Sermon Details

الخطبة الثالثة عشرة[1]
مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى
الحمد لله ربِّ العالمين، أكرم عباده المؤمنين بحسن اتباع سيد المرسلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل حبيبه ومصطفاه قدوة للعالم أجمع فيما يحبه ويرضاه، فهو صلى الله عليه وسلم المَثَلُ الأعلى الذي خلقه الله، وشرَّع عليه كل ما يحبُّه ويرضاه، من العبادات الخالصة، والمعاملات الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والعقيدة الحقة.
سبحانه سبحانه!! كان ولا شئ معه، كان ولا زمان ولا أفلاك ولا أكوان، بل ولا أثر لأى مخلوق من بني الإنسان، أو الإنس أو الجان، ثم أحبَّ سبحانه وتعالى أن يُعرف بصفاته وأسمائه العليَّة، وأخلاقه الكريمة الربانيَّة، فخلق الخلق ليعرفوه، وبحبيبه صلى الله عليه وسلم عرفوه.
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عَبْدُهُ ورسولُه، ومصطفاه من خلقه وخيرته من بريَّته. اللهم صلِّ وسلم وبارك على هذا النَّبيِّ الكريم، صلاة تنفعنا بها فى دنيانا وفى آخرتنا يا ربَّ العالمين. (أما بعد)…
فيا أيها الأخوة المؤمنون: استمعنا قبل الصلاة لآيات من كتاب ربِّنا من سورة الأحزاب، وهي سورةٌ شاملةٌ جامعة، جمع الله سبحانه وتعالى فيها أخلاق المؤمنين، وصفات المتقين، كما جمع الله سبحانه وتعالى فيها وظائف سيِّد المرسلين، وما كلَّفه الله به من أحكام هذا الدين. جمع الله جلَّ وعلا لنا هذه السورة الكبيرة في آية واحدة، افتتح بها القارئ قراءته، وهي قول الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (21-الأحزاب).
هذه الآية – على صغرها – تحتوى على ما فى السورة كلها من علوم نافعة، ومن أخلاق كريمة، ومن عقيدة حقَّة، ومن أسوة فاضلة، بل تحتوى على خلاصة القرآن الكريم. فالقرآن الكريم على علوِّه وفضله، ما جاء لنا وما أنزله علينا ربُّنا إلا ليعلمنا فيه كيف نقتدى برسول الله؟ وكيف نتشبه به؟ وحقيقة التأسى به؟.
بل إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علوِّ بيانِها، ومع رفعة شأنِها جاءت موضحة للطريقة الصحيحة لمتابعة رسول الله، لأن متابعته صلى الله عليه وسلم سرُّ النجاح لنا فى دنيانا وفى أخرانا، وسرُّ رضا الله جلَّ وعلا عنا.
فلن ننال رضا الله إلاَّ بحسن متابعة رسول الله، ولن ننال ما نرجوه عند الله فى الدين والدنيا والآخرة إلاَّ إذا كنا قريبين من رسول الله فى صفاته، قريبين منه فى أخلاقه، قريبين منه فى عبادته، متشبهين به فى معاملاته.
بل إن الأمر يوم القيامة يوزن بما كان يعمله رسول الله، فصلاة المؤمنين توزن بصلاة رسول الله، فكلما اشتد شبه الصلاة من أحدنا بصلاة رسول الله فى ركوعها وسجودها وفى خشوعها كان قريباً من رسول الله فى الجَنَّة، وكان بجواره فى ظل العرش، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وكلما تشبَّه الإنسان – على قدر استطاعته – برسول الله فى حياته، كلما نال من الله إنعامه وفضله، وكان مع رسول الله فى درجة واحدة.
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ َقُالُ: (جَاءَتْ مَلائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مثلاًً فَاضْرِبُوا لَهُ مثلاً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ.
فَقَالُوا: مَثَلُه كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ. فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ.
فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم َ فَقَدْ عَصَى اللَّه، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ)[2].
ولذلك خاطبكم ربُّكم وقال لكم: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ – قدوة سليمة وحكيمة وعظيمة – لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21-الأحزاب). أى: من كان يريد الله، ورضاء الله وفرج الله، وفضل الله وكرم الله، وعطف الله ومحبَّة الله، وودَّ الله، فعليه بالتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه أن يجعل نُصْبَ عينيه صورة رسول الله المعنوية أمامه، يقتدى بفعاله، ويتشبه بخصاله.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الجسم الذى كان يعيش فى دنيا الناس، ولكنه الأوصاف التي سئلت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها، فقيل لها: يا أم المؤمنين، ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: أما تقرأ القرآن!! (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآن)[3].
فمجموعة الأخلاق الفاضلة لم تظهر فى الوجود إلاَّ على هذا الرءوف الرحيم، الحريص على المؤمنين، والفرد الكامل فى الأخلاق والشِّيم والجمالات لربِّ العالمين. فلم يظهر التواضع على حقيقته، ولا الرحمة بتمامها، ولا الكرم والزهد، والورع والصدق، والوفاء والمروءة، والشهامة والشجاعة، والخشوع والمسكنة بين يدى الله، والتواضع لله، والذُّل لله والانكسار لله، لم تظهر هذه الصفات بكمال هيئاتِها، وبحقيقة حالها إلاَّ على هذا الرسول الكريم.
ولذلك عندما تَحَلَّى بالمثل الأعلى فى الصفات الربانيَّة، والأخلاق القرآنيَّة، والمعاملات الطيِّبة النبويَّة، أعطاه الله أعلى وسام فى الوجود، لم يحصل عليه ملكٌ مقرب، ولا نبيٌ مرسل، قال الله تعالى فيه: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (4-القلم).
فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم، والمقام الكريم. فعلينا معشر المؤمنين -كما خاطبنا رب العالمين – أن نتأسى به فى كل حركاته وسكناته، منذ ساعة قيامنا من النوم إلى ساعة أن نضع جنبنا للنوم.
فإذا قمنا من النوم نقوم كما كان يقوم، ونقول كما كان يقول، فنقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد مماتنا وإليه النشور)، ثم نفعل مثلما كان يفعل، فنتوضأ مثلما كان يتوضأ، وندخل الخلاء مثلما كان يدخل، ونخرج منه مثلما كان يخرج، ثم نصلي كما كان يصلي.
وهكذا… فنأكل مثلما كان يأكل، ونشرب مثلما كان يشرب، ونلبس مثلما كان يلبس، ونمشي مثلما كان يمشي، ونجلس مثلما كان يجلس، بل نتكلم مثلما كان يتكلم، ونعامل الناس كما كان يعامل الخلق، ونمشي فى دنيانا سعياً إلى المعاش كما كان هديه في السعي على المعاش، ونتفكر فى خلق الله كما كان يتفكر.
فإذا كنا كذلك – وأظن هذا سهلاً علينا معشر المؤمنين – أعطانا الله البشارة، ووهبنا الفضل العظيم الذى أعدَّه الله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَىٰ) قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟!! قال: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَد أَبَىٰ )[4]. وقال صلى الله عليه وسلم:
[5].
ادعوا الله يستجب لكم، واستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المَلِكُ الحقُّ المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الصادقُ الوعدُ الأمين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد صَفْوَة المقربين، ونبراس الصالحين، وأسوة المرسلين، والرحمة العظمى للخلق أجمعين، وآله الطيبين وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين. (أما بعد)
فيا إخوانى فى الله، ويا أحبابى فى رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيَّن أعداءُ الله فى عصرنا هذا لشبابنا ولنسائنا ولفتياتنا مخالفة سنة رسول الله، بدعوى أن التَّحَلِّي بمتابعة رسول الله تَخَلُّفٌ ورجعية، وأغروهم أن يتشبهوا بِهم فى زِيِّهِم وتغيير أشكالهم، وصبغ وجوههم، وتغيير هيئاتِهم – التي اختارها الله تعالى لهم، وصوَّرها لهم فأحسن صورهم- وحضُّوهم أن يتخلوا عن طريقة رسول الله فى المأكل والملبس، والمشرب والمنكح، ويتشبهوا بالكفار المغرورين فى طريقة تناول الطعام، وكيفية لبس الزِّى، ويقلدونَهم فى حياتِهم وأخلاقهم وبيوتهم. وكان هذا من غفلتنا عن ديننا، ونسياننا لسُنَّة رسولنا.
فانتبهوا أيها المسلمون، واحذروا هذه الفتن، وارجعوا مسرعين إلى سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحقق لنا الله ما نرجوه ونَصْبُوا إليه في هذه الحياة.
فالحياة كما قال الإمام عليٌّ – رضى الله عنه وكرم الله وجهه: (الدنيا ساعة فاجعلها طاعة). فالدنيا ساعة تمرُّ على الإنسان ولا يعلم فيها نِهايته، فربما تأتيه نِهايته وهو يمشي فى الطريق، أو وهو جالس وسط أولاده، بل ربما يضع اللقمة فى فِيهِ ولا يمضغها، وربما يرفع الشَّربة إلى فمه فيقبضه مَلَكُ الموت ولا يذوقها، وربما يرفع رجله ولا يضعها، وربما ينام ولا يقوم أبداً إلا بعد نفخة الفزع الأكبر.
حياتك يا أيها الإنسان فى قبضة الرحمن، فاغتنم هذه الساعات والأوقات، وكن متشبهاً برسول الله فى أحواله، وأنت الإمام لأهل بيتك فخذهم معك فى المسيرة – زوجتك وأولادك – فقد ألقى عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسئولية وقال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ. وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[6]. فكما أنك مسئول عن طعامهم، ومسئول عن شرابِهم، ومسئول عن مسكنهم، ومسئول عن تعليمهم، ومسئول عن كل أحوالهم، فأنت أمامَ الله مسئول عن دينهم، وقد قال لك الله فى محكم الذكر: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (132-طه).
فإذا ما كنت بين يدى الله فيسألك عن الدين، ماذا علَّمت منه لأولادك؟ وماذا حفَّظت منه لبناتك وبنيك؟ وماذا أقمت منه فى بيتك؟ وماذا ورَّثته لأسرتك؟ فهذا دين الله الذى ورَّثه الله لنا فى هذه الحياة، وأمرنا أن نورِّثه للذرِّية حتى نكون كما قال الله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } (21-الطور)، فنكون جميعاً فى معية رسول الله، وفى دار رضوان الله، أحياء عند ربهم يرزقون.
نسأل الله تعالى فى هذا الوقت المبارك الميمون أن يفقهنا فى ديننا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وزاهقاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزيِّنه فى قلوبنا، زكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
واغفر اللهم لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
اللهم ولِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
عباد الله: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90- النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
***************************************
[1] خطبة بسرابيوم بالإسماعيلية 1990م حول معنى قوله تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (21-الأحزاب).
[2] صحيح البخارى.
[3] رواه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد ومسلم والترمذي والنسائي والحاكم.
[4] رواه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة.
[5] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[6] رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عمر.
[1] خطبة بسرابيوم بالإسماعيلية 1990م حول معنى قوله تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (21-الأحزاب).