( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا á (64-النساء). فلابد أن يذهب له على الفور، وكيف أعلم أنى قد ظلمت نفسى؟ إذا لم أكن قد وصلت إلى مقامات المقربين، ولم تفتح لى كنوز فضل رب العالمين، ولم أأنس فى نفسى أحوال الكُمَّل من الصالحين، فيكون عندي شيء من ظلم النفس، فكيف أشهد فى نفسى الكمال؟!! أو كيف أرتاح ويهيأ لى أننى من أهل الجمال؟!! أو يعنى أقول لنفسى: أنى تجاوزت مراحل السالكين والمبتدئين؟!! وهذه المواعظ ليست لى، وهذه العلوم ليست لى، وأنا أصبحت من أهل الأحوال العالية، فأين هى هذه الأحوال العلية؟!!
شارك الموضوع لمن تحب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى وفقنا على درب حبيبه ومصطفاه، وكشف لنا عن نوره الحقِّى وسره الجلى فا تبعناه على نور من الله، وآمنا به وصدقناه، وفتح لنا قلوبنا للنور الذى أنزل معه. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، سرِّ الورود على حضرة المعبود، وباب القرب الذى فتحه الله عزَّ وجلَّ ليوصل به إليه أحبابه من خلقه، وأصفيائه من عباده. (أما بعد) ….
فيا إخواني ويا أحبابي: بارك الله عزَّ وجلَّ فيكم أجمعين
كان في الآيات التي إستمعنا إليها تنبيهاً من الله عزَّ شأنه على بعض مقامات حبيبه ونبيِّه، ونَفْعِهِ للخلق أجمعين. فإن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم عبدٌ ذاتيٌّ لمولاه – وَأَدَبُ العبودية يقتضى لصاحبها أن لا يتحدث عن نفسه ولا عن مزاياه، ولا يشير بقوله أو بحاله إلي مقامه الكريم عند مولاه – فلما رأى الحقُّ عزَّ وجلَّ زيادة أدبه، وكمال معرفته، ورفعة عبوديته، تحدَّث عنه عزَّ وجلَّ في قرآنه في آيات كثيرة: تارة يبين مقامه عند الله، وآونة يبين جمال العبدية والعبودية التي إرتدي بها وتزيَّا بها أمام مولاه، وأحياناً يبين الأدب الواجب لعوام المؤمنين عندما يذهبوا لزيارة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه في بيته، فيبين أدب الإستفتاح وأدب الدخول، وأدب الجلوس وأدب الإنصراف، وأدب الحديث، وأدب العمل بما علموا والإسترشاد بما إليه رشدوا وآمنوا – كما كان حال آية اليوم.
يبين أحوال السالكين والمقربين – في مراحل سيرهم إلي الله، ورفقة وصحبة حبيب الله ومصطفاه – فقد جزم الله عزَّ وجلَّ في قرآنه أنه لا يدخل عبدٌ علي حضرته إلا نبيٌّ كريم ، أو رسولٌ عظيم، أو ولىٌّ مرشدٌ مأذون من الله، وهذا ما أشار إليه قول الله عزَّ وجلَّ: â3 وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا á (189-البقرة)، وقد قال في ذلك سيدي مصطفي البكرى رضى الله عنه:
وأَنْتَ بَابُ اللهِ أىُّ إمْرِىءٍ أَتَاهُ مِنْ غَيْرِكَ لا يَدْخُلِ
فهو باب الله الذي طهَّره وصافاه، وحباه واجتباه، وقربه وأدناه، وكاشفه ببديع جماله وبهاه، وأمره أن يكشف بعض مارآه للمصطفين الأخيار، والأبرار والأطهار، على قدر ما تتحمل قواهم الروحانية من أنوار وجمال العزيز الغفار عزَّ وجلَّ.
