الحمد لله الذي أكرمنا بإتباع حبيبه ومصطفاه، وسلك بنا سبيل أهل ولاية الله، وجعلنا ننشد فى باطننا الكمالات التى يحبُّها الله، ونسعى بظاهرنا على الشرع الشريف الذى هدانا إليه الله.
والصلاة والسلام على حبيب الأنام، وضياء الظلام، وشافى الأسقام، وبارئ النفوس ومبرئها من العلل العظام، سيدنا محمد، وآله وصحبه، وكل من تابع هديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا رب العالمين.
إخوانى وأحبابى: بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين.
طريقان يسلكهما الذاهبون إلى الله عزَّ وجلَّ: طريق عام، وهذا مشايخه يوظفون على المريدين أذكاراً وأنواعاً من العبادات، وأصنافاً من التسبيحات والصلوات، من أجل أن يكون من العابدين لله عزَّ وجلَّ. وهذا طريق سديد، لكن يحتاج مراعاة قول الحميد المجيد: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (14غافر) أن سالك هذا الطريق يتحرى الإخلاص، لأنه لو عمل عمل الخواص سبعين عاماً بدون إخلاص، فعمله يدخل فى قول الله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) (23غافر)
ولذلك إمام الزهَّاد فى عصر حضرة النبى صلى الله عليه وسلم، والذى قال فيه صلوات ربى وسلامه عليه: (من أراد أن ينظر إلى عيسى بن مريم فى أمتى فلينظر إلى أبى ذر). كان شبيهاً بسيدنا عيسى فى زهده وورعه وإقباله على الله عزَّ وجلَّ. ومع ذلك قال له لما وجده سالكاً هذا الطريق: (أخلص يكفك القليل من العمل) (رواه الحاكم عن معاذ).
الموضوع ليس يكثرة العمل، وإنما بالإخلاص!! والإخلاص أن يكون العمل لله لا لشئ سواه. لا لدنيا .. ولا لخلق .. ولا لمصلحة عاجلة .. ولا لمنفعة زائلة .. حتى قال خاصة المتقين: ولا لجنة آجلة. حتى الذى يعبد الله للجنة فإنه يكون قد اتخذ الله وسيلة إلى الجنة، ولا يجوز ذلك.
وقد قال بعض الصالحين: قال لى ربِّى: (عجباً لمن رآنى دون مكوناتى!!) قال: فقلت: سبحانك وتنزهت!! قال: (من اتخذنى وسيلة لجناتى فقد رآنى دون مكوناتى). أنت تعبد الله حتى تدخل الجنة!! أنت تدخل الجنة من أجل وجه الله. وماذا فى الجنة يساوى وجه الله؟!! (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (28الكهف)
الطريق الثانى: طريق الورع، والعبادة فيه اسمها الكفّ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا عبادة كالكف) (روى ابن أبي الدنيا عن الحسن: “لا ورع كالكف)). والكف يعنى المنع، منع الجوارح من الذنوب والآثام، منع اللسان من الغِيبة والنميمة، والسب والشتم، واللعن وقول الزور، والكذب والسحر، وكل آفات اللسان، وهى عبادة الأقطاب فى طريق الله عزَّ وجلَّ. أما العبادات النفلية والتطوعية فسهلة، لا يوجد أحد يستطيع أن يصل فيها إلى ما وصل إليه إبليس!! عَبَدَ الله سبعين ألف سنة!! لكنها جاءت له بمرض الغرور ومرض الكبر، فكانا سبب حجابه وبُعده عن الله عزَّ وجلَّ.
فعبادة الكف حضرة النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال فيها: (كن ورعاً تكن أعبد الناس) (أحمد والترمذي عن أبي هريرة). ما معنى الورع؟ يعنى اتقاء المحارم. الإنسان الورع فى مفهوم العوام يتورَّع عن الأكل الذى فيه شبهات. أما فى مفهوم الخواص: فيتورع عن المجالس التى فيها شبهات!! وعن الكلام الذى فيه شبهات!! والنظرات الذى فيها شبهات!! وعن أى شئ يمسُّه أو تلمسه أو تشير إليه الأعضاء إذا كان فيه شبهات!!
