الحمد لله ربِّ العالمين، سطع بنور وجه حبيبه صلى الله عليه وسلَّم على العالمين، وتوَّجه بنبوته وجعله إماماً وسيداً للخلق أجمعين، وجعله بعد كمال خلقه وأخلاقه وعلمه ونوره أُسوةً طيبةً للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ ظهر بأسمائه العليَّة، وصفاته الربانية للأمة الإسلامية، لينهجوا على أخلاق الله، ويتصفوا بالأوصاف الكاملة التي دعاهم إليها كتاب الله، حتى يكونوا كما قال عنهم سبحانه في قرآنه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله) (110آل عمران).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أرسله الله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به بعد ضلالة، وعلَّم به بعد جهالة، وأعزَّ به بعد ذلَّة، وجمع به بعد فُرقة، وجعل به العرب خير أمة بهذا الدين، وسخَّر المُلك والملكوت، وجعل رسالة الإسلام هي الرسالة العالية في الأرض وفي السماء، بفضلٍ ومنٍّ مِنْ الله عزَّ وجلَّ على يد رسوله وحبيبه ومصطفاه.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، مشكاة الأنوار، ومصباح الأسرار، الذي أضاء الله عزَّ وجلَّ به قلوب الأخيار، وجعل كتابه هو المهيمن على الكتب السماوية الجامعة المانعة، وجعله خير كتابٍ وخير كلامٍ لأهل الأرض جمعاء. صلَّى الله عليه وعلى آله المصطفين، وأحبابه الذين كانوا له مؤيدين ومعينين، وأتباعه الذين يستمسكون بالعمل بهديه وشرعه الذي جاء به من عند رب العالمين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين:
نظر الله عزَّ وجلَّ بذاته العلية، وصفاته الإلهية، إلى المشكلات التي تعُجُّ بها البشرية، في عصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم وإلى آخر الزمان، فوجدها كلها مشكلات متشابهة، والحل الجامع لكل المشكلات – إن كانت مشكلاتٍ إجتماعية، أو مشكلاتٍ أُسرية، أو مشكلاتٍ دولية، أو مشكلاتٍ إقتصادية، وجد حلَّ هذه المشكلات فحلَّه عملياً على هذا النبي الكريم، وجعل هذا الحل هو الصالح لكل زمانٍ ومكان لمشكلات بني الإنسان.
وجد الله عزَّ وجلَّ – وهو الحكيم العليم – أن معظم مشكلات البشر سببها فساد الأخلاق، وسوء التعاملات، والظُلم الكامن في النفوس، والرغبة الجامحة إلى الأثرة والأنانية، والإستئثار للأشياء، وحرمان الفرد من فضل الله ونعم الله جلَّ في علاه، ووجد أنه لا علاج لكل هذه المشكلات إلا بالأخلاق الكريمة، والأساليب القويمة، والنعوت العظيمة، التي ينبغي على أهل كل زمان أن يتخلقوا فيما بينهم بها.
فإذا تخلقوا بهذه الأخلاق الإلهية، واتصفوا بهذه النعوت القرآنية، طهُرت النفوس، وذهب الشُّح، وذهبت الأثرة والأنانية، وأصبح كل رجلٍ منهم يسعى في مصلحة إخوانه وجماعته، فحُلَّتْ جميع المشكلات فوراً.
فأخذ الله عزَّ وجلَّ حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم وجعله النموذج القويم للخلق أجمعين، وقال لنا في شأنه صلى الله عليه وسلَّم: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (45النور)، إذا أطعتموه إهتديتم إلى كل الحلول لكل المشكلات في الدنيا، وفُزتم بالسعادة العُظمى في الآخرة. فأخذ يُنزِّل على حبيبه ومصطفاه دروساً من كتاب الله، خصَّ بها هذا النبي وأمته، وأمره أن يتخلق بها بين أحبابه وأتباعه أجمعين.
فمرةً يقول له كما استمعنا قبل الصلاة: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (9: 11الضحى). فلما أتمَّ هذا الدرس واستوصى باليتيم، واستوصى بالفقراء واستوصى بالسائلين، حتى جعل صلى الله عليه وسلَّم هذه الأعمال عبادات تُبلِّغ أعلى الدرجات، فبيَّن أن مَنْ معه في الجنة مَنْ قاموا بهذه العبادات!!، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (أنا وأمرأة سفعاء الخدين تأيمت على أولادها – أى لم تتزوج – حتى ربتهم، كهذين)[1]. وأشار إلى هذين الأصبعين – في الجنة إن شاء الله. وأمر بالسائل، وجعل للإنسان إذا اتقى النار ولو بشق تمرة أن يجيره الله من النار، وأن يجعله الله عزَّ وجلَّ في الجنة في عِداد الأبرار.
