.. بأقوى بيان وأجلى حجة وبرهان كانت عظمة دعوة الله التى كلفّ الله بها حبيبه ومصطفاه ، والائمة الهداة والورثة العلماء من بعده إلى يوم لقاء الله .
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائد الاعظم ، والفاتح الاعمّ نصيبه فى قول الله :
( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف : 108) .. سيدنا رسول والعارفون ، وأيضا ً الروحانيون والمرشدون الربانيّون يدعون إلى الله وليس إلى سبيل الله ، وشرط هؤلاء أن تستنير قلوبهم بنور الله فتكون قلوبهم مضيئةٌ وعيون بصيرتهم نورانية وشفافية ، وأرواحهم سماوية وعلوية ، يعرفون بتعريف الله كل شيءٍ عمن يجلس أمامهم ، ولو كان فى أبعد البعد عن حضرتهم فى أى مكان ٍ أو زمان ٍ، لان الذى يدعوا إلى الله له بداية ونهاية .. فبدايته محرقة ونهايته مشرقة .
والبداية هى إخماد نارنفسه من الشهوات والاهواء ، فلا يستقيم على طريق الوصول إلا ّ إذا خمدت نار نفسه الابليسية ، وسكنت نفسه الجماديّة والحيوانيّة ، ويسافر بنفسه الملكوتية ، وروحه القدسيّة إلى رب البريّة عزّ وجلّ .
سيدنا أبو يزيد البسطامى رضى الله عنه يقول له : { يارب كيف الوصول إليك ؟
قال : دَعْ نفسك وتعالى إلىّ } .. لماذا ؟ .. قال حكيم الصوفيّة سيدى إبن عطاء الله السكنرى : { مكتوب على حضرة القدّوس لا يدخلها أرباب النفوس }.
وهؤلاء القوم هم أمناءٌ على خزائن الاسرار ، ومحيطات وبحار الانوار ، وعلوم النبى المختار ، وقد أمرهم الله ألا ّيبرزوها ولا ينفقوها ولا يعطوها لاهلها إلا ّ بمقدار ، فإذا أعطوها لغير أهلها حاسبهم حسابا ً شديدا ً الواحد القهّار عزّ وجلّ ، وقد قيل فى ذلك ان سيدى أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه أعطى رجلا ً فوق قدره ، فتلفت نفسه ، ومن أتلف شيئا ً فعليه إصلاحه ، ومن أتلف نفسا ًُ فعليه ديّتها .. فقيل له إختر بين عمى البصر أو عمى البصيرة ، فاختار عمى البصر .. فكُفّ بصره لانه أعطى إنسانا ً مازاد عن مقدار مايتحمّل .. وهذا مثلُ الطبيب الذى يحدد جرعة المضاد الحيوى حسب الحالة التى تناسب قدرات الجسم ، ونوع المرض .. فإذا ؟ أعطى مريضا ً جرعة ً فوق طاقته فمات فيكون من الضامن ؟ .. هو.. لانه هو الذى أعطاه فوق طاقته .
ولذلك فهم يجرون الاختبارات والقياسات النورانيّة والروحانيّة ، وربما لا يشعر بها ولا يحس بها المريدون عملا ً بقول الامام أبو العزائم رضى الله تبارك وتعالى عنه { نحن قومٌ نكتم أسرارنا عن الطالب حتى لا تكون له شهوة ً إلا ّ فى الحق } ، ويصبروا معه سنين ..
وأذكر فى هذا المجال : أن رجلا ًمن أهل جدّة سمع بسيدى ذا النون المصرى فى مصر ، وأن عنده إسم الله الاعظم ، فجاء إليه ، وخدمه .. وظلّ يخدمه إحدى عشرة سنةً .. إحدى عشرة سنة وهو يخدمه .. وفى النهاية قال له : ياسيدى إنّى أريد أن أعود إلى بلدى فقد اشتقت لاهلى ، لانه مكث إحدى عسرة سنة بعيدا ً عنهم ، ونحن نريد الواحد الذى يأتى فى نصف ساعة يأخذ كل شيء ، ويرجع ويكون له الشرف والمنّة لانه ترك بيته وعياله ، وجاء للشيخ ، والمفروض أن الشيخ يكرمه ويعظمه ويلبسه تاج البهاء ، وحلّة الصدّيقين والاولياء ، ويقول له خذ إسم الله الاعظم ، ويقبّل يده سرورا ً، لانه جاء له لانه ترك بيته وعياله وجاء له لابسا ً تاج الوقار ، لكن هذا الرجل إحدى عشرة سنة يخدم الشيخ .. قال له : ياسيدى اشتقت إلى أهلى وأريد أن أرجع إليهم فعلمّنى إسم الله الاعظم ، قال له إذن خذ هذه الامانة وأوصلها لاخى فلان فى الروضة ، وهو كان ساكن فى الجيزة .. والامانة كانت عبارة عن كرتونة فيها شيء ، ومادامت أمانة إذن لا يجب علىّ ألا ّ افتحها إلا ّبإذن ٍ من صاحبها .. فلماذا أفتحها أنا ؟
فلما وصل إلى كوبرى المنيل فطبيعة نفسه البشرية تريد أن تعرف كل شيء ، وهذا آفة كثير من المريدين وسرّ تأخرُهُم ، يريد أن يعرف ماذ يقول الشيخ عندما يتكلّم مع فلان .. واحد يتكلم مع الشيخ فى سرّ بينه وبينه ، فلا يستريح حتى يعرف هذا السّر.. يريد أن يعرف هذا السّر ، فهذه هى نفسه .. مالك أنت بهذا أو ذاك ؟
الذى يريد الوصول هو العبد الذى يقول : بقى لىَ أربعين عاما لم تفوتنى تكبيرة الاحرام فى جماعة ، ولم أعرف فى مرة من المرّات من كان عن يمينى ومن كان عن شمالى فى صلاة الجماعة .. لا يعرف من يصلىّ على يمينه ومن يصلىًّ على شماله .. فهذا هو الذى يريد أن يصل إلى الله وليس مشغولا ً إلا ّ بنفسه .
