• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

4 نوفمبر 1999

مِنْ مَعَـانِي الإِسْـرَاء الحاجة لمجالس الذكر و الصبـر على المحن

إقرأ الموضوع

شارك الموضوع لمن تحب

********************

 

مِنْ مَعَـانِي الإِسْـرَاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العلىّ في عزَّتِهِ وَبَهَاه، الظاهر بنور طلعته وجمال محيّاه لِمَنْ صفى وصوفي واتصل بنور أسرار حضرة الله، القريب مِنْ كلِّ قريب صالح وغير معيب؛ الذي يتنزل في آفاق قلوب أحبابه بعلومه الوهبية، وأسراره الربانية، وتنزلاته القـرآنية، في كل وقت وحين.

سبحانه سبحانه، حاضرٌ في قلوب أحبابه لا يغيب عنهم طرفة عين، ولو غاب بنوره وودِّه وقربه عن قلوبهم طرفة عين لاحترقوا من ألم الفُرقة والبَيْن. إذا رأوا جماله انتعشوا، وإذا طالعوا وجهه رَبَا الإيمانُ في قلوبهم، وزاد الحياء على ظواهر أعضائهم وأجسامهم، وإذا واجههم بقبس من أنواره أفناهم عن الحظوظ والأهواء والدنيا وكل ما فيها من جفاء، ليتكرعوا برحيق الصفاء من حضرة البقاء.

فسبحان من أوجد أقواماً في دار الدنيا عنه لا يحجبون، وعن ذكره لا يغفلون، ومن شراب ودِّه لا يَمَلَّون، ومن صافي كأس محبته يكرعون. أدناهم إلى حضرته بعد أن هذَّب نفوسهم بأنوار آياته وقرآنه، وجمَّلهم وحسَّن أخلاقهم الظاهرة والباطنة، وجعلهم على نَهْج سيِّد رسله وأنبيائه، فهم في الدنيا بين أهلها غرباء، وهم من حضرة الحقِّ المقربون القرباء: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا [37النور].

وإن شئت: يخافون نفساً – يبعد عنهم الحقُّ فيه بأنوار حضرته، أو أن يصيبهم لهيبُ البعد عن حظوة قربه ومودَّته، فنعيم أهل الصفاء بالتنعم بالنظر إلى الوجه العليِّ، وأنسهم وسرورهم بانبلاج أنوار حضرته في قلوبهم، وظهور أوصاف عزَّته بنفوسهم. فهم به له يعيشون، وعنه لحضرته ينطقون ليقرِّبون، فهم به قائمون، وعنه مبلِّغون، وبين يديه بقلوبهم أبد الآباد ساجدون، وإمامهم وعظيمهم سيِّدنا ومولانا محمد بن عَبْدِ الله، صفوة كأس المحبة، وشافي قلوب الأحبة، ودُرَّة مُهج المخلصين، ونور وداد المقربين، وشمس الأنس التي تسطع من حضرة الله على قلوب العاشقين؛ فتُمِيتُ فيهم الجفاء، وتحيي فيهم الصفاء والنقاء والوفاء.

اللهم صلِّ وسلم وبارك، صلاة واصلة من ذاتك إلى ذاته صلى الله عليه وسلم، وأوصلنا بحضرته، وأسعدنا جميعاً برؤيته، واجعلنا في الدنيا والآخرة من أهل حظوته، ومتعنا جميعاً بالقرب من أنوار طلعته.آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين. أما بعد ..

فيا إخواني في الله، ويا أحبابي في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أَسْرِارُ يَوْمِ الْمِيثَاق[1]

ونحن نحتفي بزمن الإسراء والمعراج، والحمد لله كلكم علماء حكماء فقهاء، فقد علمتم بتعليم الله، وقد وعت قلوبكم في حضرة (أو أدنى) كل ما استودعه الله لكم، في عالم الطهر والصفاء، وما نحن إلا بمذكِّرين في دار الفناء، بما حدث لكم أجمعين، حيث كنتم في عالم الصفاء، وفي ذلك يقول الله عزَّ شأنه لحبيبه المصطفى الأعظم صـــلوات الله وســـلاماته عليه: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ [21الغاشية]. ولم يقل له: (فعلِّم)، بل قال: ﴿فَذَكِّرْ، أي: ذكِّرهم بما عرفوه وشاهـدوه، وعلموه ونالوه، في حضرة الصفاء، وكلُّنا بحمد الله كنَّا فيها. مَنْ ينكر (قاب قوسين أو أدنى)؟ ألم يعلم علم اليقين، بما ورد في كتاب ربِّ العالمين بأننا جميعاً كنا قَبْلَ القَبْلِ في (قاب قوسين أو أدنى

 

مِنْ (أَلَسْتُ) لَـمْ نَنْسَ مَا قَدْ شَهِدْنَا

 

مِنْ جَمَالِ الجَمِيلِ إِذْ خَاطَبَنَا

كَيْفَ أَنْسَـــــــــاكَ يَا جَمِيــــــــــــــــــــلُ وَأَنْتَ

 

نُورُ قَلْبِي بَلْ سِــرُّ سِــرَّ المَعْنَى

كلُّنا كنَّا في هذا المقام: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا  – ولم نقل: (سمعنا) – ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ[172الأعراف].

