• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

20نوفمبر 1998

خطبة الجمعة_حكمة المعراج

إقرأ الموضوع

شارك الموضوع لمن تحب

***********************

الخطبة العاشرة[1]

حكمة المعراج

الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أنار قلوبنا بنور القرآن، وسنة سيد الأولين والآخرين، وجعل فيهما العصمة والحفظ لنا في الدنيا، والنجاح والفلاح في يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحده مكان، ولا يحيزه زمان، ولا تحيط به أفلاك ولا أكوان، كان قبل خلق الزمان والمكان إله واحد أحد، فرد صمد، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، فأوجد الزمان والمكان وهو على ما عليه كان. ويفنى الزمان ويذهب المكان ويبقى الرحمن بجلاله وجماله وكماله. لا كفء له ولا ضد له ولا ند له ولا مثيل له وهو المنزه في ذاته وصفاته عن جميع ما يخطر بالأوهام والعقول: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ (سورة الإخلاص).

وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه،وصفيُّه من خلقه وخليله، الذي قربه ربُّه وأدناه، وفتح له أبواب العناية بفضل الله، حتى وصل إلى مقام في الكمال لم يصل إليه أحد سواه، ومع ذلك فالله عزَّ وجلَّ  في قدرته لا منتهي لكمالاته، ولا يصل واصل إلى كنه ذاته.

اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، صلاة تحل بها العقد، وتفرج بها الكرب، وتزيل بها الضرر، وتهون بها الأمور الصعاب، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا ربَّ العالمين. أما بعد..

فيا أيها الأخوة المؤمنون: ما أعظم حكم الإسراء والمعراج، وما أكثر مِنَنها على المؤمنين، ولكني أذكركم وأذكر نفسي معكم بمنَّة واحدة، إذا وعيناها وفقهناها نلنا بها رضوان الله عزَّ وجلَّ في الدنيا والآخرة.

فقد كان من حكمة هذه الرحلة العظمى إظهار كمال توحيد الله، وإنه جلَّ وعلا ليس في زمان ولا مكان، وفوق الطاقة والإمكان، لا يظهره الحدثان الليل والنهار، ولا تلحظه العينان، ولا يخطر ببال أي إنسان شئٌ ولو قليل من صفات ذاته، أو قريب من كمالات نعوته وأسمائه وصفاته، لأنه عزَّ وجلَّ حيَّر الأفكار، ونوَّع الأقدار، وأقام الأقطار كلها تشهد في صنعتها على بديع صنع الواحد القهار عزَّ وجلَّ.

فقد كان السابقون لنبيِّنا من الأمم – غير الأنبياء والمرسلين فهم معصومون – ينسبون لذات الله عزَّ وجلَّ  مكاناً يظهر فيه، وزماناً يتجلى بقدرته فيه، فأخذ الله سبحانه وتعالى  الحبيب صلى الله عليه وسلَّم وذهب به إلى كل عوالم الأكوان، بل كل عوالم أنشأها مكون الأكوان، حتى وصل إلى حيث لا زمان ولا مكان. فالزمان والمكان هنا يحيزهم ويظهرهم تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، أما في عوالم الملكوت العليا فلا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، بل فلك دوار بأمر الواحد القهار، لا يعلم قراره حتى سكانه من الملائكة الأبرار، والكل يُسلم أمره للواحد القهار عزَّ وجلَّ. ليس عندهم سَنَة ولا يوم ولا شهر لأن الذي يحدد ذلك الليل والنهار والشمس والقمر ..

فجاب صلى الله عليه وسلَّم عوالم السماء، عالماً بعد عالم حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وهي التي ينتهي عندها علم الخلائق أجمعين، من الجن والإنس والملائكة المقربين وأهل عالين وأهل عليين، فكل أصناف الخلائق ينتهي علمها عند سدرة المنتهى ولا يعلمون ما ورائها من العوالم، ولا من خلفها من عوالم الطهر والبهاء والضياء، والجمال والكمال، لأن هذا أمر مخصوص بسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. فأوقف الله الرسل في السموات، كل رسول وقف حيث انتهى علمه الذي علمه له الله وأعلاهم قدراً سيدنا إبراهيم خليل الله. وكان يقف مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وراءه ملائكة كل سماء حيث مكانتهم في الطهر والضياء، بحسب ما علّمهم آدم عليه السلام – كما أنبأ الله – من الأسماء.