حتى قال صلى الله عليه وسلَّم في أهل الدرجات العُلى في الجنة: (إن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. قيل: لمن هي يا رسول الله؟، قال: لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وألقى السلام، وصلى بالليل والناس نيام)[2]. وجعل آخرها عبادة نفلية وهي الصلاة بالليل، ويتقدم هذه العبادات القُرَبية وأولها إلانة الكلام، وثانيها إطعام الطعام للفقراء والمساكين.
ثم نقله الله عزَّ وجلَّ إلى درسٍ آخر – نحن في أمَّس الحاجة إليه أجمعين – فقال له في التعامل مع الآخرين – ولا غنى لنا في التعامل مع الجيران – أو مع أهل بلده، أو مع الخلق جميعاً، كيف يتعامل معهم؟ قال الله له ولنا في شأنه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (199الأعراف).
أن يتعامل مع الخلق بأن يعفو عن مسيئيهم، قال صلى الله عليه وسلَّم مبينا هذه الدروس الإلهية: (أوصاني ربي بتسع أوصيكم بهنَّ: أن أصل من قطعني، وأن أُعطي من حرمني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكرا ونُطقي ذكرا ونظري عبرة)[3].
بالله عليكم، لو اتصفنا بهذه الأخلاق النبوية الإلهية هل سيُوجد خلافٌ واحدٌ بين فردين من أفراد البشرية؟!!، كلا والله أبداً. ستنتهي الخلافات، وسينتهي كل شقاق وسيأتي الوفاق، وسنكون جميعاً – جماعة المؤمنين – كما مدحنا وأثنى علينا الكريم الخلاق فقال في قرآنه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (47الحجر).
خلَّقه الله عزَّ وجلَّ بهذه الأخلاق الإلهية، وذكرها ليُذكِّرنا بها في الآيات القرآنية، ولذلك عندما سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلَّم، قالت للسائل: (أوما تقرأ القرآن؟!!، كان خُلقه القرآن)[4]. وعندما تعجَّب من حوله من هذه الأخلاق، وهذه الكيفيىة التي كرَّمه بها الخلاق، قال أبو بكر رضي الله عنه: {يا رسول الله لقد طُفت قبائل العرب، وذهبت إلى قيصر في ملكه، وإلى النجاشي في ملكه، وإلى كسرى في ملكه، فلم أرَ مثل أدبك، فمن أدَّبك؟، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)[5]}.
جعله الله عزَّ وجلَّ على هذا المثال القويم، حتى إذا تخلَّق بكل الأخلاق الإلهية، وكان مثالاً نموذجاً لكل الأوصاف الصادقة الصالحة القرآنية، أعطاه الله عزَّ وجلَّ وسام الأخلاق الإلهية العلية وقال لنا في شأنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4القلم).أمرنا جميعاً – جماعة المؤمنين – أن لا نأخذ الأخلاق إلا من حضرته، ولا نتأدب إلا بالأدب الذي رباه عليه مولاه. نستورد من الغرب ومن الشرق المصنوعات التي تطابق شرع الله، ونستجلب من عندهم المخترعات التي تنفعنا في حياتنا إذا كانت لا تخالف شرع الله، لكن لا نأخذ منهم الأخلاق، فإن أخلاقهم أخلاق الفجَّار والفُسَّاق، وإنما نأخذ الأخلاق الكريمة من هذا السيد العظيم الذي قال لنا الله عزَّ وجلَّ فيه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (21الأحزاب)، ولكم أي جميعاً، كل المسلمين من زمانه إلى قيام الساعة.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، أُسوة: يعني قدوة، تقتدون به، وتمشون على هديه، وتتخلقوا بأخلاقه حتى تفوزوا بحل مشاكل الدنيا كلها، والسعادة العُظمى يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌلِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا)، أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن لا نأخذ الأخلاق إلا من كتاب الله، وهي في كتاب الله نظرية، ولكن التطبيق العملي في أفعال وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، التي يعجز المجال عن ذكر بعضها.