قالوا للإمام عليٍّ رضي الله عنه وكرّم الله وجهه: أتذكر يوم الميثاق؟ قال: (نعم، وأعلم من كان فيه عن يميني ومن كان فيه عن شمالي). وقال سيِّدي سهل التسترى رضي الله عنه: (إني لأعرف أولادي – ويقصد أولاده في التربيَّة الروحانيَّة – من يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، وأربِّيهم وهم في أصلاب آبائهم منذ ذلك اليوم).

فمن الناس من ينسى – بحكم شغل الدنيا الدنيَّة والأهواء، والمشاكل والجفـاء – ذاك الصفاء، ومنهم: وهم السادة المتَّقون الأقوياء، يظلُّون على عهدهم في هذا النقاء والصفاء، وهم في وسط عالم الجفاء. وكان رجل منهم ذِكْرُهُ بلسانه – أينما تحرَّك أو سار: (بَلَى .. بَلَى .. بَلَى)، فيقولون له: ما بَلَى؟ فقال: (ألا تسمعون النداء، إني أردُّ على النِّداء). يعني عايش عيشة متصلة بهذا الصفاء، ولا زال وهو في عالم الجفاء؛ يشاهد بقلبه أنوار الحضرة، ويسمع بسرِّه كلام القدرة: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا[172الأعراف]. فهو يردِّد: (بَلَى .. بَلَى) وهو مُشَاهِدُ ما يجد في قلبه!!

فالذي ينكر (قاب قوسين أو أدنى) – ونحن جميعاً كنَّا فيه – المنكر: من كان أعمى في هذا اليوم! ولم يشاهد جمال الله، وإنما نطق بقهرمان وجبروت الله.

وفي هذا اليوم قوم عاينوا وشاهدوا، وعندما عاينوا وشاهدوا وسمعوا؛ أجابوا بما رأوا، فقالوا: بلى شهدنا جمالك، وشهدنا بَهَاءَك، وشهدنا كمالك، وشهدنا عظيم عظمتك، وشهدنا بديع حكمتك، وشهدنا أنوار طلعتك. فشهدوا جمال الله، ونطقوا بالجمال الذي فيهم من الله، مجيبين لحضرة الله عزَّ وجلَّ.

وقوم أعماهم الله عن الجمال، وسلب الله عنهم أنوار البصيرة، فلم يطِّلِعُوا على ما في حضرته من كمال، ولكن أرهبهم عظيم الجلال، وأصعقهــم قدرة الربوبية وعظمة الحضرة العلية؛ فنطقوا بما قال الله، لكنهم لم يشهدوا، لأنهم ليسوا أهلاً لذلك الذي خصّ به الله عباده المؤمنين. وهؤلاء في الدنيا هم المنكرون على الأنبياء، والمرسلين، والعلماء العاملين، والعارفين، وأهل الوصل أجمعين، سرَّ قوله عزَّ شأنه: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [72الإسراء].

والآية يفهمها بعضنا على أنها عن الآخرة بعد البعث والنشور لكن هناك معنى آخر؛ وهو من كان في هذه الدار (دار الصفاء الأول ألست) أعمى؛ فهو في هذه الدار الدنيا مع بعثة الأنبياء، ومع نزول كتب السماء، ومع ظهور أنوار القدرة حتى للمخلوقات الصماء، إلا أنه لا يزيد إلا جفاءً وبُعداً عن حضرة الله، وهؤلاء هم الذين يضرب بهم الله المثل، ويقول عنهم في كتابه عزَّ وجلَّ: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. [21الحشر]. والعجيب أن هؤلاء لا يحسِّون بما تشعر به وتحسُّ به هذه الحجارة الجلاميد الصماء، وقلوبهم – كما قال الله – هي أشد قسوة من الحجارة، فهم المنكرون.