فاقتضت حقيقة السير والسلوك إلي الله، أن يكون العبد الذى يهفو قلبُه، ويتوق سرُّه، وتتعطش روحه، إلى جمال الجميل، وإلى كمال العلىِّ الكبير، أن يصطفى وجيهاً من وجهاء الله – نال وجاهةً بالحصول على ما يتمناه: إما فى مقام المعاينة، أو مقام المكالمة والمشافهة، أو مقام الإلهام – ولا بد من ملازمة المرشد الربانىّ مع يقظة القلب وانتباه النفس، لأن المرء كما قال سيدى الإمام الجنيد رضي الله عنه: ( ولو أن سالك قطع إلى الله عزَّ وجلَّ ألف مرحلة، ثم توقف نَفَساً عن السير والسلوك، لكان ما فاته في هذا النفس أعظم مما حصَّله في تلكم المراحل كلها!!).
ونحن نرى جميعاً أن الطالب المجدّ، البارز المتفوق، لو إنقطع عن كليته ودراسته شهراً أو شهرين، يظل هذا الأمر عالقاً فيه إلى حين، ولا يستطيع محوه، فما بالكم بمن ينقطع نفساً أو نفسين – ولا أقول يوماً أو يومين، أو شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين – عن الله عزَّ وجلَّ!! وربما يكون قد دنا وصاله، وقرب إتصاله، وأصبح سهلاً عليه الحصول على مناله، فيتعكر صَفَوانُه، وتزول بارقة قربه، ويحتاج إلى سنين طويلة حتى يعود إليه هذا الحال، ويحظى بهذا الجمال، ويتمتع بهذا الكمال!!!
ولذلك السالك الصادق لا يتحول عن شيخه، ولا يتغير مع ربِّه طرفة عين ولا أقل، واسمعوا إلى رجل من الصادقين يشرح حاله مع الإمام أبى العزائم رضي الله عنه:
هذا الرجل كان شيخاً لطريقة في السودان، وكان مريدوه يبلغون الآلاف. ورأى سيدى الإمام أبو العزائم رضي الله عنه – فى عالم النور – أن هذا الرجل معدودٌ من مريديه، ولكن كيف يتوصل إليه مع هذا الحال الذي هو فيه؟!! فذهب إليه وتقرَّب إليه، حتى صار أعزَّ خادم لديه، يقوم بوضوئه، ويناوله طعامه وشرابه، وهو الخادم المقرَّب، وكان هذا الشيخ هو عبد الرحيم السواكنى رضى الله عنه، وكان من سواكن في بلاد السودان، وكان يقيم أحبابه إحتفالاً عظيماً في ليلة المولد النبوىّ، يحضره مريدوه من كل أنحاء السودان، ويجعلون له كرسيًّا خاصاً عالياً حتى يراه جميع الإخوان. وفي ليلة من ليالى الإحتفال إستأذن الخادم الذاتى – وهو الإمام أبو العزائم – أن يُلقى كلمة في الحفل فأذن له، واسترسل الإمام رضى الله عنه في الحديث – وهو يعلم أن هذا أوان انكشاف أمره، وهذا أوان تحقيق وصل هذا المريد – وعندما بدأ في الحديث واسترسل فيه، إذ بعبد الرحيم يصرخ ويقول: ويلك يا عبد الرحيم، قطب العصر يخدمك ويوضئك وأنت لا تشعر!!!
هذا الرجل ترك ما هو فيه، ولم يعبأ بمشيخة ولا رياسة ولا مريدين، لأنه كان طالباً للحقّ، وطالبُ الحقِّ أول أساس يبنى عليه حاله هو الصدق مع نفسه. فلو شيخني الناس، وعظموني وكرمونى وبجلونى، ورأيت أنا من نفسى أننى على غير ما يقولون، وعلى وصف غير ما يعتقدون، ماذا أصنع؟ على أن أصدق مع نفسى لأنال وصلى. فبلغ هذا الرجل فى حبه لمولانا الإمام أبو العزائم رضى الله عنه أنه كان يقول له:
إذا الجِبَالُ تَحَوَّلَتْ عَنْ أَرْضِـــهَا عَنْ حُبَّ مَاضِى العَـزْمِ لا نَتَحَـوَّلُ
وللمريد مع شيخه في هذا الأمر علاج لكثير من الأحباب الذين يشكون من البين ومن الغين، والذي يشكو من بطء الفتح، والذي يشكو من قساوة القلب، فما السبب؟!! أنه لم ينتبه لإرشاد مربيه وشيخه، لأن الفتح قد يكون في كلمة، وقد يكون في إشارة، وقد يكون في توجيه!! ونحن نسمع الوصايا والتوجيهات، ونضرب بها عرض الحائط، إذن فمن أين يأتي الفتح؟!! إنها وصية، وإذا كنت أنت تنسي الوصية، â وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا á (64- مريم).