عبادة الكف عبادة الحكماء الأكياس العقلاء. سهل أن تنظر فى كتاب الله، وتقرأ خمسة أجزاء أو عشرة أجزاء، وتنتهى ثم تنظر للغاديات والرئحات، لكن ما الصعب؟ أن تعمل بقول الله: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (30النور)
هذه هى عبادة الأقوياء، أصحاب العزيمة القوية فى دين الله عزَّ وجلَّ، وقد كانت عبادة السادة الشاذلية الذى إمامهم سيدى أبو الشاذلى رضى الله عنه، وخليفته سيدى أبو العباس المرسى رضى الله تبارك وتعالى عنه!!
سألوا سيدى أبا العباس المرسى: متى تثبت للسالك الولاية؟ قال: (إذا لم يكتب صاحب الشمال عليه شيئاً لمدة اثنى عشر عاماً). ليست المشكلة فيما يكتبه صاحب اليمين، إنما المشكلة فيما يكتبه صاحب الشمال. وهى السبيل التى بيَّنا أنها سبيل الملائكة الكرام، وأنت تريد أن تكون من عباد الرحمن، والملائكة اسمهم عباد الرحمن، وأنت تريد أن تكون من عباد الرحمن فلابد أن تتشبه بهم فى الحال الذي مدحهم وأثنى عليهم الرحمن ووصفهم به فى القرآن – كما قلنا اليوم: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (6التحريم)
الأول: الإمتناع بالكليَّة عن المعاصى الظاهرية والباطنية. الظاهرية التى هى الكبائر والصغائر التى نعرفها، والباطنية: التى هى أعظمها وأخطرها الغفلة عن الله عزَّ وجلَّ فى نفس أو أقل، أو الإنشغال بشئ غير حضرة الله سبحانه وتعالى. فلازم للإنسان الأول أن يحرس جوارحه، وحضرة النبى صلى الله عليه وسلم قال لنا: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما).
ما أول رعيَّة أنت مسئول عنها؟ عيناك ولسانك، ويدك ورجلك، وفرجك وبطنك. أليست هذه رعيتك؟!! ولو تركتهم سيأتون يوم القيامة ويكونون شهوداً عليك، ويتبرءون مما فعلته، قال تالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (24النور). وقال سبحانه:(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (18فصلت). إنه الحس، الحس أيضاً يشهد عليك. فلابد للإنسان أن يكون حارساً أميناً على رعيته التي يتولى رعايتها في هذا الكيان وفى هذا الجسم، (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). بعد ذلك أنت مسئول عن زوجتك وعن بنتك وعن ابنك، وهذه مسئولية ثانية، لكن ما أول رعية؟ أعضاؤك وجوارحك التي تتلقى منك، وتنفذ بها ما تريد، لابد أن يكون مهيمن عليها شرع الحميد المجيد، وسنة النبيِّ الرشيد صلى الله عليه وسلم، فكان السابقون الطالبون المنازل العالية على هذا النهج.
سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه – وكان إماماً يُقتَدَى به – كان له تلميذ نجيب اسمه الربيع بن الخيثم – وكان يقول له: (لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلملأحبك) – مكث أربعين سنة يذهب إلى بيت بن مسعود، وكلما يدق الباب وتخرج الجارية، ترجع إلى بن مسعود وتقول له: (صديقك هذا الأعمى بالباب). انتبهتم من هذا الأمر؟!! ليس أعمى وإنما يغض البصر!! لكن كيف يكون مريداً ولحظة ما يُفتح الباب يتلصص على ما بداخل البيت؟!! ليس بمريد وإنما لص فى صورة مريد، عينه على هذا وذاك، ما هذا؟ وما ذاك؟ وما الذى هنا؟ وما الذى هناك؟ فكيف يكون مريداً؟!!
حتى المشايخ كانوا على هذه الشاكلة!!! ذهبوا إلى أحد الصالحين يتكلمون معه، وأثناء الحديث تكلموا عن أحد تلامذته الملازمين له، فقال أحدهم: (تلميذك هذا الأجرد) – والأجرد يعنى: الذى ليس له لحية – فقال الشيخ: أهو أجرد؟!! قالوا: نعم. قال: والله ما عرفت ذلك إلا منك الآن!!!
