرب هذه نحن نُسَلِّمها وهم يُرَقونا فيها، هناك من يقطعها في سنين، وهناك من يقطعها في لحظات، لأنها كلها هبات وتفضلات وعطاءات من الله عزَّ وجلَّ، أنا فقط أجتهد في البدايات فأجاهد نفسي، وأمشي على هذا الجهاد وأحافظ عليه، والباقي يكون سهلاً إن شاء الله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (21الحديد) (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) (105البقرة) فهو اختصاص.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
*********************