لكن أهل الصفاء الموعودون، رأوا ووعوا، وعلموا وشاهدوا وعاينوا كل ذلك في حضرة الأزل القديم، وفيها يقول سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه فينا أجمعين، وفي أهل الصفاء من الأولين والآخرين:

على الدرة البيضاء كان اجتماعنا

 

وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة

وكان الاجتماع في حضرة الصفاء الأول – مع الله عزَّ وجلَّ وجميع النبيين والمرسلين والسابقين من قدر الله الأول الذي كتبه القلم في ديوان الصالحين، إلى أن ينتهي مداد قلم القدرة، ويكتب آخر رجل سيظهر في هذا الديوان في عالم الدنيا من العارفين أي كلُّ الذي مسجَّلٌ في الديوان موجود في هذا الآوان الذي لا يعلمه إلا حضرة الرحمن عزَّ وجلَّ.

حُجَجُ اللهِ عَلَى خَلْقِه

فيا إخواني: نحن خاصة عباد الله، وكمَّل أحباب الله، ما أوجدنا الله في هذا الكون لننشغل بأحد سواه، ووعدنا إذا وفَّينا – بما عاهدنا الله عليه في يوم ميثاق – أن يجعل كلَّ شيء تحتاجه نفوسنا، ميسَّراً لنا في الدنيا ويوم لقاء الله، ولذلك عندما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ [34الزمر]. قال شيخنا رضي الله عنه (الإمام محمد ماضي أبو العزائم) عندما سمع هذه الآية: (وهل لهم مشيئة غيره؟!! وهل يطلبون غير النظر إلى جمال وجهه؟!!). ولذلك أعطاهم الله عزَّ وجلَّ المشيئة.

فخلق الله أناساً للجفاء، وخلق الله خلقاً وعجنهم بعجينة الصفاء، وهم أنتم والحمد لله، وقال فيهم سيِّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ  رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ – وفي رواية: أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأْهُ ضَلَّ، فَلِذلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ}[2].

فنحن والحمد لله، معجونون بخميرة الصفاء، التي هي نور سيِّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وأوجدنا الله عزَّ وجلَّ في عالم الأكوان، وفرَّقنا في الأزمان، ليقيم الحُجَّة بنا على أهل كلِّ عصر وزمان، أن هؤلاء رجال لم تلههم زينة الدنيا ولا زخرفها عن الجمال الباقي، ولم يلتفتوا نَفَساً مع شدَّة البلاء عن حضرة الخلاَّق، ويضرب بنا المثل وقال في أهل هذا المقام: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [28الكهف]. يقول لنا اجعلوا أنفسكم دائماً مع هؤلاء القوم، فيقيم بنا الحُجَّة التي نسير بها على المحجَّة، ولم نغيِّر النهج الذي عاهدنا عليه الله في يوم الحُجَّة. ولذلك لما يجمعنا يوم الدين، ويجمع الأولين والآخرين، كلُّ واحد يطلع له وسام، ويظهر للخلق نوره، وتضيء وجوههم من حبوره وسروره، ويقول الله فيه لخلقه أمام الجميع: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [23الأحزاب].

الْفُقَـــرَاءُ إِلَى الله

ما الذى يعكِّــــرُ هذا الصفاء؟ وما الذي يرجِــــعُ العبد إلى النقاء؟ سبحان الله!! فالذي يعكِّر هذا الصفاء الدنيا وزينتها، وزخارفها وبهجتها، ولذلك كانوا يقولون: (إذا رأيت الفَقْرَ مُقْبِلاً؛ فَقُلْ: مرحباً بشعار الصالحينوالفقر ليس معناه فقر الجيوب، وإنما فقر الأسرار، والتجائها في كل نفس إلى حضرة علام الغيوب، فالفقير الصادق: هو الذي يَحِسُّ مهما أوتي، ومهما خلع عليه المولى من هبات، ومهما أعطاه من عطاء، أنه فقير إلى ربِّه، يحتاج إلى تأييده، وإلى إمداده، وإلى جُوده، وإلى جميل ودِّه، وإلى لطيف نظراته في كل طرفة عين. لكن الذي يَحِسُّ أنه استغنى بالدنيا عن حضرة الله؛ فهذا ممن يقول يوم القيامة: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [56الزمر].

وأهل هذا المقام مهما خلع عليهم الله من خِلَعٍ ظاهرة أو باطنة، عن حضرته لا يبرحون، وبِسِرِّهم يعلنون أنهم في كل أنفاسهم إليه محتاجون ومفتقرون، حتى أن سيدنا أيوب عليه السلام، عندما أغناه الله ورزقه بأصناف الأنعام – من الأبقار والأغنام، والخيول والإبل والأموال، والزروع والحدائق والثمار والأولاد – فكان يغتسل ذات مرة، فأنزل الله عزَّ وجلَّ مطراً فيه جرادٌ من ذهب، فسارع إلى جَمْعِ هذا الجراد في ثيابه، والأنبياء إذا اغتسلوا لا يتعرُّون، وإنما يغتسلون من فوق الثياب[3] وأخذ سيِّدنا أيوب يجمع الجراد النازل من ذهب، في حجره، فقال الله عزَّ وجلَّ: يا أيوب، أَلَـمْ نُغْنِكَ عن هذا؟. قال: بلى يا ربّ ، ولكن لا غنى لي عن بركاتك.