هل أنا أظلُّ أتطلع في وجوه الناس حتى أعرف ماذا يلبس؟ وما حال شعره؟ هل لدى وقتٌ لهذا الكلام؟!! من يريد الله هل ينشغل عنه بسواه؟ وكانوا يقولون: (متلفت لا يصل)، فمن يمشى من هنا إلى إلمنيا، وكلما رأى شيئاً عن يمينه أو عن شماله أو أمامه أو خلفه يظل واقفاً عنده، متى يصل؟ لكن من يريد أن يصل بسرعة (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (28الكهف)
نفس حضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بم وصاه ربه؟ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) (131طه)، ولما أسرى به الله، أثنى عليه مولاه عندما عرض عليه الملكوت والملائكة وكل العوالم ولم يلتفت!! يقول له: اتفرج، يقول: لا. فقال في شأنه: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)(17النجم). لا يريد إلا وجه الله.
فيكون هذا حال المريد، مشغول بالله، وأنا لو سألتنى عن أى أحد، لا أستطيع أن أجيب ماذا كان يلبس أو غيره، وهل لدى وقت لذلك؟!! هل أتراءى صوراً نورانية أم صوراً خلقية؟!! لا يجوز الجمع بين الإثنين، إما هذه وإما تلك. الصور النورانية ليس فيها لحية ولا غيره. فمن يريد أن يقف عند الصور البشرية ما له وما للصور النورانية!!! قف كما أنت، ولن تر غيرها .. (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (198الأعراف)، واقفون عند الصورة البشرية، ولا يرون ما فيها من العجائب الإلهية، والأسرار الربانية!! لا يرون إلا الصورة البشرية.
لابد للإنسان أن يكون كذلك، سألوا الشيخ أبو اليزيد البسطامى رضى الله عنه: كيف وصلت إلى الله؟ قال: (كنت حداداً على نفسى اثنتى عشرة سنة – حديد .. لا يسمح بفلتة ولا بهفوة ولا بخطأ، وإذا حدث يسارع إلى التوبة – ثم تنعمت بعد ذلك، ونعمنى الله عزَّ وجلَّ). فهذا هو منهج الكمَّل من الصالحين .. ماذا أول ما يجب؟ (احفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى) (الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما). وهذا ما نسميها ويساعدنا عليها: “المحاسبة”، لابد من محاسبة النفس. أنت لك دفتر يومية – حساب يومى – ولك حساب أسبوعي، ولك حساب سنوي!!
اليومية .. لازم تراجع نفسك كل ليلة، ما الذى تكلمت به، وما الذى نظرت إليه، وما الذى سمعته؟ إذا كانت هذه الأمور معدودة ومحدودة فيا هناك ويا بشراك!! أما كنت لا أدرى عن ذلك شيئاً لأن الثرثرة كثيرة، فما لك ولطريق الصالحين؟
الشيخ مكين الدين الأسمر رضى الله عنه من تلامذة سيدى أبى الحسن الشاذلى، وكا منهجه كما أوضحنا، وكان يقول فيه سيدى أبو الحسن الشاذلى: (مكين الدين رجل من الأبدال). منهجه كما وضحنا، كان ترزياً – ومعروف أن الصنايعىّ يلتف حوله الناس- ماذا كان يفعل؟ وما منهجه؟ يقول : إنى أجلس بين يدى الله كل ليلة قبل صلاة المغرب. لماذا قبل المغرب؟ لأن ليله كان لله، وهذا مبدأ الصالحين، الليل كله لله!! وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العشاء يدخل ولا يخرج، الليل لمن؟ لله. لا سهر، ولا لهو، ولا أفلام ولا مسلسلات، ولا نت ولا غيره، ثم بعد ذلك تريد الله!! كيف ذلك؟!! الصالحون عندما يأتى الغروب، فقد جاء وقت ملازمة حضرة علام الغيوب.
حتى كان سلطان المسلمين سيدنا عمر رضى الله عنه – وأنتم تعرفون ذلك – كان مشغولاً بالكلية من أجل الدولة ومن أجل العدالة، وكان لا ينام ليلاً ولا نهاراً إلا غفوة بعد شروق الشمس!! فقالوا له: اشفق على نفسك يا أمير المؤمنين. قال: (إذا نمت نهاراً ضيَّعتُ رعيتى، وإذا نمت ليلاً ضيَّعتُ نفسي، فجعلت النهار لرعيتي وجعلت الليل لربِّي). الليل لمن؟ لله على الدوام .. (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (17الذاريات) يستغفرون من أي شئ؟!! سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك!!
فكان الشيخ مكين يقول: (أجلس قبل غروب الشمس فأعدّ ما تلفظ به لسانى، فأجدها بضعة كلمات لا تتجاوز الثلاثة عشر كلمة) – طول النهار!! لأنه يحاسب، ومن يحاسب نفسه هنا لا يحاسب هناك، ومن لا يحاسب نفسه هنا سيحاسب هناك، هكذا تقول الحكمة: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) – فيحسب فيقول: (فأجدها بضع كلمات لا تتجاوز الثلاثة عشرة كلمة، فأنظر فيها فما وجدت منها خيراً حمدت الله عليه، وما وجدته غير ذلك استغفرت الله عزَّ وجلَّ منه).
سيدنا أبو بكر نفسه رضى الله عنه أول من سلك هذا المنهاج على يد حضرة النبى صلى الله عليه وسلم. كان رضى الله عنه يضع حصاة تحت لسانه، فسألوه: ما هذا يا أبا بكر؟ فأشار إلى لسانه وقال: (هذا الذى أوردنى الموارد). أجعل له فرامل حتى أمسكه فلا يتكلم. يتكلم مع من؟ مع من يقول للشئ كن فيكون: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (24الكهف) إذا نسيت غيره فاذكره، فهذا هو الذكر الصحيح، لكن تذكره وأنت مشغول بغيره، فهل هذا ذكر؟!! قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: (لا يقبل الله دعاءاً من قلب لاهٍ).
من أراد حلاوة المناجاة لازم أولاً أن يطهر القلب لله، ويطهر اللسان الذى يناجى به الله من أي معصية تغضب الله. لكن أنا شغال بالغيبة والنميمة، والسب والشتم واللعن، وأدخل على الصلاة وأقرأ كتاب الله، ثم اشتكى من عدم وجود حلاوة المناجاة!!! أى حلاوة تريد؟!!هل طهرته أولاً قبل أن تناجى الله؟!! لابد أن تطهره أولاً.
العين التى تريد أن تنظر بها الأنوار ألا تمنعها أولاً من النظر الذى يستوجب غضب الواحد القهارعزَّ وجلَّ. لكن تتجسس بها على الخلق، وتتحسس بها على الناس، وتنظر بها للغاديات والرائحات، ثم تريد من الله أن يكشف لك عن نور ملكوت السموات!!! هل هذا يجوز؟!! أيليق هذا؟!!
لابد من ذلك، غضَّ هذه، وافتح ما بداخلك ترى ملكوت الله. تطلب علوم الإلهام لابد أن تطهر القلب بالتمام، حتى يكون جاهزاً للتلقى من ملائكة الله بما يلهمهم به لك الله جلَّ فى علاه.
إذن يا إخوانى هذه هى المسيرة التى كان عليها السالكون الذين يريدون أن يكونوا واصلين، ويكونوا متحققين، ويكونوا عارفين، ويكونوا أوتاداً وأبدال فى طريق الصلحين، ويكونوا أئمة للمتقين. (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (74الفرقان)
ما أول شئٍ؟ أن يكون مهيمناً على جوارحه، بعد ذلك ينال المنى. وانظر فى أحوال المرسلين والأنبياء والصالحين تجد هذا العجب العجاب الذي يحكيه لنا ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ.
يوسف عليه السلام، لماذا بلغ المراد – يا إخوانى – وأعطاه الله علم تأويل العلوم الإلهية وغيرها من المقامات العلية؟ لأنه – أولاً – لما عرضت عليه الفتنة أباها، وقال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (33يوسف) أليس من أجل هذا يا إخوانى؟!!!
سيدنا موسى عليه السلام – وكان قويًّا، ورفع غطاء البئر بمفرده الذى يحمله ثلاثون رجلاً، وذهبت إليه البنت – هى وأختها – أرسلها أبوها لتدعوه، فجاءت الريح وهفهفت ثيابها، فقال لها: لا، امشى ورائى ودلينى على الطريق بحصاة هنا أوهنا. أليس هذا يا إخوانى منهج الله مع أنبياء الله، ومع رسل الله!! ومع من؟ مع أولياء الله!! (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (90الأنعام)
لكن أنت تظن أنك من أجل أنك تصلى ركعات بالليل، وتقرأ بعضاً من سور القرآن أو أجزاء منه، والقلب مشغول، والبال سارح، وفى نفس الوقت لا تستطيع أن تكف لسانك عن الآثام، ولا عينك عن النظر الحرام، ولا يدك عما يغضب الملك العلام، وتشكو لماذا الله علىَّ؟!! لماذا لم يبلغنى الله مقامات الأولياء؟!! لماذا لم يبشرنى الله ببشريات الصالحين؟!! لأنك لم تنهج النهج الذي نهج عليه الصالحون والتي يقول الله فيها: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) (153الأنعام)
لم يقل امشوا عليه، مَنْ الصراط المستقيم هنا يا إخوانى؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اتبعوه: يعنى امشوا على هداه صلوات ربى وسلامه عليه.
إذن يا إخوانى طريق الصديقين والمقربين وكمَّل العارفين، ابدأ أولاً وهيمن على حوارحك، وراعها بشرع الله، واجعل شرع الله هى العصا التى ترد بها جوارحك عن معاصى الله فى هذه الحياة، وكلما تهم جارحة بمعصية ازجرها بآية من كتاب الله، أو حديث من أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحاول أن تكون دائماً متابع ومحاسب لجوارحك فى كل يوم على الأقل.
المبتدئون نقول لهم: حساب اليومية آخر النهار، كل يوم لازم تجعل لنفسك جلسة محاسبة آخر النهار حتى تسير على المنهاج القويم، أما من مشى قليلاً وسلك، نقول له: اجعل لك جلسة محاسبة قبل كل وقت من أوقات الصلاة، قبل ما تناجى مولاك حاسب نفسك وتُبْ مما اجترحته جوارحك، وتبرَّأ من حظك وهواك، وتوضأ وضوء الصالحين، طهِّر القلب بالكلية لربِّ البرية، تدخل إلى الصلاة تحظَّ بمناجاة من يقول للشئ كن فيكون. الجماعة الصادقين نقول لهم: حاسب نفسك أولاً بأول، كلِّ همسة، كلِّ حركة، كلِّ سكنة، لابد فوراً أن تزنها بشرع الله، إذا أذِن تفعل، وإذا لم يأذن تترك لأنك محاسب على كل ما قدمت يداك وكل ما عملته جوارحك وعلى نواياك. فالمحاسبة يا إخوانى هى الباب لفتح هذه الرحاب.
من لا يحاسب نفسه ما له ولفتوحات العارفين ورحاب الصالحين؟!! والذى إذا ذكَّره أخوه يغضب منه!! لأنه يريد أن لا يحاسبه أحد أو يتابعه، فمتى يبلغ مقامات الصالحين!!. وقد كان سيدنا عمر رضى الله عنه كان بقول: (رحم الله إمرأ أهدى إلىّ عيوب نفسى)، يدعو لمن؟ لمن يبين له عيوبه، ويببن أن من يفعل ذلك كأن قدم له هدية!! ما أعظم هدية؟ أن يبين له عيباً من العيوب حتى يتلافاه ويتحاشاه ويعالجه، فيكون من أهل الصلاح والإصلاح بين يدى من يقول للشئ كن فيكون.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجملنا ظاهراً وباطناً بالعمل بشرعه وكتابه وسنة حبيبه ومصطفاه، وأن يحفظ جوارحنا من المعاصى والفتن، وقلوبنا من الأهواء، ونفوسنا من الشهوات، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.