فيوصيك الشيخ بأمر، وينتظر ماذا تفعل؟ وأنت تنسي الأمر!! وتنسي ماذا قال لك الشيخ!! وكأن شيئاً لم يكن، فمن أين يأتي الفتح؟ وهذه هى المصيبة التى يقع فيها كثير من المريدين، والتى حذرنا منها الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وقال لنا:
فلابد أن تكون شديد السماع شدة شديدة. نحن عندما نكون مع أسيادنا العظماء رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن هناك تسجيلات بعد، وكان الواحد يذهب فيسمع الدرس – والدروس ساعة أو ساعتين – وكان الواحد يعيده بالكلمة وبالحرف، وبالهيئة وبالتمثيل، لإخوانه وأحبابه، لماذا؟!! من شدة التركيز عند السماع، ومن تأهيل النفس قبل السماع: ( زَكِّ نَفْسَكَ قَبْلَ السَّمَاع، تُشْرِقْ عَلَيْكَ أَنْوَارُ الكَلام ).
فلابد أن يعمل الواحد منا لنفسه تزكية سابقة، وعزيمة سابقة، أثناء السماع، وبعد ذلك ينفعل بهذا الكلام ويترجمه سلوكاً وفعلاً، فيفيض الله عزَّ وجلَّ عليه عوارفه، ويكاشفه – في اليقظة أو في المنام – بلطائفه، ويجعله من أهله وذويه، ويكشف له عن سرِّه وخافيه. لكن نحن نجلس ونسمع فى جلسة ونقوم من المجلس كأننا لم نجلس، وننسى ما سمعناه، فما تريد بعد ذلك؟!!!
يا مُرِيداً شُهُودَ مَا قَدْ شَهِدْنَا فاخْلَعْ النَّعْلَ واسْتَمِعْ لِمَقَالِى
فلابد أن تخلع الدنيا والآخرة، والحظوظ والأهواء، والظن والحدث والتخمين، لكى تسمع، فلا تسمع بأذنك، ولكن تسمع بكلِّك – بقلبك، وبسرِّك، وبروحك – لكلام الرجال:
خذ ما صفا لك من إشارة عارف فالعارفون كلامهم يشفى السقام
كيف نسمع هذا الكلام؟!!
واحفظ إذا سمعت أذناك جوهرة وأحرص عليها تنل كل السعادات
فلا ينفع فى طريق الصالحين سياط الجلادين، يعنى لا ينفع أن يسوق الناس إلى الله بقوة السياط، أو بالجلد أو بالشدة، لأنه هو الذى يريد وهو الذى طلب، فلا بد أن يكون عنده شفافية عالية للإشارات، والإشارات تبرز أثناء أى عبارات!! فقد تكون فى كلام عادىّ، وقد تكون فى درس شرعىٍّ فى مسجد، وقد تكون فى خطبة جمعة!! لكن المهم من الذى سيأخذ الإشارة؟ من له البشارة، فعندما يأخذ الإشارة يعمل بها فى نفسه، فينال من ربِّه عزَّ وجلَّ قربه وأنسه.
وأى تكليف من الشيخ فهو تشريف، لأن الله عزَّ وجلَّ ما كلَّف أصحاب حبيبه ومصطفاه بالقتال إلا ليشرفهم، ولذلك قال لهم مرة أخرى ليحضهم على القتال: â قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ á (14-التوبة). فلما قاتلوا وجالدوا، قال لهم انتبهوا: â فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ á (17-الأنفال). فيأتى الشيخ يكلف واحداً بأمر، فيعلم على الفور أنه ليس فى هذا الأمر خدمةٌ للشيخ، ولا نفعٌ للإخوان، ولكن فتحُ بابٍ لك للقرب إلى حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ.
فسرُّ التكليف يا إخوانى: تشريف، والذى يحقر أى أمر من هذه الأمور فليس بِمُنْتَبِهٍ من تصاريف الأقدار، فقد قال الإمام جعفر الصادق رضى الله عنه : { لا تحقرن من المعروف شيئاً، فعسى أن يكون رضا الله عزَّ وجلَّ فيه، ولا تحقرن من المعاصى شيئاً فعسى أن يكون غضب الله عزَّ وجلَّ فيه، ولا تحقرن من الخلق أحداً فعسى أن يكون سرُّ الله فيه }. إياك أن تقول أن هذا الأمر حقير ولن أفعله.
واحد راجل عادى يريد هذه المهمات الكبيرة ، لأنها يا إخوانى سرُّ سعادة المريدين الصادقين. الإمام يحى بن الجلاد رضى الله عنه – وكان من أعلام الصالحين ببلاد الشام – صحبه تلميذٌ نجيب، وهو سيدى أحمد بن الحوارى رضى الله عنه، وجاءه التلميذ فى يوم، وكان الشيخ فى حالة وَلَهٍ مع ربِّه، وغير منتبه لمن حوله، وتنورة الفرن أمام المنزل وبها نار موقدة، فلما حدثه تلميذه بن الحوارى، قال له الشيخ: اذهب وألق بنفسك فى التنور، فذهب المريد الصادق وجلس فى التنور!! ولما رجع الشيخ إلى حالته، إنتبه وقال أين أحمد؟ أخرجوه من التنور فقد عاهدنى عهداً ألا يخالف لى أمراً، وقد أمرته أن يضع نفسه فى التنور. فذهبوا إليه، فوجدوه جالساً فى وسط النار، والنار لم تؤذه ببركة طاعته واتباعه لشيخه: â وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا á (54-النور). فمن يطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا يكون؟ من المهتدين على الفور.
وسيدى الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه – وحتى تعلموا وصايا الأشياخ، فربما تكون هناك كلمات لا يلقى الإنسان لها بالاً، بل يظن بعض الجهال أنها خبالاً من الشيخ، ماذا يقول؟!!! وما هذا الكلام الذى يقوله؟!!! – فكان الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه يلقى دروسه فى مسجد البصرة، وكان تلميذه النجيب – بعد ذلك – أبو يوسف كان صغيراً ويتيم الأب، وأمه لفقره أرسلته إلى نجار ليتعلم منه صناعة الخشب، فكان يهرب من النجار ويذهب إلى حلقة أبى حنيفة ليجلس فى مجلس العلم، فيذهب إليها النجار ويشكوه، فتذهب إلى الحلقة وتأخذه – وتارة تشتمه، وتارة تضربه – ثم ترسله إلى النجار.
وذات مرة قالت للإمام أبو حنيفة: أنت الذى تفسده علي، وهذا طفلٌ يتيم، ولم يترك له أبوه شيئاً، فدعه يتعلم صنعة تنفعه. فقال لها رضى الله عنه: دعيه عنك وأنا أكفله، إن هذا الطفل سيأكل الفالوزج بدهن السمسم على موائد الخلفاء!! والفالوزج نوع من أنواع الحلوى، يصنعونه من السمن التى تخرج من السمسم، وأين هى الآن؟!! إنها أشياء نادرة وغالية، وتحتاج إلى الفنادق العشر نجوم وليست الخمس نجوم لتصنعها. فكانت طبعاً كلمة عابرة!!
فتركته وتكفل به الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه، وظل معه إلى أن حانت وفاته، فقال: يا سيدى أوصنى – والإمام أبو حنيفة صاحب المذهب، وعالمٌ جهبذ، فماذا كانت وصيته؟ قال: يا أبا يوسف إن للخفاش منيًّا كمنى الرجال. وهذه هى الوصية!! وصية ٌ عادية، فما هذا الكلام؟!! هؤلاء الرجال يتكلمون من سقف الغيب، لأن قلوبهم طهرت من العيب، فكاشفهم الله عزَّ وجلَّ بكنوز الغيب، وأعطاهم مفاتيح هذه الكنوز، فجعلوها فى رموز!!!
ومرت الأيام، ودخل هارون الرشيد حجرته الخاصة، فوجد على سريره الخاص منيًّا كمنى الرجال، فهاج وماج واشطاط غضباً، وكانت زوجته السيدة/ زبيدة إبنة عمه، حبيبةٌ إلى قلبه، ولذلك تعجَّب عجباً شديداً، وثارت ثائرته، واحتار كيف يصنع، واهتزت المملكة كلها، وأخذت السيدة/ زبيدة تسأل، وترسل إلى العلماء تطلب منهم فتوى لحل هذه المعضلة فلا يجدون، وأخيراً ًقال أبو يوسف – وكان عالماً غير معروف: أنا عندى حلٌّ لهذا الأمر!! فأحضروه، فقال: بشرط أن تدخلونى على مخدع الخليفة، – وهى حجرته الخاصة – فلما أدخلوه، نظر – وكانت الحجرات يصنع لها فتحة من أعلى، وجائز بعضنا رآها، وفى القرى كانوا يسمونها الناروزة، والناروزة كلمة عربية، يعنى الفتحة – فنظر إلى الفتحة أعلى الحجرة فوجد خفاشاً وخفاشة، فقال: أحضروا سلماً، وصعد وجاء بهما وقال: يا أمير المؤمنين إنَّ للخفاش منيًّا كمنى الرجال – كما ذكرت الوصية – فأصبح هو عالم الخليفة الأول، وولاه منصب قاضى القضاة.
وكان هارون الرشيد مؤدباً مع العلماء غاية الأدب، وذات يوم صنع وليمة عظيمة، ودعا إليها الأكابر والعلماء، ومنهم أبو يوسف، وبعد الأكل قدم لهم الحلوى، وهمس فى أذن أبو يوسف وقال: يا أبا يوسف كُلْ من هذا الصنف كثيراً، فإنا لا نصنعه إلا نادراً، قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا هو الفالوزج بدهن السمسم!!!! فأخذ يبكى، فقال: ما يبكيك؟!! قال: تذكرت شيخى أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه.
فإشارات المشايخ يا إخوانى فيها الفلاح والنجاح، وفيها تحقيق الأرباح فى الدنيا والفتح الأعظم فى معية الكريم الفتاح، ولكن أنت لا تحقرها، ولا تقول: لا، هذه أعملها وهذه ليست مهمة، فهذا من الخبال الذي يتعرض له المريدين، فلا يفلحون. وقد قالوا فى حكم الصالحين: من قال لشيخه فى أمر لا .. ولو بقلبه لا يفلح أبداً â فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاá(65-النساء). نحن كنا – بحمد الله عزَّ وجلَّ – أى إشارة يشير بها الشيخ، كنت لازم أكتبها فى نوتة خاصة، فأين هذه النوتة، وأين أضعها؟!! فى تجاويف الفؤاد!! وأعمل حسابى أنى لا أقابل الشيخ اللقاء التالى، إلا وقد نفَّذت ما فى هذه النوتة، لماذا؟ لأن هذا هو ما علمونا عليه سادتنا الصالحون رضى الله عنهم وأرضاهم . لكن أنت تكلف المريد بأمر وتتركه سنة أو سنتين، أو أحياناً شهراً، وعندما تقابله تجده قد نسى الأمر بالكلية!!! فما هى القصة؟!! .. وأنت تريد الفتح!! كيف؟ من يريد الفتح لا يستصغر شأناً ولا أمراً، ويكون مثلما يقول الإمام أبو العزائم رضى الله عنه:
هفوة العارفين أكبر ذنب فابذل النفس تُمْنَحَنْ رضوانى
فلا بد لمن أراد أن يصل إلى الله ألا يستصغر هفوة، ولا يتساهل فى ذلة، لأن أطفال الصالحين – وليس كبارهم – يقول لهم رب العالمين:( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* (12-مريم). ويحيى: كل من يريد الحياة الحقَّة فى معية الله، ومعية حبيبه ومصطفاه، فلا بد أن يأخذ الكتاب – يعني: الأوامر والتكليفات – بقوة، ليأخذ الحُكْمَ على الفور، حكم نفسه فى مقام الصبوة فى العشق والوجد لربِّه عزَّ وجلَّ.
إذن – ونحن جميعاً مقصرين، حتى الذى أكمل العمل، يرى نفسه أيضاً مقصراً، إذن فيجب أن يذهب إلى رحاب الصالحين وأمام باصرته، وأمام عينه: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا á (64-النساء). فلابد أن يذهب له على الفور، وكيف أعلم أنى قد ظلمت نفسى؟ إذا لم أكن قد وصلت إلى مقامات المقربين، ولم تفتح لى كنوز فضل رب العالمين، ولم أأنس فى نفسى أحوال الكُمَّل من الصالحين، فيكون عندي شيء من ظلم النفس، فكيف أشهد فى نفسى الكمال؟!! أو كيف أرتاح ويهيأ لى أننى من أهل الجمال؟!! أو يعنى أقول لنفسى: أنى تجاوزت مراحل السالكين والمبتدئين؟!! وهذه المواعظ ليست لى، وهذه العلوم ليست لى، وأنا أصبحت من أهل الأحوال العالية، فأين هى هذه الأحوال العلية؟!!
المزيَّة تشهدها عيون قلبك، والفتح يشهده سرُّك ولبُّك، والحق عزَّ وجلَّ والحبيب صلى الله عليه وسلم تشهده روحك ونفخة قدسك، حقائق جليَّة وليست خفيَّة، ولكنها خصوصية ومزيَّة، والخصوصية لا تقتضى الأفضلية، ولكن موجبها هو الأدب الجمُّ فى إتباع خير البريَّة، وتنفيذ الأوامر والوصية، وعدم الإستخفاف والإستهزاء بأى وصايا أو حكم أرضية أو سماوية، فقد كان الصالحون رضي الله عنهم يأخذون الحكمة ولو من أفاه المجانين، ويفتح الله عزَّ وجلَّ لهم مجاهل قلوبهم، وغياهب نفوسهم، وأسرار قلوبهم، ومطالع أرواحهم، وأنوار نفخة قدسهم، حتى يكونوا كما قال الله: â سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّá(53-فصلت). فمن لم يرَ هذه الآيات، فمتى سيرى آية الآيات صلى الله عليه وسلم؟!!! متى يرى الجمالات والكمالات والجلالات الإلهية؟!! فنحن مازلنا أمامنا محطات كثيرة، ودروب قد تكون يسيرة وقد تكون عسيرة، ويتوقف ذلك على نقاء السريرة وصفاء البصيرة، وعلو الهمَّة فى اتباع الأفراد الذين استناروا بحبِّ الله ومصطفاه صلوات الله عليه.
فإياك يا أخى أن تستصغر أمراً – حتى ولو كان أدباً نبوياً – وتراه فى نفسك صغيراً، فإن الإمام أبو العزائم رضى الله عنه، وكان قد شُلَّ نصفه الأسفل فى آخر حياته، وكانوا يحملونه ليدخلونه إلى المرحاض ليقضى حاجته، فأخطأ حاملوه مرةً وأرادوا إدخاله من الجانب الأيمن، فما كان منه إلا أن إنتفض إنتفاضة كادوا يسقطون به من شدتها!! وهو يقول لهم: خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أدخل، وهو أمر بالدخول باليسار؟ حتى فى هذا الأمر!!! فمن تهاون بالصغيرة يتهاون بالكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فالعارفون لا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، علماً وعملاً. â لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا á (49-الكهف)، فما الذى يحدث على الفور؟ â وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا á (49-الكهف). فإذا كنت أنت لا تغادر صغيرة، ولا تترك صغيرة ولا كبيرة من أوامر ربك، ومن سنن نبيِّك، ومن وصايا شيخك، إلا أحصيتها علماً وقمت بها عملا ً، كافأك الله وأطلعك على جميع الحقائق، وأصبحت كتاباً قرآنياً يقول فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كونوا قرآناً يمشى بين الناس)، فيكاشفك ربُّ الناس بكل ما خفى عن العين، وكل ما لا يخطر على بال النفس.
فالذى يريد تعجيل الفتح، وتحقيق النجاح، والوصول إلى الفلاح، ودخول معية الكريم الفتاح، فيقوم بالبدار إلى تنفيذ كل ما يطلبه منه الله، وكل ما كان عليه حبيب الله ومصطفاه، وما يشير إليه أهل الله ورجال الله.
ثم الدعاء ….
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
****************
الدرس بمقر الجمعية العامة للدعوة إلى الله – حدائق المعادى – القاهرة – 18 / 5 / 2000 م