• Sunrise At: 4:53 AM
  • Sunset At: 6:57 PM

Sermon Details

10 ديسمبر 2010م

حسن التوكل على الله (خطبة الجمعة)

فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد

شارك الموضوع لمن تحب

الحمد لله رب العالمين، أعزَّ جنده، ونصر نبيَّه ورسوله وعبده، وهزم الأحزاب وحده. سبحانه .. سبحانه، من توكَّل عليه كفاه، ومن افتقر إليه أغناه، ومن استمدَّ منه الحول والطول قوَّاه، ومن اكتفى به كفاه جميع من عاداه ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [3الطلاق].

وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، بيده الملك، وبيده الملكوت، وبيده الضرُّ، وبيده النفع، وبيده الموت والحياة وإليه النشور. وأشهد أن سيِّدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، النَّبِيُّ التَّقيُّ النَّقيّ، الذي أغناه مولاه به عمَّن سواه، وجعل النصر حليفه أينما تحرك وحيثما سار، بل إنه عزَّ وجلَّ جعل خاتم نبوته شعرات مكتوبة بمداد القدرة – في ظهره في الناحية اليسرى مقابل قلبه – مكتوب عليها: (توَّجه حيث شئت فإنك منصور).

اللهم صلِّى وسلم وبارك على سيِّدنا محمد الذي نصره الله على كلِّ من عداه، وقوَّاه وقوَّى به كل من آمن به ووالاه، وجعله حجَُّة على الناس أجمعين بإقامة شعائر الله. صلِّى الله عليه وعلى آله الذين آووه ونصروه، وأصحابه الذين تابعوه وأعانوه، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وآل بيته الطيِّبين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

أما بعد .. فيا أيها الأخوة المؤمنون:

ونحن في بداية عام هجريٍّ جديد – نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعله عام نصر وتمكين، وخير وفتح لنا وللمسلمين أجمعين، وأن يمكننا فيه من نواصي اليهود والكافرين، وأن يُعلي راية (لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله)، ويذل الشرك ومن عاونه ووالاه، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

أحداث الهجرة لنا فيها عِبر لا تُعد ولا تُحصى، لأنها من القصص الإلهي الذي يقول فيه الله عزَّ وجلَّ في قرآنه الكريم عن النبيين والمرسلين في: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾. [111يوسف]. وسنأخذ اليوم – حتى لا نطيل عليكم – عبرةً واحدةً من حادثة الهجرة، عبرة نافعة لنا ولإخواننا المسلمين أجمعين.

إن الله عزَّ وجلَّ كان – قبل الهجرة بعام – أخذ حبيبه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، أخذه من مكة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السموات العلى سماء تلو سماء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: {بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وعرض كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام} (تهذيب سنن أبي داود، والأسماء والصفات للبيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). اجتاز كل هذه السموات ودخل الجنات، وذهب إلى العرش، ثم تجاوز العرش إلى قاب قوسين أو أدنى، ورجع وفراشه الذي كان ينام عليه لم يبرد بعد!!.

رب العزة عزَّ وجلَّ الذي فعل معه ذلك، لماذا جعله يخرج والقوم يتربصون به؟!! ويختبأ في الغار ثلاثة أيام؟!! ثم يسلك طريقاً غير الطريق الذي يمشى فيه سائر الأنام؟!! وتستمر الهجرة من مكة إلى المدينة لمدة أسبوع على التمام؟!! ليوضح لنا الله عزَّ وجلَّ أجمعين – ونحن أمة الإجابة، آمنا بالله وصدقنا برسول الله، وفوضنا أمورنا كلها إلى حضرة الله، وتوكَّلنا في كل أحوالنا وأعمالنا على الله – فالله عزَّ وجلَّ يضرب لنا المثل في حبيبه ومصطفاه أن من اعتمد على الله كفاه مولاه كلَّ همٍّ وكلَّ غمّ، وفرَّج الله عنه كل الشِّدَّات والكُرُبَات، كما فعل – تماماً بتمام – مع الحبيب المصطفي عليه أفضل الصلاة والسلام.