أمره كتاب الله بالعفو: (خُذِ الْعَفْوَ) (199الأعراف). كيف نأخذ هذا العفو؟ ننظر إلى عفو الحبيب الذي ليس له مثال في الأولين ولا في الآخرين. يدخل على قومٍ آذوه، وأخرجوه من بلده، واستولوا على أموال أصحابه ودورهم، وألَّبوا عليه العرب أجمعين، ويدخل عليهم فاتحاً بتأييد الله ونصر الله عزَّ وجلَّ، ثم يقف على باب الكعبة بعد أن استمعوا له في صحن الكعبة ويقول لهم: (يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟، قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم – وكانوا متأكدين أن رقابهم ستُقطع أجمعين، للجنايات التي لا تُعد ولا تحصى التي ارتكبوها في حقِّه صلى الله عليه وسلَّم وفي حقِّ أصحابه المباركين – ولكنه تأدباً بما أدَّبه مولاه: (خُذِ الْعَفْوَ) (199الأعراف). قال لهم: {لا أقول لكم إلا كما قال أخي يوسف لإخوته: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (92يوسف). إذهبوا فأنتم الطلقاء}[6].
أطلقهم بعد أن تمكَّن من رقابهم، لأن الله أمره بالعفو، هكذا نتعلم العفو من رسول الله، لننفذ العفو الذي أمر به الله في كتاب الله.
ومرةً أُخرى كان في غزوة مع أصحابه المباركين، وجاء وقت الظهيرة ونزلوا للإستراحة، واختار صلى الله عليه وسلَّم شجرةً يستظل تحت ظلها، وكانت السماء قد أمطرت وتبللت ثيابه بالماء، ولم يكن معه حُرَّاس ولا خدمٌ ولا حشم، فخلع ثيابه ونشرها على فروع الشجرة، وعلَّق سيفه في غُصنٍ من أغصان الشجرة، ونام تحت الشجرة، وليس له حرَّاسٌ ولا بوَّابٌ ولا خادمٌ صلوات ربي وتسليماته عليه، لا على سرير ولا على طنافس من حرير وإنما افترش الأرض والتحف السماء، وإذا برجلٍ من الأعداء كان على قمة الجبل فنظر فقال: هذا محمدٌ وحيداً، والجيش انصرفوا إلى خيامهم، أنتهز هذه الفُرصة وأنزل عليه لأقضي عليه وأريح العرب جميعاً منه – وهذا في ظنِّه ووهمه.
فنزل الرجل إلى حيث حضرة النبي ولم يلحظه أحد، لأن الكل كان منهكاً ومتعباً وأستراحوا، وأمسك بسيف النبي – لكن العرب في هذا الوقت رغم جاهليتهم لم يكن عندهم خيانة، وكانوا إذا أرادوا أن يقتلوا لابد أن يكون القتل مواجةً، ويعيبون الغادر الذي يأخذ أخاه على غِرَّة – فأمسك بالسيف، ثم أيقظ النبي وقال: يا محمد من يمنعك مني الآن؟، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (الله)، فاهتزت أعضاؤه، وسقط السيف من يده، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلَّم سيفه بيده وقال له: (ومن يمنعك مني الآن؟، قال: عفوك وحلمك، قال: عفوتُ عنك)[7]. فعاد إلى قومه وقال: يا قوم لقد جئتكم من عند أحلم الناس وأعفى الناس.
من الذي يتمكن من قاتله ولا يؤذيه ولا يقتله؟!!، إلا صاحب الخُلق العظيم والوصف الكريم الذي استجاب للرب في القرآن الكريم في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (199الأعراف).
وهكذا أيها الأحبة جماعة المؤمنين: كل مشاكلنا في هذا الزمان – إن كانت فردية أو جماعية تحتاج إلى مراجعةٍ منا للآيات القرآنية، التي توجهنا إلى الأخلاق الإلهية، نقف عندها ونتفهمَّها ونتثبَّتُ منها، ثم نذهب إلى سيرة النبي وننظر إلى التطبيق العملي.
فهذه الأخلاق النبوية إذا فعلنا ذلك فإن الله عزَّ وجلَّ سينظر إلينا نظر عطفٍ وحنان، يُبدِّل حالنا إلى أحسن حال، ويجعلنا أعلى الناس قدراً، وأرفع الناس شأناً، وأعزُّ الناس عِزَّا في هذه الدنيا الدنية، لأن الله وعد بذلك في قوله: (وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (8المنافقون).