حتى الصالحون لا يشغلهم النظر للغير إلا ّ إذا أعطاهم الله النظر بعبرة .. وقالوا له تلميذك الأمرد ـ والامرد يعنى الجميل الذى ليس له لحية ـ يقولون له : حدث له كذا ، فقال لهم : أهو أمرد ؟
وكان قد خدمه إحدى عشرة سنة خادما خاصّا ً له .. إحدى عشرة سنة ولا يعرف الشيخ إن كان هذا التلميذ أمردٌ أم كان له لحية ، لانه مشغول بالله ، والمشغول بالله لا يعرف سواه .
ولذلك يأتى بعض إخواننا يقولون لى : فلان ماذا كان يلبس اليوم ؟ فأقول لهم والله ما أعرف .. أنا مالى وما لملابسه ، أنا مالى وما لهذا الوضوع ؟ .. قل ما حاله ؟ جائز .. لكن ماذا يلبس ؟ هذا ليس شأننا ولا شغلنا .. هذا شغل البطالين الذين يجلسون على المصاطب ، يعرفون هذا أين ذهب ؟ ومن أين أتى ؟ وهذا ماذا يلبس وماذا أكل ؟ وماذا إشترى وماذا شرب ؟ .. وأين ذهب اليوم .. ومن الذى زار الشيخ اليوم ؟ ومن الذى سافر؟ .. نحن مالنا ومال هذه المواضيع .
فمن إشتغل بالسفل فإنما ينبئ عن سفل همّته ودناءة نفسه وخسّتها .. ومن إشتغل بالعلوّ فلا يسأل إلا ّ عن أخبار الاخيار ، وأحوال الاطهار ، وحلل النبى المختار ، ومقامات المقرّبين الأبرار .
فالشيخ إحدى عشرة سنة ولا يعرف إن كان تلميذه أمرد أو له لحية .. لا يعرف إن كان له لحية أم لا .
فالأول أحّس بأن شيئا ً يتحرّك فى الصندوق ، فأحب أن يعرف ما به ففتحه ، فإذا بفأرة تقفز منه إلى النيل فرجع نادما ً حائرا ً إلى الشيخ .. طبعا ً شكله واضح [ التليفزيون الذى فى جبهة كل إنسان طبعا ًيكشف عن داخل سريرته .. هذا الإنسان مهما يحاول أن يشوّش عليه فإن شكله يفصح عما به ..* تعْرِفَهُمْ بسِيمَاهُمْ *]
ولذلك العارفون من غير أن يأخذوا دورة فى علم السِمْيّة .. فالذى يعرف بالسمية هم المريدون والناس أجمعين ، أخذ دورة فى الكلام ، فيعرف من نوايا صاحب هذا الكلام :* ولتعرفنّهم فى لحن القول * .
دورات يقيمها سيد المرسلين للعارفين .. دورات روحانيّة يؤهلهم بها لهذه المرتبة العليّة .
فأول مادخل عليه قال له : تريد أن أئتمنك على إسم الله الاعظم وأنت لم تؤتمن على فأرة .. كيف يصّح هذا الكلام ؟
ومن هذه الاختبارات ومن جملتها إغضاب المريد .. فيغضبه وينظر ماهو ردّ فعله ؟ ..هل الشيخ هو الذى يغضبه ؟ .. نعم ويقول فيها الامام أبو العزائم رضى الله عنه : { ربما يغضب الشيخ عليك ليرفعك }
الانسان لا تظهر حقيقته إلا ً ساعة الغضب ، فتظهر حقيقة تجمُله بالاخلاق الإ لهية ، وحفظه للقيم القرآنيّة ووفائه بالعهد .
فإذا أغضبه فأخرج كل مافى نفسه وأخذ يصيح ويسب ويشتم .. أليس هذا يحدث يا إخواني ؟ لا ينفع ولا يجوز..
وربما يغضب لك ليخدعه إذا وجد أنه ليس فيه فائده وأنه منافق ظاهرالنفاق فيتقي شره ويداريه ويعامله من باب المداراه حتي لا يسيء الي من حوله , وربما يغضب له ليخدعه وهوأيضا ًمن جملة هذه الاختبارات أن يظهر له الصدود ليرى مدى صدقه , فالصادق إن أعرضوا عنه لا يعرض لأنه صادق , أما إذا كان غير صادق فإن أعرضوا عنه أعرض , فهذا لا يصلح للسير في طريق الله عز وجل .
الصادق حتي لو طردوه يرجع .. يطردوه مراراً فيرجع فيعرفوا أنه صادق في طلبه .
الرجل الذي يأتيه واحد يخطب إبنته فيقول له لا .. يتركه يمشي , فيرجع مره أخرى فيقول له لا .. فيرجع يطلبها ثانيةً , فعندما يجده ملحاً في طلبها فماذا يعمل؟ .. فهذا يريدها حقاً .. إذا فيزوجها له .
وهذه هي الحالة التي يُخْطبُ بها نفوس العارفين وأرواح الصالحين .
ومن جملة هذه الإختبارات ما يقول فيها سيدي الإمام أبوالعزائم رضي الله عنه : {ربما يبيح المرشد للمريد بعض أسراره الخاصة ليختبره بذلك , فإن إئتُمِنَ عليه إستودعه الأسرار الإلهيه , وإن ضيّعها فهو لما سواها أضيّع , وهذا لا ينفع في الصحبة }.
عندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ، ذهبت إليه أم أنس وهى تمسك بأنس ٍ وقالت له : يارسول الله هذا عبدك أُنيْسٍ ، كنت قد وهبته لخدمة البيت ، وأنا الآن وهبته لخدمتك ، وكان عمره سبع سنين ، فكان صلى الله عليه وسلم يرسله بالطلب ، فيرى الصبية وهم يلعبون فيشترك معهم لأنه طفل صغير .. فذات مرّة رأته امه فقالت له ماذا تفعل يا أنيس؟ فقال لها : أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب ، قالت له : ماهو ؟ .. قال لها : ماكنت لأفشى سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طفل عنده سبع سنين ـ يمكن أن يسقط فى هذه الذلة .
رجل عنده سبعين سنة من أصحاب العارفين ، ويطمع بعد ذلك فى مواهب رب العالمين عزّ وجلّ .. كيف ذلك ؟ .. إمرأته ، ضحكت عليه ، فيحكى لها السّر .. صديق يضحك عليه ، فيحكى له الخبر .. فلا يصلح فى طريق القوم ، إلا ّ بعد تهذيب نفسه وتربيتها والمداومة على ذلك .
فاحتضنت أم أنس أنَيْسَا ًوقبلته وقالت له : { هكذا فكن } .
والأمثلة فى هذا المجال كثيرةٌ ، وأنتم تعرفونها بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ولو كان حديثا ً عاديّا ً .. حتى ولو كان مزاحا ً، فما بال الذى يريد أن يخضع له إخوانه ، ويسلمّوا له ، ويقول لهم : الشيخ قال : كذا والشيخ لم يقل شيئا. ً
هذا يكون قد إفترى على الله الكَذِب ، وقد دخل فى قوله صلى الله عليه وسلم ( من كذب علىّ متعمدّا ً فليتبوأ مقعده من جهنم ) فالذى يريد أن يعمل شيخا ً على المريدين ، ويقول أنا رأيت رسول الله ويقول لك كذا ، وهو لم يرى شيئا ً ، ولكن ليعمل شيخا ً، هذا يا إخوانى من النفس الإبليسية ، ومثل هذا بعيدٌ عن طريق الله بُعْدَ المشرقين وهو من أعلى أصحاب إبليس ، فبئس القرين ، وبئس الرفيق ، وإن كان يجالس الصدّيقن والمقرّبين ، إلا ّ أنه بينه وبينهم بوْنٌ بعيد ، وفرقٌ شاسعٌ ، والأمر فى هذا المجال واسع ٌ ويضيق الوقت عن تعداده .. لكن المريد الصادق هو الذى يبحث عن تلك الكمالات ، ويتعرّف على تلك العقبات ، حتى يجتازها إلى الله عزّ وجلّ .
أما الدعوة إلى السبيل .. فالذين يدعون إلى سبيل الله ، فهؤلاء هم العلماء .. علماء الشريعة الأطهار الأفضال ، الذين يُبِيّنون بالحجة للناس صدق كلام الله ، وحقيقة دعوة سيدنا رسول الله ، وما إستقرّ عليه الأمر من تشريعات الله ، لأجل ذلك أرهم الله بأن يدعوا بالحكمة والموعظة الحسنة على قدر السامعين ، وعلى قدر المجادلين ، لأنهم سيتعرضّون للجدال من أهل الجدال .. أما العرفون الربابيّون النورانيّون فمدامهم يُجلى بغير جدال .
نسأل الله عزّ شأنه أن يرزقنا الأدب مع أوليائه ، والأدب مع سيد أصفيائه ، والأدب مع كتابه ، والأدب فى الوقوف على بابه ، وأن يفتح لنا ابواب رحابه ، وأن يدخلنا فيه مع خاصّة أحبابه .