وانتبه معي إلى قول الله عزَّ وجلَّ  – لنا وللمعاصرين للنبي الأمين، من عاونوه، ومن تخلوا عنه، ومن حاربوه، ومن آذوه – يخاطب الكلَّ فيقول: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾ [40التوبة]. لم يقل الله عزَّ وجلَّ: (فقد ينصره الله)، فقد ينصره .. أي أن النصر سيأتي في المستقبل، لكن الله أخبر في كتابه – وكتابه قبل القَبْلِ – أنه نصر حبيبه قبل خلق الخلق، قبل إيجاد الأكوان، وقبل إيجاد أي شيء في عالم الدنيا!! جعل الله عزَّ وجلَّ حبيبه صلى الله عليه وسلم منصوراً أينما حلَّ، وأينما ذهب، وحيثما كان.

نصره الله عزَّ وجلَّ فكفاه شرَّ أعدائه، فخرج من بينهم وهم متربصون بالبيت، ويترقبون خروجه، وأخذ الله أبصارهم فلم يرونه!! وكان يتحدث بعضهم مع البعض فيقول: إن محمداً يزعم أن من أتبعه سيكون لنا جنان – أي حدائق وبساتين – كجنان الأردن والعراق!! فقال: نعم أنا أقول ذلك، لكن الله أخذ أسماعهم فلم يسمعون!! ﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ (9يس). وزاد الحبيب صلى الله عليه وسلم في غيظهم فأخذ حفنة من التراب ومرَّ على جميعهم ووضع على رأس كلٍّ واحد منهم حفنة من هذا التراب، لكن الله أخذ إحساسهم كما أخذ سمعهم وأبصارهم، فلم يحسوا بوقع التراب على رؤوسهم!!

وذهب النبي صلى الله عليه وسلم وتكفَّل الله بحمايته – حماه في الغار، وحماه عندما خرج من الغار وهو سائر في الطريق إلى الأنصار – وجعل من جملة جنده الذين يؤيدونه ويدفعون عنه الأرض، فقال له الأمين جبريل: الأرض طوع أمرك فمُرْهَا بما شئت. فمن لحقه منهم قال للأرض: خذيه، فانشقت وأخذته، فلما استغاث به قال لها: دعيه، فتركته، فلما عاود ما في ذهنه قال لها: خُذيه، فأخذته، وتكرر الأمر منه إلى الأرض ثلاث مرات، وهي لا تعصى له أمراً!! لأن الله عزَّ وجلَّ أمرها أن تكون طوع أمره.

ثم تاب هذا الرجل من فعله، وجعله الله عزَّ وجلَّ جنديًّا يدافع عن النَّبِيِّ!!! فذهب إلى قومِهِ وعَمَّى عنهم الطريق الذي سلكه النبيّ، وكلما سألوه عن الطريق الذي سار فيه يقول لهم: (أنا مشيت في هذا الطريق ولم أجد فيه أحداً فاذهبوا إلى غيره)!! فكانت عناية الله عزَّ وجلَّ معه أينما حلَّ وكيفما سار:

وقايــةُ اللهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَـاعَفَةٍ          مِنْ الدُّرُوعِ وَعَنْ عَالِ مِنْ الأُطَمِ

فالصدق في الغار والصديق لم يَرِمَا          وهـم يقولون ما بالغار من إِرَمِ

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على          خير البرية لم تنســج ولم تَحُمِ

حَمَاهُ الله بما علمناه جميعاً، ثم أراد الله عزَّ وجلَّ إعزازه عند دخول المدينة المنورة، فلم يجعله يدخل دخول الخائفين أو الفارِّين، وإنما جعله يدخل دخول الفاتحين!! فانظر معي إلى عناية الله في تجميل نبِّيه وصفيِّه ليدخل المدينة دخول الفاتحين!!

سمعت قبيلة اسمها (أسلم) عن الجائزة التي جهَّزها الكفار لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتاً. فخرج رجل منهم يُسمى (بُريدة الأسلمي) ومعه سبعون رجلاً مدججين بالسلاح يبحثون عن النبي في الطريق الذي سلكه ليظفروا بالجائزة، وبينما هم سائرون إذا بالنبيُّ أمامهم، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن الرجل؟ قال: بُريده، فالتفت إلى أبى بكر وقال: بَرُدَ أمرُك يا أبا بكر!، ثم قال للرجل: مِمَّنْ الرجل؟ أي: من أي قبيلة؟ قال: من أسلم، فالتفت إلى أبى بكر وقال: سَلِمْتَ يا أبا بكر، فقال الرجل: ومَن أنت؟ قال: أنا محمدٌ رسولُ الله.