قال صلى الله عليه وسلَّم ما معناه: (إن الله يحب من خلقه من كان على خُلقه). وقال صلى الله عليه وسلَّم: (إن لله مائة خُلقٍ من تخلَّق بواحدٍ منها أدخله الله الجنة)[8]. وقال صلى الله عليه وسلَّم: (التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)[9]. أو كما قال: أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أغنانا بفضله عن العالمين، وجعلنا بخيره وبرِّه وبركته أغنياء بالله عزَّ وجلَّ في كل وقتٍ وحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعزُّ من أطاعه واتبَّع هداه ولو كان عبداً حبشياً، ويُذل من خالف هديه ومشى على هواه ولو كان شريفاً قرشياً. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، السيد الذي ساد الوجود بأخلاقه:
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلقٍ فلم يدانوه في عـلـــمٍ ولا كــــــــــرمٍ
فهو الذي تمَّ معنـــاه وصـــــــورته ثم اصطفــــــــاه حبيباً بارئُ النسم
فمبلغ العلم فيه أنه بشــــــــــــــــرٌ وأنه خير خلق الله كلهـــــــــــــــــــــــــــم
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله الرحماء، وأصحابه الوجهاء، وكل من تبعهم على هذا الهدي الكريم إلى يوم العرض والجزاء، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا رب العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين: ذهب حُسن الخُلق بصلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فكل أمرٍ يفعله الإنسان في دنياه مهما جدَّ واجتهد في طاعة الله، إذا لم يكن معه خُلقٌ حسنٌ بين عباد الله، فهو غير مقبول عند المولى تبارك وتعالى.
قيل يا رسول الله: إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: (لا خير فيها هي في النار)[10]. فالطاعة لله عزَّ وجلَّ في الدنيا لا تنفع ولا تُرفع إلا إذا كان صاحبها بين الناس بالخُلق الحسن الذي أمر به الله ووجَّه إليه حبيب الله ومصطفاه.
سئُل النبي صلى الله عليه وسلَّم عن المسلم، فاسمعوا معي إلى حضرته وهو يبين هيئة المسلم فيقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)[11].
لم يقل المسلم مَنْ يصلي لأن هذا فرضٌ فرضه عليه الله، ولا مَنْ يصوم لأنه فرضٌ فرضه عليه مولاه، لكن مع الصلاة والصيام والعبادات التي أمره بها الله قبولها يستوجب أن يكون لسانه حسنٌ مع خلق الله، وأن لا يصدر منه أيُّ إيذاء لواحدٍ من البشر، لأن الله قال عن المؤمنين: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (24الحج).
ولذلك يعجب المرء عندما يمشي في بلدةٍ مسلمة ويسمع من يسبُّ هذا ويلعن هذا ويشتم هذا ويقبِّح هذا!!، وهذا لا يكون في أي مسلمٍ ولو كان مبتدئاً في دين الله عزَّ وجلَّ، لأن شرط الإسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وجعل نبينا صلى الله عليه وسلَّم الدرجات العُلى في الآخرة، لا تكون إلا بمكارم الأخلاق، من أراد أن يُثقل ميزان حسناته فماذا يصنع؟، نسأل الخبير صلى الله عليه وسلَّم فيقول: (تجدون أثقل شيء في موازينكم يوم القيامة خُلقٌ حسن)[12]. ومن أراد أن يكون معه في درجته في الآخرة وفي جنة النعيم، ماذا يفعل؟ قال صلى الله عليه وسلَّم مبيناً ذلك: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)[13].
لو استوعب المسلمون هذه الدروس العظيمة لكانت حياتنا في الدنيا بيننا حياةً قويمة. مجتمع المسلمين ينبغي أن لا نسمع فيه لا سبًّا ولا شتماً، ولا لعناً ولا فُحشاً، ولا كذباً ولا غيبةً ولا نميمة، كأنه مجتمع الجنة!!، وكأنه المعني بقول الله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) (11الغاشية). ليس بينهم لا لغوٌ ولا كذبٌ، ولا زورٌ ولا فجور. إذا حدث هذا فمن تأتي المشاكل؟!!، ومن أين تنشأ الخلافات؟!!، ومن أين يتوجَّه المتوجهون إلى المحاكم؟!!، وقد وُصدت أبوابها بأخلاق المؤمنين الذين اقتدوا بسيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلَّم.