وهذه إشارة إلى أنه: لا ينبغي لأحد، أن يظن أنه استغنى عن مجالس الصالحين، أو علوم المتقين، أو أحوال المقربين، مهما علا شأنه، ومهما ارتفع أمره، حتى ولو كان قطب الأقطاب، فهو في حاجة إلى أقل مريد من الأحباب، ليرقى بتقريبه إلى حضرة العليِّ الوهاب عزَّ وجلَّ. فالشيخ من غير مريدين ماذا يفعل؟!!

فهم الفقراء إلى الله عزَّ وجلَّ مع أن الله أغناهم بفضله عمَّا سواه، حتى لا نحسب كما يحسب أهل الجهالة أن الفقر هو الفقر الحسِّيُّ، وينسبون إلى الصُّوفيَّة الذي تتساقط قطرات ريقه على صدره، والذين يمشون حُفاة وعُراة، ويزعمون أنهم تركوا الدنيا وأنهم زهَّاد، ويقولون عنهم أنهم أهل صفاء، وأنهم هم الصُّوفيَّة!!!

بينما الصُّوفيَّة الصافية بأسرارهم، النيِّرة في قلوبهم، الفقراء إلى الله عزَّ وجلَّ بأسرارهم وأنفاسهم في كل أحوالهم لحضرته عزَّ وجلَّ. وقد كان يقول في ذلك الإمام الجنيد رضي الله عنه: (لو سار مريد إلى الله ألف سَنَةٍ، ثم التفت عن الله عزَّ وجلَّ سِنَةً؛ لكان ما فاته في تلك السِّنَةِ أفضل وأعظم مما حصَّله في الألف سَنَةٍ). لأنه طالب المزيد، ولذلك يقول الله عن الجنِّة وأهل الجنِّة هنا وهناك: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [35ق]. واعقل الخطاب!!

لم يقل فيها مزيد)، ولو قال ذلك: لكان المزيد من متعها وزخارفها ونعيمها، ولكن ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾. إذن المزيد من أنوار وأسرار، وتجليات وملاطفات، ومؤانسات الحميد المجيد عزَّ وجلَّ، ﴿لَدَيْنَا﴾. فمتع الجنة يشبه يعضها بعضاً، لكن المزيد في ﴿لَدَيْنَا نحن، وليس المزيد من الأكل والشرب، أو اللبس أو متع الحياة، وإن كانت متعاً باقية؛ إلا أنها ليست المتع الراقية، أو المتع السامية، لكن المتع الراقية من حضرة الرقيب عزَّ وجلَّ.

سِـرُّ ابْتِلاءِ الْمُجْتَبِـين

الإسراء والمعراج ليس دليل قرب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من حضرة الله. فإنه صلى الله عليه وسلم قريب قرب القرابة منذ أن اصطفاه وحباه، وأدناه ورقَّاه، وجعله رسولاً بالنيابة عن حضرته للبشر أجمعين. اسمع إليه سبحانه وهو يقول: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [49- 50الحجر].

وهو يقول له مباشرة خطاباً من الله إلى حبيب الله ومصطفاه، إياك أن تظن أن الخطاب المباشر في (قاب قوسين أو أدنى)، في زمان أو مكان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان منذ أن اجتباه الله واختاره لرسالته في (قاب قوسين أو أدنى)، ولم يتحول أو يتغيَّر عن هذا المقام طرفة عين أو أقل.

ولذلك كان عندما تنزل به الأحداث العظام، كل الذين يحيطون به يتغيرون، ولكنه هو لا يتغير، وكان يقول: {إنّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِي أبَداً}[4]. وإنما كانت هذه الرحلة ذكرى وعبرى لأولي الألباب، وقال الله عنهـا وعن قصص الأنبياء جميعاً في الكتاب: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ [111يوسف]. وجعل الحادثة، وجعلها الله بعد متاعب ظاهرة سمعناها من رواة السيرة رضي الله عنهم – لماذا؟ سيدنا داوود عليه السلام يقول: {يا ربِّ كيْفَ تُصَفِّي قُلُوبَ أحْبَابِكَ؟ قَالَ: بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ تُصَفَّىَ القُلُوبُ يا دَاوود}.

متى يجمع الإنسان كلّه مع الله؟ في حالة الشدة، وفي حالة الكَبَد، وفي حالة الهمَّ وخاصة إذا لم يعد له فرجٌ، ولا تفريج إلا في حضرة الله، أما الإنسان الذي له عشم أو عنده أمل في أحد من خلق الله فقد تتخلى عنه عناية الله، ولو كان هذا الركون قليلاً. ولذلك فإن الله عزَّ وجلَّ قال لحبيبه ومصطفاه: إياك أن تركن لهم، ولو ركنت لهم شيئاً قليلاً: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [75الإسراء]. يعني ضعف الأحياء، وضعف الأموات كلِّهم. وربُّنا قال لنا: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [113هود]، ظلموا أنفسهم فتمسَّكم نار القطيعة، ونار الصَّدِّ، ونار الهجران، ونار الغفلة، ونار البُعد عن حضرة الله عزَّ وجلَّ.

فجعل الله عزَّ وجلَّ الصفاء والنقاء بعد الهموم، وجعل ذلك بعد غسل القلب بماء زمزم، ليرشدنا ويعرفنا عزَّ وجلَّ أن الله عندما يبتلي أحبابه بهموم أو بغموم، أو بمتاعب أو بمشاق؛ إنما يؤذنهم بذلك أنه يريد أن يسعدهم بحضرته، أو يخلِّصهم من عالم الشقاء، ويردَّهم إلى حال الصفاء والنقاء، ولا يكون ذلك إلا إذا اتجه القلب إلى الله عزَّ وجلَّ بالكليَّة.

ورسولكم الأعظم صلوات الله وسلامه عليه في كل حركاته وسكناته أسوة حسنة، وقدوة طيبة: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [21الأحزاب]. فلما وجد أنهم لم يستجيبوا له لم ييأس، وإنما تحوَّل إلى غيرهم، لأنه على يقين أن الله سيظهر أمره، وعندما ذهب إلى غيرهم ماشياً على قدميه ليبلِّغ دعوة الله، كان يعلمنا جميعاً ألا نيأس من دعوة عباد الله، وأخذهم إلى طريق الله، ويتحمل المشاق ليرضي حضرة الله، لأن الله أوجدنا جميعاً في الكون دعاة لحضرته، وأمرنا جميعاً بالنيابة عن حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته، وكلُّكم ذاك الفرد.

ندعو إلى الله بحالنا وأعمالنا وخصالنا، قبل أفواهنا وقبل خطبنا وكتبنا، ونصبر لأمر الله، ونحن على تمام اليقين أن دعوة الله عزَّ وجلَّ لابد أن تَبْلُغَ المراد، لكن مراد الله في العباد، لا مرادك أنت في العباد: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [56القصص].

أنت تدعو، لكن ليس لك شأن بتحديد المستجيبين من العباد، فالذي يريده الله هو الذي يكلله على يديك بتاج الهداية بمشيئة الله، وإذا واجهتك في الدار ملمَّات وشدائد ومحن قاسيات فأعلم علم اليقين أن ذلك يرفعك الله به درجات بعد درجات. كيف يرتفع شأنك؟

تريد أن ترى حسنى وترقى

 

بلا حرب شديد لا يكون

فمن رام الوصول إلى جنابي

 

أصفـِّــــــــــــيه وفي هذا فُتُونُ

تمسك إن أردت القرب مني

 

بسنة أحمد فهـــــــــو الأمين

مَرَاحِلُ الدَّعَوَةِ إِلَى الله

ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بلغت مرادها؟ بثلاث مراحل، احفظوها وعوها، لأنها تمثل كل المراحل التي مرَّ بها كمَّل العارفين والصادقين، السابقين واللاحقين، عندما أَمَرَهُ الله بتبليغ رسالته، وطالبه بأن يبلغ المؤمنين للعمل بشريعته عرضت عليه الدنيا، فعرضوا عليه المال، والملك، وكل ما تشتهيه الأنفس وتطلبه الأعين؛ فأباه وتمسك بأنه لا يريد إلاَّ رضا مولاه عزَّ وجلَّ.

فكان بعد ذلك الشدائد سنين عدة، ما بين حصار بين جبال، ومنع للطعام والشراب والتجارة، حتى كاد من حوله يتزلزلون، أما هو صلوات الله وسلامه عليه فَلَمْ يتزلزل في مقام قربه من مولاه طرفة عين ولا أقل، ومع ذلك صبر لأمر الله، ولم ييأس، ولم يتغير، ولم يتبدل، ولم يُبَدِّل صلوات الله وسلامه عليه. فكان بعد ذلك نوال الصفاء الكلِّي والقرب الشهودي، وبعد ذلك كان الفتح الكلي لهجرته صلوات الله وسلامه عليه بالمدينة المنورة.

وهذه هي أحوال العارفين وكمل الصالحين الصادقين، في بداية أحوالهم التي يكرمهم الله عزَّ وجلَّ فيها بالفتح الرباني، والكشف النوراني، والرؤيا الصادقة، والأحوال الخارقة، فتجمع عليه الخلق، منهم من يعظمهم، ومنهم من يبذل لهم من الأموال ومن زينة الدنيا، ومنهم من يسعى في خدمتهم، فإذا التفت إليهم طرفة عين سقط من عين الله عزَّ وجلَّ، فيرى ذلك فتناً يعرضها عليه الله؛ فيتمسك بأنه لا يريد إلا رضاه وحبُّه وهواه عزَّ وجلَّ.

فينقلب عليه أهل الأغراض، ويقبل عليه أهل النفاق والشقاق، ويعلنون عليه حرباً شعواء – وكلُّ الصالحين على ذلك: فمنهم من اتهموه بالردَّة، ومنهم من اتهموه بالكفر، ومنهم ومنهم، وفتِّش في أحوال الصالحين أجمعين تجد ذلك!! فسيِّدي أبي الحسن الشاذلي اتهمه قاضي القضاة في تونس بأنه يريد المُلك، وقلَّبَ عليه المَلِك، فأعزَّه الله بعد قهر. وسيِّدي أحمد البدويّ اتهمه أهل الشقاق والنفاق في عصره أنه يريد المُلك، وصاحب دعوة شيعية باطنية، ونصره الله وأعزَّه. وسيّدي إبراهيم الدسوقيّ أيضاً نصره الله بعد شدة، وسيدي الإمام أبي العزائم رضي الله عنه كذلك، ويطول الكلام في وصف أحوال الرجال في هذا المجال.

فإذا توالت الشدّات خلَّصت القلب من جميع الغفلات والجهالات، والشهوات الظاهرات والخفيَّات، حتى يصير قلباً تقيًّا نقيًّا ليس فيه إلاَّ مولاه، فيكون على أثر حبيب الله ومصطفاه عندما قال فيه سيِّدنا عليٌّ الدقاق رضي الله عنه: (نظر الحقُّ إلى قلوب خَلْقَه، فما وَجَدَ قلباً أشوق إليه من قلب حبيبه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فقرَّبه إليه)، ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [32الفرقان]. كلُّ هذا لكي يثبِّت به الفؤاد، وهذا مقام القرب مِنْ ربِّ العباد عزَّ وجلَّ، لتثبيته على حالة واحدة وهي حالة القرب من الله عزَّ وجلَّ .

فإذا صدق حال الرجل الصالح قلبه على حضرة مولاه: أغناه الله بنوره وتجليِّه وفيضه عما سواه، وأظهره به عنه داعياً إلى الحقِّ بإذنه، وجعله رائداً على السراج المنير في عصره، بشيراً ونذيراً إلى الخلق في زمانه، ويكون على قدم الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه؛ فيرى بعين قلبه أشياء يحتاج إليها المتعلقون به من المحبين والسالكين، فيكشف لهم منازلهم، ويكاشفهم بأحوالهم، ويبين لهم المناهج الخفيَّة التي يسيرون عليها إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ .

فإن الله عزَّ وجلَّ جعل الشريعة دليلاً لكل المسلمين للوصول إلى الجنة، وجعل منها مناهج خفيَّة للوصول إلى حضرته، وللاتصال بكمال عظمته؛ يقول فيها الله سبحانه عزَّ شأنه في محكم التنزيل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [48المائدة]. ففيه منهاجه من الحضرة الآدمية، وفيه منهاجه من الحضرة العيسوية، وفيه منهاجه من الحضرة اليوسفية، وفيه منهاجه من الحضرة الهارونية، وفيه منهاجه من الحضرة الموسوية، وفيه منهاجه من الحضرة الإبراهيمية. وفيه منهاجه من حضرات الألطاف الخفيَّة. وفيه منهاجه من الحضرة المقدسة الصمدية.

من الذي يبين هذه المناهج ويكشفها للسالكين والمريدين؟ الرجل الذي اختاره الله إماماً – في عصره ووقته – للعارفين والسالكين والصـالحين، وأخذه على درب سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه. ولذلك كان الإسراء والمعراج امتحاناً لقلوب المؤمنين؛ فأهل الصدِّ والوسواس أصابهم الصدود والبعد، وأهل اليقين صدَّقوا ما رأوه بقلوبهم عندما أخبرهم به حبيبهم صلوات ربي وسلامه عليه.