لم يتنكر ولم يتخفي لأنه يعلم أن الله يؤيده ويعززه وينصره. فشرح الله عزَّ وجلَّ صدر الرجل للإسلام، وشرح الله صدور من معه للإسلام، فدخل السبعون في الإسلام. وقال الرجل: يا رسول الله، أتدخل المدينة هكذا؟!! لا والله لا يكون، فخلع رباط عمامته – الشال الذي يضعه على عمامته – ورَكَزَهُ على رُمحه على هيئة عَلَم، وصفَّ السبعين رجلاً وقسمهم إلى صفين، صف عن اليمين وصف عن اليسار، وقال: يا رسول الله أنا أتقدم أمامكم بالراية، وأنت تمشى في مؤخرة الصفين، ليدخل المدينة صلى الله عليه وسلم دخول الفاتحين ومعه كتيبة جهزها له ربُّ العالمين، ليكون بذلك إعزازاً لحضرته، وتقويةً لإرادته، وعبرة لنا أجمعين، لنتقى الله ونعلم صدق قول ربِّ العالمين: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ . وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [2، 3الطلاق]. وسار النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكتيبة الإلهية.

هل يدخل المدينة بهذه الهيئة!! وثيابه كانت تغيَّرت من أثر السفر؟!

قيَّد الله عزَّ وجلَّ – وهو العزيز أن يُعز نبَّيه – فكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في تجارة في بلاد الشام ووجد ثوباً لا يصلح إلاَّ للملوك، فقال في نفسه: أشترى هذا الثوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه أيضاً في بلاد الشام ورأى ثوباً آخر يضاهي الأول من ثياب الملوك، فقال: أشتريه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا الثوب لا يليق أن يلبسه إلا حضرةُ النَّبِيِّ. وقبل مدخل يثرب بقليل – إذا بعبد الرحمن بن عوف وإذا بالزبير بن العوام ومعهم الثياب المخصصة للملوك – فجاء الاثنان معاً وقالا: يا رسول الله لا تدخل المدينة بهذه الهيئة، ولكن البس هذه الثياب التي لا تليق إلا بالملوك، لأن الله عزَّ وجلَّ يُعزُّك دوماً، وينصرك أبداً على الدوام، فلبس النبَِّيُّ ثياب الملوك، ومشى والجند عن يمينه وعن يساره داخلاً المدينة المنورة.

أين ينزل النبيّ؟ في بيت مَنْ ينزل حضرة النبيّ؟ مَنْ يحظى بهذا الشرف؟

كان الأنصار أجمعون حريصين على هذا الشرف الكبير، فوقف كل رجل منهم أمام داره ينتظر موكب النبيِّ، ويَعزم عليه أن ينزل في ضيافته ويقول: يا رسول الله ها هنا انزل، هنا كرم الضيافة، هنا العدد وهنا العُدة، هنا أهلك وذووك، هنا ناصروك، ولكن النبيَّ يشير إلى الناقة ويقول: (دعوها فإنَّها مأمورة)!! ومشت الناقة حتى أتت إلى مكان – كانوا يضعون فيه البلح ليجف ويصير تمراً – وبركت في هذا الموضع، وجاء الجميع يتسابق لأخذ عتاد رسول الله ليكون عندهم، فسبقهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وأخذ عتاد النبيِّ عنده. وذهبوا للنَّبِيِّ فقال: الرجل ينزل حيث ينزل رحله، ثم دخل عند أبى أيوب رضي الله عنه، وقال: يا أبا أيوب أين كتابُ تُبَّعْ؟ فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إننا دائماً وأبداً نزيد فيك يقيناً.

ما قِصَّةُ كتابِ تُبَّع؟

تُبَّع رجل غزا المدينة قبل هجرة النبي بثلاثمائة عام، وكان اليهود هاجروا إلى المدينة لعلمهم أنها موطن هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين، فلما أراد تُبع دخولها أرسلوا إليه وقالوا: إنك لن تستطيع دخولها لأنها موضع هجرة النبيِّ الذي سيبعث في آخر الزمان، وذكروا له أوصافه التي قال الله عنها في القرآن – عن اليهود ومعرفتهم برسول الله: ﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ﴾ [146البقرة].

وكان تُبع معه جمعٌ من العلماء يسيرون معه، فجمعهم فسألهم فصدَّقوا ما قال اليهود، فَبَنَى لكلِّ رجل من هؤلاء العلماء بيتاً في المدينة من طابق واحد، وأعطاه زاداً ونفقة، وزوَّجه بجارية، وأمَرَهُ أن يقيم إلى حين بعثة النبي فينصرُ النبيَّ، وبَنَى لزعيم العلماء بيتاً من طابقين، وقال له: هذا البيت أمانة عندك فإني قد بنيتُه للنبيِّ، فهو ملك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولذلك ذكره صلى الله عليه وسلم فيما معناه: {أول من آمن بي تُبَّع}، وترك رسالة وجعلها في حُقٍّ من زُمرد عند هذا الرجل زعيم العلماء كتب فيها (تفسير القرطبي وابن كثير – سورة الدخان):

شَهِدتُّ عَلَى أَحْمَدٍ أَنَّهُ       رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ

فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ     لَكُنْتُ وَزِيراً لَهُ وَابْن عَـمّ

فاطَّلع النبيُّ على الرسالة، وعَلِم أنه نزل في بيته الذي بناه المليك عزَّ وجلَّ له، ولم ينزل في بيت أحد غيره، وكان هؤلاء العلماء هم الذين تناكح وتناسل منهم الأنصار الذين آووا النَّبِيَّ ونصروه. فكان هذا إعجاز الله للنبيِّ!! لنعلم – علم اليقين – أن كل من يمشى على منهج هذا النبي، ويتقى الله جلَّ في علاه، ويصنع في كل أحواله ما يحبه الله ويرضاه، ويتأسى في كل أحواله بحبيب الله ومصطفاه فإن عناية الله لا تتخلف عنه نَفَساً في هذه الحياة. وكذا أُمة النبي: لو صاروا أجمعين على نهج النبي، وأقاموا شرع الله بينهم، وجعلوا كتاب الله حَكَماً لهم في كل أحوالهم، فإن الله عزَّ وجلَّ يدفع عنهم كلَّ أعدائهم، وينصرهم على كل من عاداهم، ويجعل بلادهم مملوءة بالخيرات والمبرَّات: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [21المجادلة].

قال صلى الله عليه وسلم: { لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة } (البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عائشة رضي الله عنهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: { المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه } (صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه) وقال أيضاً: { وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن، قالوا: وَما ذَاكَ يا رَسولَ الله؟ قالَ: جارٌ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ » قالوا: وما بوائقه؟ قال : «شَرُّه»}( مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

          الحمد لله ربِّ العالمين الذي رفع شأننا، وكرَّمنا وأكرمنا وجعلنا من عباده المسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقُّ الحقَّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، السراج المنير .. البشير النذير. اللهم صلِّى وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا لحسن اتباعه في شرعه يا الله، واجمعنا عليه في الدار الآخرة، واجعله شفيعاً لنا في الموقف العظيم، وارزقنا جواره في جنة النعيم، آمين يا ربَّ العالمين.

    أيها الأخوة جماعة المؤمنين:

أما العبرة التي نأخذها لإصلاح حياتنا، وإصلاح مجتمعنا، ونأخذها من مجتمع المهاجرين والأنصار – الذي لو سرنا على هداه في أيِّ زمان ومكان – لنصرنا الله كما نصرهم، ولأعزَّنا كما أعزَّهم، ولهدانا كما هداهم، ولمكَّن الله عزَّ وجلَّ لنا في الأرض كما مكَّن لهم ..فإن هذه العبرة نؤجل الحديث عنها بعد الصلاة في درس خفيف، لعلَّ الله يأخذ بأيدينا أجمعين، ويصلح حال بلدنا وبلاد المسلمين أجمعين. ولكن لنا في هذا الوقت تنبيهان:

أما التنبيه الأول: ففي الأسبوع القادم إن شاء الله تحل علينا مناسبة كريمة، وهي يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجَّى الله فيه موسى ومن معه.

وقد ذهب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فوجدهم يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه –  وكان أهل قريش في الجاهلية أيضاً يصومونه!! وثبت بالروايات الصحيحة أن النبيَّ صامه في مكة وصامه في المدينة – فسأل اليهود عن ذلك، فقالوا: هذا يوم نجَّى الله فيه موسى ومن معه، فنحن نصومه شكراً لله، فقال: (نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه) (أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَه؟ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ”. فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِه)، وقال: (يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر ذنوب سَنة) (أخرجه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه)، أي لمن صامه.