وأعلاهم قدراً جبريل الأمين، وقد وقف عند سدرة المنتهى وقال: إلى هنا انتهى مقامي قال: يا أخي يا جبريل أهاهنا يترك الخليل خليله؟ قال: يا محمد أنا لو تقدمت قدر أُنملة (مثل طرف الأصبع) احترقت، وأنت لو تقدمت لاخترقت. فعلم أن حدود علمه عند هذا المكان، والذي قال له الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ (113النساء) اخترق وتجاوز إلى قاب قوسين أو أدنى، ليعلمنا الله ويعلم رسل الله وأنبياء الله وملائكة الله أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلَّم أعلاهم علماً، وأفضلهم مقاماً، وأرفعهم تكريماً ودرجة عند الله، لكن ليس معنى ذلك أن هناك وجه لله عزَّ وجلَّ. فالله عزَّ وجلَّ كما قال لنا أجمعين: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (4الحديد).

 ولذلك تفضل علينا وعليه بالصلاة حتى نعلم علم اليقين أن القرب بيننا وبين حضرة الله ليس قرب زمان!! ولا تلاشي مسافات!! ولا إذهاب حدود ولا اتجاه إلى جهات!!، وإنما القرب بينك وبين الله أن تدني قلبك في مناجاتك لحضرة الله، وتغلق أمام أذن قلبك ما توسوس به نفسك مما رأيته أو شهدته أو سمعته من أقوال.

في حالة المناجاة تجد الله عزَّ وجلَّ معك، وتجد الله عزَّ وجلَّ في قلبك، وتجد الله عزَّ وجلَّ أقرب إليك من كل شئ لك أو في نفسك أو من حولك، أقرب إليك من زوجك التي بجوارك ومن أولادك الذين معك، بل من نفسك التي بين جنبيك، لأنه عزَّ وجلَّ أقرب إلى كل شئ من نفس الشئ: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ﴾ (85الواقعة).

أين الله؟ في قلب كل عبد مؤمن بالله، ليس في السموات وإن خلقها وكورها، وأبدعها وصنعها، وليس في الأرض وإن كانت لا تخلو ذرة من عوالم الأرض من وجود قدرته، ومن بصمة حكمته، ومن إبداع صنعته، لكن الله عزَّ وجلَّ في قلوب المؤمنين. قال سيدنا موسى عليه السلام وهو يكلم مولاه: يا ربَّ أين أجدك؟ قال: تجدني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. في قلوب المؤمنين، وفي إيقان الموقنين، وفي إسلام المسلمين، فعندما يعلم المرء منّا أن عين الله ترعاه، وأذن الله عزَّ وجلَّ تسمع حديثه ونجواه، والله عزَّ وجلَّ مطلع على كل ظاهره وخفاياه: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ (7طه).

يكون في هذا الحال وليس في هذا الوقت. يكون في هذا الحال مع الله بلا زمان ولا مكان ولا حيطة ولا إمكان: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ (4الحديد)، فإذا اتجه إلى أي جهة وقال يا ربّ، سمع نداه ولباه وقال: لبيك عبدي لك ما تريد مني: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ  ﴾ (144البقرة). إن كان في البحر أو في البر أو في الجبل، أو في مكان محصور، أو حتى في بطن الحوت. فقد سُئل رجل من الصالحين عن أقرب ما يكون العبد من ربه؟ قال: أما سمعتم قول رسولكم صلى الله عليه وسلَّم:  { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ }[2]، وهو في حالة السجود وقد نسى كل ما أحاط به من شوارد الأفكار ومن نوازع النفس والأهواء، واشتغل بكله بالله عزَّ وجلَّ في حالة الصفاء.

إن يونس عليه السلام عندما ابتلعه الحوت وكان في بطنه، والحوت في قاع البحار والمحيطات، ناجى الله!! فماذا قال لحضرة الله؟ كأنه في قاب قوسين أو أدنى وهو في حال المناجاة لأنه يقول: ﴿ لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (87الأنبياء). ما الدليل على ذلك؟ ردَّ الله عليه حيث قال عزَّ وجلَّ: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (88الأنبياء)، استجاب له وهو في بطن الحوت ليعلمنا عزَّ وجلَّ أنه ليس بينك وبينه مسافات، ولا يفصله عنك حدود ولا حواجز ولا جهات، وإنما الذي بينك وبين الله هو الذنوب والعيوب التي تُغطي على صفحة القلب فإذا أزلت الذنوب بالتوبة النصوح وأزلت العيوب بكثرة الذكر لله، كشف الله عزَّ وجلَّ حجاب قلبك فكنت من أهل الحضرة العلية فتناجي الله وتسمع تلبية الله لندائك وأنت في المناجاة أو وأنت في الصلاة.

ولذا في ذلك يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: { إن العبد إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه فإذا توالت الذنوب فذاك الران ( يعني الغطاء أو الستار)  ثم تلى قول الله عزَّ وجلَّ : ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾  (14-15المطففين) }[3]. إذاً من أين الحجاب؟ من العيوب والذنوب يا أحباب!!، وذلك كما أنبأ الله في الكتاب، فإذا محوت الذنوب بالتوبة والندم والاستغفار، وأزلت العيوب بكثرة الذكر لله في الليل وفي النهار، ورفعت الحجب والأستار كلما قلت يا ربّ، لباك ….

وفي هذا يقول سيدي جعفر الصادق رضي الله عنهُ : { كلما احتجت إلى شئ قلت: يا ربَّ عبدك جعفر يحتاج إلى كذا. فما استتم كلامي إلا وأجد هذا الشئ بجواري}. وقال الإمام علي رضي الله عنهُ وكرم الله وجهه عندما سألوه: كيف حالك مع الله؟ قال: { إذا دعوت أجابني، وإذا طلبت أعطاني، وإذا سكتُّ افتتحني بالكلام }.

فكانت حكمة الصلاة لنعلم أن الله معنا، فالصلاة تليفون محمول لا تدفع له الرسوم وليس له وقت معلوم، تخاطب به في أي زمان ومكان الحي القيوم، وتجده أقرب إليك من كل شئ. نجدة إلهية لمن يستغيث بها في كل بلية.

قال قوم يا رسول الله: { أربُّنا قريبٌ فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ }[4] فنزل في الحال تَلكس إلهي من الواحد المتعال: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ (186البقرة). ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا إلى هذا الخير، وجعلنا من خيار عباده الموحدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يوالينا بالخير، ويصرف عنا البلاء في كل طرفة عين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، جاءنا بشهادة التوحيد وبالتنزيه الحقيقي للحميد المجيد. اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد، بيت الله المعمور بالله، ونور الله الدال على الله، واجعلنا جميعاً من حزبه يوم لقاءك يا الله. أما بعد …

فيا عباد الله جماعة المؤمنين: كان فضل الله علينا بالإسراء عظيماً، فإن من قبلنا قد ضلوا الطريق فجعلوا حائطاً للبكاء لمن أراد أن تمحى ذنوبه، ولا تمحى إلا إذا ذهب إلى هذا الحائط وبكى الدموع، والآخرين جعلوا التوبة مربوطة بقلب رجل يذهبون إليه ويجلسون بين يديه ويعترفون له دون الله بذنوبهم، وفي يده محو ذنوبهم أو عدم قبول توبتهم، لكن الله تجلى لنا فلم يجعل بيننا وبينه مكان ولا زمان ولا حاجز ولا حائط وإنما الله معنا حيثما توجهنا، وهو في قبلتنا حينما صلينا، ويسمع نداءنا إذا نادينا على أي حال كنا، وفي أي زمان كنا، أخبرنا عزَّ وجلَّ  بإنه لا يحتاج إلى واسطة بيننا وبينه، إلا أن نزيل الجفا الذي على القلوب، ونمحو الستائر التي تحجب القلوب عن حضرات علام الغيوب. ثم بعد ذلك لا يزال الله منك على بال تذكره أينما توجهت، ولا يزال لسانك رطباً بذكره، فتكون في أي مكان وفي أي زمان وأنت على أي لون وعلى أي شكل وعلى أي حال فقير أم غني لا يهم، المهم هو تقوى الله، هي التي تقربك من الله عزَّ وجلَّ. ما الذي يجعلك قريباً من الله؟ أن تعمر قلبك بالإيمان، وتقوى الله لا تحتاج بعد ذلك إلى أحد، فلو ملكت التقوى وأنت هاهنا، والله معك حيثما تحدثت، ويلبيك فيما أردت، وإذا كان معك مال وذهبت إلى الحرم الشريف وطفت حوله بدل المرة سبعين لكن قلبك مشغول بالدنيا عن الله وعن الدين، فهل يكرمك الله كما يكرم عباده المتقين؟! لا. لأنه قال عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ (27المائدة).

وانظر إلى عظمة النبي الكريم إذ يروى سيدنا رَبِيعَةَ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ قال: { كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذٰلِكَ؟، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ }[5]، فدله على الطريق الصحيح صلوات الله وسلامه عليه.

فإذا أنت سهوت أو نسيت أو غفلت أو شغلت بالدنيا عنه عزَّ وجلَّ، فارجع إليه وتب إليه وهو عزَّ وجلَّ  ﴿ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ (222البقرة). … << ثم الدعاء >>.

***************

[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين – جيزة يوم الجمعة الموافق 30 من رجب 1419هـ – 20/11/1998م.

[2]  عن ابن مسعود رواه أبو يعلى في صحيح ابن حيان.

[3]  عن أبي هريرة رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

[4] منازل السالكين بين إياك نهبد و إياك نستعين، محموع فتاوى ابن تيمية

[5] صحيح مسلم

*********************

[1] كانت هذه الخطبة بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين – جيزة يوم الجمعة الموافق 30 من رجب 1419هـ – 20/11/1998م.

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid