الحمد لله ربِّ العالمين .. والصلاة والسلام على الحبيب الأعظم، والطبيب النبراسي الأكرم الذي علمه مولاه كل ما يفيد البشرية، وآلام النفوس الإنسانية، سيدنا محمد وآله الذين اتبعوا هداه، وأصحابه الذين عاونوه وآووه ونصروه ابتغاء وجه الله، وكل من سار على هديهم إلى يوم الدين وعلينا معهم أجمعين آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أخواني وأحبابي بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:
الناظر إلى أحوالنا الآن، في قرانا ومُدننا، وفي مساكننا وطرقنا، وفي كل أحوالنا وشئوننا، يجد أمرنا – ونحن المسلمين – عجباً .. نتلمَّس الشفاء مِمَّا نحن فيه من أدواء، إن كانت أدواءٌ حسيّة، أو أنواءٌ معيشية، أو أمراضٌ وعللٌ اجتماعية – نتلمَّس الشفاء لكل ذلك في الخيرات الحسيّة التي تنتجها الأرض، والتي يُسوِّى الله عزَّ وجلَّ فيها بين المؤمن وغير المؤمن.
الكل يظنُّ أن حلَّ كل هذه المشاكل بالماديات وبالمال وبالخير، ولذلك نطلب فيه المساعدات، ونمد الأيدي حتى لأهل الشقاء، حتى أعداء دين الله، نَمُدُّ أيدينا إليهم طالبين المال، ونظن أن المال هو الذي سيصلح الأحوال.
بينما نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وقرآننا وأحوال مجتمعاتنا الإسلامية – التي كانت نماذج مضيئة لكل البرية – ما الذي أصلح أحوالهم؟ الأدوية القرآنية المعنوية … فإن الله عزَّ وجلَّ لو ملَّك لكل رجلٍ منا ما يحتاج إليه ويزيد ويفيض، بل ما يطلبه من المال، وترك في الصدور داء الطمع والحرص، فهل ستُحَل المشكلات؟ إن الذي فيه مرض الطمع يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ} (البخاري والترمذي وأحمد عن أنس).
وكما نرى وكما نشاهد أن جامعي الأموال هم أحرص الناس كما قال الواحد المتعال على الحياة: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [96البقرة]. كلَّما زاد معه المال كلَّما زاد حرصه، وكلَّما نما طمعه، وكل مشكلات الوجود – إن كانت فردية، أو أسرية، أو اجتماعية – في أي زمان ومكان، تجد أن السبب الذي وراءها، وحصلت المشاكل بسببه، هو المال!! حتى وصل الأمر – كما نحن الآن – إلى أن الأخ يهجر أخاه، بل وربما يهجره بسبب المال، وفتنة المال هي التي حذرنا منها الواحد المتعال عزَّ وجلَّ، والمال فتنة فقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [15التغابن]، تفتن الإنسان، وتجعله مشغولاً عن حضرة الذي خلقه وأبدعه وسوّاه، وهو الله جلّ في عُلاه.
إذاً ما الذي يحلُّ هذه المشكلات؟ الأدوية القرآنية التي مَزَجَهَا الحبيب صلى الله عليه وسلم وخلطها بسنته البَهِيَّة، وركَّب منها أدوية وأشفية عالجتْ كلَّ أمراض النفوس الإنسانية – في زمانه وإلى يوم الدين.
نأخذ دواءً واحداً منها وهو الحُبّ … من أين نشترى الحُبّ الآن؟!! هل توجد في الصيدليات كبسولاتٌ للحُبِّ؟ أو شرابٌ للحُبِّ؟ هل يوجد في المتاجر؟ أو هل تصنعه المصانع؟ هل يوجد هذا الدواء في عالم الأغنياء – في أوروبا أو أمريكا أو اليابان وما غيرها؟!! لا .. لأنهم سيطر عليهم حُبُّ الدنيا، وأصبح كلُّ همِّهم الدنيا وما يُوصِّل إليها وما يجعلها لهم.
وجد النبي صلى الله عليه وسلم أن خلاص النفوس، وراحة المجتمعات، والقضاء على كل المشكلات، أن الناس تتحاب فيما بينها، يُحبون الله، ثم يُحبون نبيَّ الله، ثم يحبُّون كتاب الله، ثم يحبُّون بعضَهُم بعضاً في الله جلّ في عُلاه .. هذا الحب هو الذي يحلّ كل المشكلات، وقد رأينا وسمعنا كيف حلَّ هذا الحب المشكلات على الطبيعة.
هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وغيرها إلى المدينة، وتركوا وراءهم أموالهم ودورهم وتجاراتِهم وكل ممتلكاتهم، وذهبوا إلى المدينة معتمدين على ربِّهم، ولا يملكون من حطام الدنيا لا قليل ولا كثير، ماذا فعل أهل المدينة الذين انشرحت صدورهم للإسلام، وامتلأت قلوبهم بالحُبِّ الخالص لحضرة الرحمن عزَّ وجلَّ؟
وَسَعُوهم بصدورهم، ففتحوا لهم بيوتَهم، واقتسموا معهم أموالهم، وشاركوهم في أرزاقهم بسخاوة نفسٍ وبسلامة طبع، لا عن ضيقٍ، ولا عن حياء، ولا عن تعسُّف، بل إنما بمحبَّة!! حتى قيل: أن الرجل المهاجر كان يأتي إلى المدينة فيأتي خمسون رجلاً من الأنصار، وكل رجلٍ منهم يريد أن يحصل على هذه الغنيمة، ولا يرى أن ذلك غرامة، بل يراها غنيمة للحُبِّ الذي في القلوب وفي الصدور، وكل واحد منهم يريد أن يظفر به، حتى كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يُجرى قرعة بينهم – بين الخمسين رجلاً أو يزيد – ليخرج رجلٌ منهم ظافراً بالغنيمة.
وما الغنيمة؟ رجلٌ مهاجرٌ – طريد شريد – يأخذه إلى بيته، يقتسم معه ماله، ويُنصِّف معه بيته. لماذا هذا كله؟!! رغبة فيما عند الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [9الحشر]. الإيثار الذي نتج عن هذا الحبِّ لله وللنبيِّ المختار صلى الله عليه وسلم.
هذا الحب الذي جعل حضرة النبي صلى الله عليه وسلم له مقياساً وترمومتراً في قلوب الصادقين. متى يكون الإيمان الذي يستوجب رضا ومحبَّة ربِّ العالمين في قلب المؤمن؟ إذا كان – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} (البخاري ومسلم وسنن الترمذي).
إذا كان المؤمن يُحِبُّ لإخوانه المؤمنين – من المال ومن الأولاد، ومن الجاه ومن الخيرات، ومن الأرزاق ومن البركات – ما يُحب لنفسه، فهذا دليلٌ وبرهانٌ على صدق الإيمان في قلبه لحضرة الرحمن عزَّ وجلَّ. أما إذا كان يُحِبُّ نفسه أكثر من غيره، ويريد أن يستأثر بالخيرات، ويكون له أعظم غنيمة من الأموال والعطاءات دون إخوانه المؤمنين، يكون في هذا الوقت محتاجاً إلى تجديد، وإلى فيتامينات قرآنية، وإلى كبسولات نبوية ليقوى هذا الإيمان، حتى يصل إلى درجة الإيمان الذي أثنى عليه الرحمن، والذي وصفه النبيُّ العدنان صلى الله عليه وسلم.
نحن نحتاج في هذا الزمان إلى هذا الدواء القرآني، وهو الحب!! نُحِبُّ بعضنا، وخاصة أننا علمنا جميعاً أن الدنيا إلى زوال، وكلُّنا مسافرون، كلُّنا قد جربنا السفر، فعندما يركب واحدٌ منا القطار وبجواره أناسٌ غرباء ومعهم طعام وأراد أن يتناول الطعام .. ماذا يصنع؟ ألا يشاركهم في هذا الطعام .. لماذا ؟ لأن الأمر يقتضى ذلك، فهو في سفر، والكل يتعاطف في وقت السفر ويتواد ويتحابب. والدنيا كلها سفر، وكلنا إلى الله مسافرون، وكلنا للدنيا تاركون، ونحتاج من الدنيا إلى ما يبلغنا ما نرجوه عند الله عزَّ وجلَّ. لكنا وكما قال القائل: (هب أنك ملكت الدنيا بأجمعها، ما الذي يكون منها في يدك عند الموت)!! هب أنك عندك كل خيرات الدنيا، ماذا تأكل عند الطعام؟ وفي أيِّ موضع يكون لك المنام؟ أغنى الأغنياء على كم سرير ينام؟ وكم يأكل من الطعام؟ لا يأكل إلا ما يسُدُّ جوعته، ولا ينام إلا على قدر ما يمدّ جسده على هذا الثرى أو على هذا التراب.