لماذا صدَّق سيدنا أبو بكر، وكلما أخبروه بشيء، قال: صدق؟ لأنه صلوات الله وسلامه عليه قال في معنى حديث الشريف: {عِنْدَما كُنْتُ فِي الحَضْرَةِ أخَذَنِي شَيءٌ مِنَ الوَحْشَةِ، فَسَمِعْتُ خَلْفِي صَوْتَ أبِى بَكْرٍ فَأتَنَسْتُ بِهِ، وَزَالَتْ عَنْي هَذِهِ الْوَحْشَة، وَقٍلْتُ السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالحِين}. أي الذين يصلون لهذا المقام العظيم، في القرب من حضرة القريب عزَّ وجلَّ.

مِنْ أَسْـرَارِ الإِسْـرَاء

إذن يا إخواني فالسرُّ في إسراء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه في شأن المعراج:

وحكمة إسراء الحبيب إغاثة

 

لعالمه الأعلى ورحمة حنان

ليس عالمه الأعلى الذي هو في السماء، ولكنه كل الذي نال المنازل العليَّة من بدء البدء إلى نهاية النهايات، لأنهم سكان العالم الأعلى:

وما كان رب العرش فوق سمائه

 

تنزَّه عن كيفٍ وعن برهــــان

ولكن لإظهـــــــــار الجمال لأهله

 

من العالم الأعلى ونيل أمان

فكان الإسراء ليقرِّب المقرَّبين، ويشرح المنازل للطالبين. ولذلك كان سرُّ جمع الأنبياء والمرسلين له في بيت المقدس: بعد أن قدَّسوا ذات الحقِّ في قلوبهم عن النظير والوزير، والشريك والمعين، والضدِّ والندِّ، واستوت حضرة الأحدية في قلوبهم، اجتمع بهم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه في بيت المقدس لأنهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم لن يكمل مقامهم إلا بعد الاجتماع بحضرته، ولن ينالوا كل ما لهم عند الله إلا بأمر من سعادته، وبإشارة وإكرام من حضرته. فهو الرحيم الذي قال له الحميد المجيد: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39ص].

عطاء من قبل القبل، إلى بعد البعد، هذا عطاؤنا لمن قبلك، ولمن بعدك، ولمن في عصرك وأوانك، ولم يقل: هذا خيرنا“، ولكن: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا؛ لأن العطاء يخصُّ القلوب والأرواح، أما الخير فهو للنفوس والأشباح، والخير يتنزل به الله في كل زمان ومكان للأشباح وللنفوس، لكن العطاء كلَّه مع صفيِّ حضرة الله، وصفيِّ العندية، ومطلوب المعيَّة، والذي أُوتي خالص العطاء من حضرة اللدنيَّة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [87الحجر]. أي: خاص بك، ثم أعطاه له ولجميع عباد الله السابقين واللاحقين.

نعم أفرده بالإيتاء وخصَّه بالعطاء، وجعل كلَّ الأصفياء وأهل الإجتباء – من النبيين والمرسلين والصالحين والصديقين والشهداء – كلَّهم يتناولون منه العطاء، الذي خصَّه الله له بالفضل والهناء سبحانه: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [39ص]. فلا حساب عليك، لأنك عظيم الأدب مع حضرة هذا الجناب، فلا يخطئ في تقدير العطاء لأحد، لأن مراده هو مراد الله، فلا يعطي لهواه، ولا يتفضل على أحد إلا إذا كان هذا الفضل قد برز له من تقدير حضرة الله عزَّ وجلَّ.

حدث هذا من قبل القبل، ومن قبل الخلق، ومن قبل رحلة الإسراء والمعراج، كل هذا لنا ولأبنائنا، وعطاء الله قد خصَّ به قبل الأزل، وهو في حضرة الفردانية، التي أشارت إليها الآية القرآنية بقوله عزَّ شأنه: ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [81الزخرف]. قال عليه أفضل الصلاة و أتم التسليمات: {إِنِّي عِنْدَ الله لَخَاتَمُ النَّبيينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ}[5]. أي: لم يعطَ النبوة، ولا ذاق طعم هذه الفتوة، وإنما الذي كمَّلهم وأعلى شأنهم، ورقىَّ أحوالهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما اكتملت أحوالهم في ساحة بيت المقدس، أذن الله لهم بعد أن كساهم بالحلل المحمدية، والأنوار الأحمـدية، أن ينزلوا في منازلهم القرآنية، ليتمتعوا بالخصوصية من الحضرة المحمدية، عندما كانت تُوَزِّعُ العطاءات الإلهية على الحضرات العليَّة.

وكل رجل وقف في مقام، وتمنى بما شاء الله لهم من خالص إنعامه على المرسلين رحمة للعالمين، والذي عرَّفنا به الله عزَّ وجلَّ، لأنه عنده طمع شديد في مقام التطلع، فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [143الأعراف].

الإشارة فيه إلى جبل التجلِّيات وفيض المنازلات: وهو قلب الصالحين الذي ثَبُتَ نظره على حضرة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، إذا استقر على حالة واحدة في القرب والحبِّ والودِّ لحضرة الله، يكشف الله له عن جمال طلعته، ويمتعه بالنظر إلى جماله وبهائه، لأن القلب دائماً يتقلَّب!! فلما ألحَّ في الطلب، قال الله له: إن ذلك الطلب لن يتحقق إلا إذا اجتمعت بالحضرة المحمَّديَّة، ولما زاد في الإلحاح وقال: متى يكون ذلك؟ طمأنه وقال: ﴿ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ [23السجدة].

إياك أن تشكَّ أنك تراه، فلا تشكَّ في هذا الأمر، فبعد أن رآه وتمتَّع بجمال مُحيَّاه، وأخذ منه شراب التَّثبيت الذي به يستطيع أن يتمتع بالنظر إلى جمال وجه الله، فكاشفه الله عزَّ وجلَّ بجميل مُحيَّاه، وقد رَدَّدَ حبيب الله ومصطفاه، ليستزيد من هذه الأنوار، وليتمتع بهذا الفضل والعطاء. فكان كما قال الرجل الصالح:

وإنما السرُّ في موسى يردِّدهُ

 

ليجتلي حسن مولاه حين يشهدهُ

يتمتع بالنظر إلى وجه الله في هذا المقام العظيم، فتجمَّع الأنبياء لكي يكتملوا، لأنه لا كمال لهم إلا بمواجهة حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما قاله الله وواثقهم وعاهدهم عليه: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [81آل عمران]. فتراءى لأرواحهم، فكملت معرفتهم بربِّهم عزَّ وجلَّ بعد رؤية حبيب الله ومصطفاه، وهكذا أعلى درجات الإيمان، وأكمل درجات الإحسان لا تكون إلا مع النَّبِيِّ العدنان صلى الله عليه وسلم .

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يمتِّعنا جميعاً بجمال مُحيّاه، وأن يجعلنا من أهل البشرى بكمال الإيمان من حضرة رسول الله، وأن يفيض علينا من خالص جوده، وكمال عطاءه ورياه، وأن يصرف لنا من كوثره المشهود كأساً ممدوداً، نشرب منه العلوم الوهبية، والأسرار القرآنية، وجمال سرِّه من الحضرة الربانية، وأن ينكشف عن نفوسنا كلَّ غطاء، وأن يُمحى عن قلوبنا كلَّ رين وكلَّ غـين، حتى تقع منا العين على العين، ونرى حضرة الله عزَّ وجلَّ، في أفق جماله وكماله، بلا رين ولا غين، وصلى الله على سرِّ كمالات حضرة الله عزَّ وجلَّ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

*********

[1] لمن أراد الزيادة في هذا الموضوع؛ راجع ما فتح الله به علينا من أنوار أخرى فيه بكتابنا: {(علامات التوفيق لأهل التحقيق) – الفصل الرابع: أسرار الحسنى السابقة: مبحث: الدرة النورانية}، دار الإيمان و الحياة، الطبعة الأولى، أغسطس 2005، متواجد بالمكتبات الكبرى بالقاهرة و الأقاليم، أو طالع موقعنا على الإنترنت) .

[2] رواه الترمذي والبيهقي والإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

[3]  (ولذلك كان صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنه في شأنه: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد، فلا يرى مني ولا أرى منه). وعندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، وقد قال وأوصى قبل انتقاله: ليغسلني رجالٌ من أهلي، العباس وعليٌ والفضل وقثم بن العباس، وبعد انتقاله تحيَّروا!! كيف يغسّلونه؟ أينزعون عنه ثيابه؟ أم يغسّلونه من فوق الثياب؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا غسله، وقع عليهم النوم، حتى أن يد كل واحد منهم عند ذقنه، فنُودُوا من ناحية البيت: أن أغسلوه فوق ثيابه) مسند الطيالسى، فإنه لا ينبغي لنبي أن تظهر عورته.

[4] رواه البخاري فـي الصحيح عن يَعْلَـى بنِ عُبَـيْدٍ، ورواه مسلـم عن أَبِـي بكرِ بنِ أبـي شَيْبَةَ.

[5] (عن العِرْباضِ بنِ ساريةَ، فى مجمع الزوائد، ورواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه)

************************

1   الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج عقب صلاة العشاء بمسجد الأنوار القدسية بالمهندسين – محافظة الجيزة
يوم الخميس ‏26‏ رجب‏ 1420هـ الموافق 4 نوفمبر 1999م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid