الحمد لله ربِّ العالمين، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، خلق السموات والأرض بإرادته، فكون فيهم ما يريد بحكمته، وجعل كل شئ فيهما وبينهما يتحرك بمشيئته سبحانه سبحانه! …. هو الواحد في فعاله، الكامل في خصاله، العالي في علو نعوته وجماله، الذي لا يشغله شأن عن شأن …. أوجد الوجود بفضله وعدله وحكمته، وأرسل حبيبه ومصطفاه رحمة عامة لجميع خليقته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل لكل شئ سبباً، فجعل الأكل سبباً للشبع، والماء سبباً لري الظمأ، والدواء سبباً للشفاء، والشمس سبباً للضوء، والحبيبﷺ سبباً للهداية، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيِّه من خلقه وخليله، اختاره الله عز وجل على حين فترة من الرسل فأقام به الملَّة العوجاء، ونشر به الشريعة السمحاء، وهدى به بعد ضلالة، وجمع به بعد فُرْقة، وأعز به بعد ذلة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد سبب هدايتنا، وسر عنايتنا، وباب سعادتنا، والشفيع الأعظم لنا يوم بعثنا وحشرنا ونشرنا، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة ينوَّر الله عز وجل بها قبورنا، ويحشرنا بها تحت لواء شفاعته، ويجعلنا بها جميعاً من أهل جواره في جنته، آمين آمين يا ربَّ العالمين.
أما بعد… فيا أيها الإخوة المؤمنون، ونحن نحتفل بذكرى ميلاد رسولنا الكريم ﷺ ننظر ونتدبر في أمره الذي من أجله أنزله الله عز وجل علينا، فنجد إنهﷺ فضلاً عن أنه باب الهداية، والسبب في العناية، وإذا آمنا به وصدقناه، واتبعناه، واتبعنا النور الذي أُنزل معه كنا يوم القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن الأمر الهام وهو الذي يجعل المرء في دهشة من أمر نبي الإسلام ﷺ، هو أنه جاء بنظام محكم سديد لصلاح البشرية في كل أطوارها ومراحلها.
صلاح الفرد في نفسه، وصلاح الأسرة في المنزل، وصلاح البيئات والمجتمعات، إن كان في النواحي السياسية، أو في النواحي الاقتصادية، أو في النواحي التشريعية والقانونية، أو حتى في الأمور الترويحية، لم يدع صغيرة ولا كبيرة من أمر البشرية إلا وجاء فيها بالنظام المحكم السَّديد، والهدي القرآني الرشيد ….
وستكشف لنا الأيام صدق هذا الأمر الذي قلناه، فإن البشرية منذ بعثتهصلى الله عليه وسلم يفكر المفكرون، ويشرع المقنِّنون، ويضع النظم الفلاسفة والحكماء، والقائمون بالأمور، فيكتشفون عيوباً في النظم البشرية، وثغرات في القوانين الوضعية، فيرجعون إلى النظام السديد، والقانون الرشيد، فيجدون أنه لا يصلح لجميع العبيد إلا ما جاء به النبي الرشيد ﷺ.
ففي هذه الأيام تتشدَّق دول الغرب بحقوق الإنسان، ويجعلون من أنفسهم أنبياء يطالبون البشرية بحقوق الإنسان، ولكنهم يطبقونها بميزان له كفَّتان: من واصلهم أعانوه، ومن رفض نظامهم قاطعوه، وسلَّطوا عليه الحروب التي لا تحتملها دولته.
أما حقوق الإنسان التي جاء بها النبي العدنان ﷺ، وشرعها في خطبة الوداع، فما زالت هي النبراس المضئ لكل البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وهي التي قال في بعض بنودها ﷺ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ. أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلاَّ بِالتَّقْوَى إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[2].
وقد حرَّم فيها صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الأموال، والاعتداء على الأعراض، والاعتداء على الأجساد وقد قال في ذلك المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام مخاطباً الأمة كلها من بدئها إلى الختام :
{ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَىٰ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: مَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَدَمُهُ }[3] إلى بقية هذه الوثيقة التي نقلوها وطوروها بحسب لغة العصر وادّعوا أنهم صانعوها، ولكن كذبهم ظهر في عدم فلاحهم في تطبيقها لأن الرسول ﷺ هو الذي جاء بها.
ولو نظرنا إلى المُثل والأمثلة لتطبيقها في عصره وعصور أصحابه الكرام، لعجزنا وعجز الوقت عن استيعاب بعضها فضلاً عنها كلها.
فجاء رسول الله ﷺ بالمناهج السدية لإصلاح جميع البشر ففي ميدان الاقتصاد جعل سعي التاجر رسالة إنسانية لنفع العباد والبلاد، فالتاجر يسعى لجلب تجارته ليس للربح فقط، وإنما ليجلب السعادة لمن حوله من أهل مجتمعه فيرضيهم فيرضى الله عز وجل عنهم، هدفه الأول هو هذه الرسالة ثم بعد ذلك يجعل لنفسه هامش ربح يبارك الله فيه وإن كان قليلاً فيجعله كثيراً، وكان لهذا لا يغش ولا يخون ولا يداري عيب بضاعته، بل لابد أن يُظْهر عيبها ويُعرَّفها للمشتري كما أمر الحبيب ﷺ.
هؤلاء التجار الصادقون في منهج النبي المختار بصدقهم وآمانتهم وهديهم في تجارتهم وحسن تعاملاتهم فتحوا بلاداً كإندونيسيا والفلبين والصين وكثير من دول إفريقيا ليس بالكلمة ولا بالعظة ولا بالمسجّلات، وإنما بالتعاملات التي ورثوها عن هذا الدين الحنيف الذي جاء به النبي الشريف صلوات الله وسلامه عليه.
أما في عصرنا فقد أصبح همَّ التاجر الربح المادي ولذلك نجد الجشع والسُّعار المادي يجعله لا يتورع في غشّ، ولا يتهاون في سبيل الحصول على المال بأي وسيلة من الوسائل الدنيوية ولا يلتزم بالأوامر الإلهية فبدَّل الله حالنا، وذهبت الثقة في التعامل من بيننا ولن ترجع إلا إذا رجعنا إلى هدى قرآننا وتعاليم نبينا ﷺ.
وهكذا يا إخواني الأمر في كل الأموروأنبه وأقول فى كل الأمور …
فادرسوا مناهجه السديدة، وطرقه الرشيدة في كل أمر من الأمورتجدونها لا تعتمد فقط على الخبرة ولكنها تعتمد أيضاً على صلاحية القدرة، قدرة الله الذي صنع، والذي أبدع، والذي يعلم مالا نعلم عن مصالحنا في الدنيا وسعادتنا في الآخرة ….
فالخالق عز وجل الذي أوجد الإنسان ويعلم ما ينفع الإنسان في سلوكه مع زوجه وأهل بيته لتكون حياته سديدة رشيدة جاء بذلك في قرآنه، والله عز وجل الذي علم أن صلاح المجتمعات يقتضي نوعاً ما من المعاملات، جاء بهذه المعاملات سواء في البيع أو في الشراء أو في التداول أو في التزاور، أو في الجلوس على الطرقات، أو في الاستدانة من الآخرين، أو في طلب المعونة من المحيطين وكل أمر قدَّره ودبَّره تدبيراً عظيماً {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا }(49الكهف).
فصلاح أمرنا بالرجوع إلى هدى حبيب الله ومصطفاه وأنتم ترون اليوم ماذا حدث للأنظمة الدنيوية؟ فهذا النظام الشيوعي قد سقط برمَّته لأنه من وضع بني الإنسان، وهذا النظام الرأسمالي يوشك أن ينحط ويسقط برمَّته لأنه ليس في تطبيقه سعادة ولا عدالة لبني الإنسان. إذاً أين السعادة؟
في اتباع القرآن، وفي هدى النبي العدنان …. وقد عرف ﷺ الحال الذي نحن فيه الآن، ورأى الفتن المحيطة بنا ومن حولنا ودلَّنا على الروشتَّة الربانية التي فيها إصلاح حالنا فقال ﷺ: { ألا إنها سَتَكُونُ فتن كَقِطعِ الَّليْلِ المُظْلِم } وهي ما نراه يبيع الأخ فيها أخاه ويدنِّس عرضه طمعاً في دراهم قليلة لا تنفعه في دنياه، ويخسر ضميره بسبب قروش قليلة قد لا يُعجِّل له العمر بصرفها، وإذا صرفها ينفقها فيما يُغضب الله ….
رأى صلى الله عليه وسلم بنورانيته وبما أطلعه الله عليه …. رأى كل هذه الفتن فقال:
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد فرد صمد … يُظهر دينه ويُعْلي شأن قرآنه ولو كره الكافرون.
وأشهد أن سيدنا محمد عبد الله وسوله الطبيب الأعظم لأدواء البشرية، والحكيم الأكبر لجميع العلل الاجتماعية، والذي صنع الله على يديه المراهم والأشفية التي تشفي جميع العلل الفردية والاجتماعية والدولية …
اللهم صلِّ وسلم وبارك على كنز الهوية ورمز الأسرار الربانية سيدنا محمد وآله أصحاب النفوس الزكية وأصحابه أولي العطية.
أما بعد… فيا إخواني المسلمين العجب أن الله جعل في بيوتنا جميعاً، وفي متناولنا جميعاً تعاليم السماء ووحي الأنبياء، وقوانين إصلاح جميع الأشياء لكنه يحتاج منا إلى العمل بقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (40القمر) … فنحن نحتاج لأن نتدبره، نحن جميعاً والحمد لله نقرأ القرآن، ولكننا نقرأه إما طلباً للأجر والثواب، وإما تنفيذاً لأمر الله عز وجل ولكننا مطالبون بأن نقرأه ونتدبره لنعمل به …
فمن تدبر القرآن وأحكامه وعمل به في نفسه وفي بيته سيكون هذا البيت سعيداً بأمر الله، لأن الله قال وهو أصدق القائلين {نْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(97النحل)..
فمن ترك العمل بكتاب الله مع زوجه وولده، ومشى على حسب حظه أو حظهم، وهواه أو أهوائهم كان في حياته تعب وغم وشقاء ونكد لأن الله قال وهو أصدق القائلين:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } (124طه).
وذكره هو القرآن الكريم …
وهكذا الأمر في أعمالنا وفي بيوتنا وفى مصانعنا وأشغالنا وفى شوارعنا وفي مجتمعاتنا وفى كل مكان نكون فيه ….
نحن جميعاً يا إخواني نحتاج …. ليس إلى وضع المصاحف في صالون المنزل أو في السيارة أو على المكتب كواجهة، لكن نحتاج أن ننقل معانيه إلى صدورنا، ونترجمها في سلوكنا وأفعالنا، حتى يكون الرجل منا صورة لمعاني القرآن كما كان ﷺ قدوتنا قرآناً يمشي بين الناس أو يمشى على الأرض.كما قال فيه الواصفون ……. << ثم الدعاء >>.
[1] كانت هذه الخطبة في ذكرى المولد النبوي يوم الجمعة الموافق 16 من ربيع الأول 1419 هجرية 10/7/1998م بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين – جيزة.