فيكون الإنسان المؤمن إيمانه بالله، وحبّه لإخوانه المؤمنين، ورغبته في أن يفوز برضاء ربِّ العالمين، يجعله لا يفرح إلا بإخوانه، ولا يسعد بالقرب إلا من جيرانه، ولا يهمُّه إلا صلة أرحامه، لأنه يعلم أن هذا الذي حثّ عليه الدين .. والدنيا كلها – بما فيها ومن فيها – لن ينال المرء منها إلاَّ ما قدّره له ربُّ العالمين عزَّ وجلَّ، قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا} (ابن ماجة وابن حبان عن جابر رضي الله عنه).
ولذلك نحن نحتاج إلى تجديد الأحوال الإيمانية، فنعود مرة ثانية ونُحبِّب أولادنا وبناتنا في الله، وفي كتاب الله، وفي رسول الله، وفي المؤمنين، حتى ينشأوا على الحبِّ، فإذا نشأوا على الحبِّ فكل شيءٍ من مشاكل الدنيا ينتهي باللطف والود، ولن تحدث مشكلات، ولن تكون هناك معضلات، قال صلى الله عليه وسلم: {أدِّبُوا أوْلادَكُمْ علـى ثلاثِ خِصالٍ: حُبِّ نَبِـيِّكُمْ، وَحُبِّ أهْلَ بَـيْتِهِ، وقِراءَةِ القُرآنِ، فـإِنَّ حَمَلَةَ القُرآنِ فـي ظِلِّ الله يَوْمَ القِـيامَةِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ مَعَ أنْبِـيائِهِ وأصْفِـيائِهِ} (ابنُ النـجار عن علـي).
طالبنا صلى الله عليه وسلم أن نُربِّى الأولاد على هذا الحُبِّ: فإذا تربوا على هذا الحُبِّ فكل مشكلات تواجههم ستنتهي في لحظات، ولن يحدث بينهم خلاف على الإطلاق، لا يحتاجون إلى محاكم، ولا إلى قضاء، ولا إلى محاماة، لأن كل واحد منهم يحرص دائماً وأبداً على أن يُسعد أخاه، وأن يعمل بقول حبيب الله ومصطفاه: {لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} (البخاري ومسلم وسنن الترمذي).
وعندنا غير ذلك مثل: دواء المودَّة والتهادي: {تَهَادَوْا تَحَابُّوا} (البيهقي عن أبى هريرة)، وعندنا دواء السلام: { لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ } (صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة). وعندنا دواء صلة الأرحام، وعندنا دواء إتقان العمل لوجه الله, وعندنا دواء الإخلاص لله في الحركات والسكنات.
هذه الأدوية القرآنية هي الحلّ لكل المشاكل والمعضلات التي نحن فيها الآن، لكن للأسف أهل بلدنا المسلمون نظروا إلى الغرب، ولا يأتي من الغرب شيءٌ يسُرّ القلب. نظروا إلى ما هم عليه من زينة الدنيا ومفاسدها، ويريدون أن ينافسوهم في هذه الأمور، وهذا هو الذي حذّرنا منه صلى الله عليه وسلم فقال: {أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا قَبْلَكُمْ} (البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن عمرو بن عوف الأنصاري).
ما الذي يحصل؟ القطيعة .. والخلافات .. والمشـاكل .. والمعـــارك .. وقطع الطريق .. والسرقات والبلطجة .. كل هذا ما سببه؟ التنافس في الدنيا !!
والمؤمن يجب أن يتنافس في عمل الآخرة، وفيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، وفي متابعة حبيب الله ومصطفاه، وهذا لا يكون إلا بعد الحب في الله ولله، قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ أَوْثَق عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ} (مسند الإمام أحمد عن البراء بن عازب).
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يملأ قلوبنا حبًّا في حضرته، وأن يجعلنا من خيار أحبابه المتبعين لخير نبيٍّ، وأن يرزقنا الحُبَّ لبعضنا، والحُبَّ لكتاب ربِّنا، والحب للمسلمين أجمعين، وأن يجعلنا في كل وقت وحين من الذين يسارعون في الخيرات، وينافسون في الطاعات، ويبذلون كُلَّ ما في وسعهم لنيل القربات ورفعة الدرجات عند رفيع الدرجات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمّ
***************
درس جرجا سوهاج 9/3/2012م الموافق 16 ربيع ثاني 1433هـ