فعلينا في هذه الأيام الكريمة أيام ميلاد حضرة المختار أن نتدارس أخلاقه الكريمة، وأن نحاول إستيعابها، وأن نحاول أن نطبقها في حياتنا، وياحبذا لو غرسناها في نفوس أبنائنا، فهم الثمرة المرجوة عند الله، فينشأوا صادقين لا كاذبين، ويكونوا على أخلاق سيد الأولين والآخرين، فيُعزُّهم الله في الدنيا، وينفعنا بهم ويرفعهم في الآخرة أجمعين.
نسأل الله عز وجل أن يُجملنا بمكارم الأخلاق، وأن يرزقنا أجمعين الوفاق والإتفاق، وحُسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلَّم في كل الأحوال.
اللهم اجعل القرآن العظيم نور قلوبنا، وربيع صدورنا، وجلاء حزننا، وذهاب همِّنا وغمِّنا، وأنيساً لنا في قبورنا، وشفيعاً لنا في حشرنا، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
اللهم تُب على العصاة من أمة الإسلام أجمعين، ورُدُّهم إلى حضرتك سالمين غانمين، ووفق المسلمين أجمعين للتخلق بأخلاق خير النبيين، وأحيي بنا شرعك الأمين، واجعلنا من الذين يستمعون القرآن فيتبعون أحسنه، يا خير الناصرين.
اللهم وفق ولاة أمورنا للعمل بشريعتك، ولتنفيذ سنة خير بريتك، واجمع عليهم البطانة الصالحة، واحفظهم من البطانة السيئة يا أكرم الأكرمين.
اللهم أهلك الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، يا رب العالمين.
اللهم أطفئ نار الحروب المشتعلة في بلدان المسلمين، اللهم حُلَّ مشاكل إخواننا في سوريا وفي العراق، وفي ليبيا والصومال، وفي كل مكان، واجعل المسلمين سالمين محفوظين بحفظك من المكر والدهاء من الأعداء أجمعين، يا رب العالمين.
[3] رواه رزين بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصاني ربي بسبع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وإن أعفو عمّن ظلمني، وأُعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون: صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عِبَراً).
[4] روى مسلم من حديث سعد بن هشام بن عامر حين قدم المدينة، وأتى عائشة رضي الله عنها يسألها عن بعض المسائل فقال: (فَقُلتُ: يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ، أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَت: أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟، قُلتُ: بَلَى، قَالَت: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ.قَالَ : فَهَمَمْتُ أَن أَقُومَ وَلَا أَسأَلَ أَحَدًا عَن شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ … الخ ).
[5] رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء عن عبد الله بن مسعود. وروى السرقسطي في الدلائل عن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال: {قال رجل: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: “نعم, إذا كان ملفجًا”. فقال له أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك، وما قلت له؟ قال: “قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له: نعم, إذا كان مفلسًا”, قال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم, فما سمعت أفصح منك، قال: “أدبني ربي ونشأت في بني سعد}.
[6]روى البيهقي في (السنن الكبرى)، وفي (دلائل النبوة)، وعند ابن أبي الدنيا في (كتاب العفو) و (كتاب ذم الغضب)، وكذا عند ابن الجوزي في ( الوفا ) – كما في (إتحاف السادة المتقين) للزبيديمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: {ما تقولون وما تظنون؟، قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم، حليم، رحيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقول كما قال يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).قال: فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام}.
[8] أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث أنس مَرْفُوعا عَن الله: (خلقت بضعَة عشر وثلاثمائة خلق من جَاءَ بِخلق مِنْهَا مَعَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
[9]روى البيهقي: (الـتـائـب مـن الذنـب كمن لا ذنب له ، واالـمـسـتـغـفـر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه)
[10] روى أحمد والبزار عن أبي هريرة قال: {قال رجل: يا رسول الله، ان فلانة فذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: (هي في النار). قال: يا رسول الله، فان فلانة فذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تصدق بالاثوار من الاقط ولا تؤذي بلسانها جيرانها. قال: (هي في الجنة)}.
[11] صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
[13] روى الطبراني في “الأوسط” والخطيب في “تاريخ بغداد” وابن عدي في “الكامل” وابن أبي الدنيا في “الصمت” عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرآء العنت).
خطبة الجمعة بمسجد الرحمن بشبلنجة بنها 25/12/2015 موافق 14 ربيع أول 1437