ولعل سائل يقول: يوم عرفة يكفِّر ذنوب سنتين، ويوم عاشوراء يكفِّر ذنوب سنة، وأين لنا بهذه السنين التي تكفِّرها هذه الأيام، ونحن نصومها في كل عام؟!!! قال في ذلك الأئمة الأعلام: إن من لم يكن عليه ذنوب، فإن الله يعطيه مكانها حسنات، ومن لا يحتاج إلى حسنات فإن الله يعطيها له درجان وقُرُبات!! فصيام هذه الأيام مغفرة للذنوب لمن عليه ذنوب، وحسنات لمن نوى لله عزَّ وجلَّ أن يتوب، ورفعة قدر ودرجات لمن يتقرب إلى حضرة علاَّم الغيوب.

وفي العام الأخير قبل وفاته، قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم لصحبه: (خالفوا اليهود وصوموا يوماً أو يوماً بعده)، وقال عن نفسه: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) (أخرجه مسلم – فتح الباري ). والتاسع يوافق يوم الأربعاء إن شاء الله، والعاشر يوافق يوم الخميس إن شاء الله. فاستبقوا الخيرات، وأكثروا في هذا اليوم من الدعوات الصالحات.

وقد قيل: إنه هو اليوم الذي هبط فيه نوحٌ ومن معه، واستوت فيه سفينته على جبل الجوديِّ، وكان قد ركبها ومن معه في شهر رجب، وظلت سائرة في الماء إلى أن انحسر الماء، و.. ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [48هود]، وكان هذا في يوم عاشوراء. فاستبقوا الخيرات في هذا اليوم.

أما التنبيه الثاني: فهو شأن يهمُّنا أجمعين!! فقد كثر في هذا الزمان انتقال الأمراض، وكثرت الأمراض لأن الأغذية التي نتناولها قد يكون بها مبيدات، أو بها كيماويات، أو بها فيروسات وجراثيم وطفيليات، ولذلك لابد من مواراتها فعلاً. فالمؤمنون في هذا العصر ينبغي أن يكونوا حريصين أكثر وأكثر على قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (بُنٍيَ الإسلام على النظافة) (أَخْرَجَ الرَّافِعِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:”تَنَظَّفُوا بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ بَنَى الإِسْلامَ عَلَى النَّظَافَةِ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَظِيفٌ “).

على نظافة الأعضاء بالغسل والوضوء، على نظافة البيوت، وعى نظافة الشوارع، وعلى نظافة المحال التي نتردد عليها، حتى نحفظ أنفسنا أجمعين، وأولادنا وبناتنا من هذه الأمراض، فسارعوا إلى العمل بقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (نظفوا دوركم وأفنيتكم) (قال الترمذي: عن صالح بن أبي حسان ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ” إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا أفنيتكم وساحاتكم ولا تشبهوا باليهود ، يجمعون الأكباء في دورهم”).

لم يقل: (الدور) فقط، ولكن الدور والذي أمامها والذي حولها، وهو الفناء لها. أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنظافة ذلك كله حتى نحفظ نفسنا وأولادنا وكلنا من الأمراض والأغراض والأعراض. فسارعوا إلى ذلك ، واحرصوا على الكيفية السديدة لفعل ذلك.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظنا وأولادنا وبناتنا من الأمراض، ومن الأغراض ومن الأعراض، ومن المعاصي والفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم اجعل ول هذا العام لنا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً. اللهم افتح لنا في هذا العام كنوز الخيرات، وعمل المبرَّات، واستباق الصالحات، وقدر فيه الخير لنا في كلِّ الأوقات، يا أكرم الأكرمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.

اللهم ولِّي أمورنا خيارنا، ولا تولِّي أمورنا شرارنا، وأصلح أئمتنا وحكامنا، وأصلح حكام المسلمين أجمعين، واجعلهم بشرعك عاملين، وبسُنَّة حبيبك آخذين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

عباد الله: اتقوا الله، (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (90النحل).

اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.


خطبة الجمعة – كفر المنشي – طنطا 4 من المحرم 1432هـ الموافق 10/12/2010م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid