Sermon Details

*****************
سر بعثة رسول الله صلي الله عليه وسلم
قال تعالي: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ (103-آل عمران)
فافرح بنعمة الله، وهو سيدنا ومولانا رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي ألَّف الله عزَّ وجلّ به بين قلوب المؤمنين بعد أن كانوا متفرقين وأعداء ومتقاتلين.
اللهم صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد سدرة منتهى علوم الخلائق، وغاية المقامات الإلهية في القرب لكل قاصد وعارف، بحر اللطائف ومحيط المعاني، وباب الكرم الإلهي وسر القرب والتداني. صلى الله عليه وعلى آله، وكل من مشى على منواله، أو تمسك يهديه وتجمل بجماله، إلى يوم الدين آمين يارب العالمين. (أما بعد)
يا إخواني ويا أحبابي في الله ورسوله بارك الله فيكم أجمعين: فى الحقيقة الإنسان يحتار إذا كان سيتحدث مع علماء مثلكم، لأنهم لا يعلمون ما سنقول بل ربما يتذكرون ما نسيناه في زحمة المشاغل والمشاكل التي نواجهها في هذه الحياة!!
هذا إلا أن ما سنقوله قد تكونوا سمعتموه مراراً وتكراراً، ولذلك قد يجلس البعض وينشغل بمشاغل خارجية ولا يصغي لما يسمع، وقد ينصرف البعض لأحاديث جانبية، لأنه كلام سبق أن سمعه!! ولكن الصالحين أدَّبونا – رضي الله عنهم وأرضاهم – أن نستمع إلى أى مقال – ولو كرر أمامنا فى ألف جلسة – على أننا نسمعه لأول مرة.
وقد جربنا ذلك فوجدنا الخير في ذلك، حتى أننى أحياناً أجلس لصلاة الجمعة فى مجلس عادى، ويكون الخطيب عادياً، وربما يخطب من ورقة، ولكن لا أجعل همِّى على الخطيب وهيئته، ولا ألفت نظرى إلى ورقته، وإنما أركز على معاني الكلام وما يقول، سرَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (خذ الحكمة ولو من أفواه المجانين). فليس كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه جاء زمانه، ولا كل ما جاء زمانه جاء رجاله.
فنحن جميعا نتلوا كلام الله – القرآن الكريم – وبعضنا يحفظه عن ظهر قلب، لكن أحيانا يسمع الإنسان الآية وكأنه يسمعها لأول مرة!! وإياكم أن تظنوا أن ذلك لنا فقط، حتى أن أكابر القوم – سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه – لما سمع بانتقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء وسيفه علي عاتقه وهو يقول: من قال أن محمداً قد مات قطعت عنقه، وإنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى عندما ترك قومه وسيرجع إلينا مرة أخرى. هذا كلام مَنْ يا إخوانى؟!! كلام سيدنا عمر!!
فجاء الصدِّيق – وكلام الصدِّيق فيه التثبيت لمن يسمعه – رضى الله عنه أرضاه – لأن معه القول الثابت الذى يقول فيه الله: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (27- إبراهيم). كيف يثبتهم بالقول؟ يهيئ لهم الأسباب حتى يسمعوا من صدَّيق، أو رجل على قدم الصدِّيق، فيثبت حالهم، ويقوى يقينهم، ويزيد إيمانهم، لأنهم يسمعون من الذى أعطاه الله وجمَّله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة.
فلما جاء الصدِّيق وجد القوم وقد أصابهم الفزع، سيدنا عثمان أخرس، وسيدنا علي قعد ولم يستطع النهوض أو القيام، وغيره .. وغيره، فخطب فيهم قائلاً: مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حىٌّ لا يموت، ثم تلا قول الله عزَّ وجلّ: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[ (144-آل عمران).
سيدنا عمر – رضى الله عنه – لما سمع هذه الآية ماذا قال؟!! قال: كأننى أسمع هذه الآية لأول مرة. كأنه يسمعها لأول مرة مع أنه حافظ القرآن!! ويرتل القرآن، ولا ينقطع عن تلاوة القرآن!! لكن لما جاء أوان هذه الآية، وقرأها رجل من أهل العناية، حلَّت فى القلب، ونزلت في موضعها اللائق في القلب، فكانت بالنسبة لوقعها على قلبه كأنها لأول مرة تنزل على هذا القلب بمعانيها وحقائقها وتثبيتها الروحانى من الله عزَّ وجلّ. واضح هذا الكلام يا إخوانى؟
من أجل ذلك علَّمنا الصالحون أن الإنسان دائماً عندما يسمع أى كلام من أى عالم من العلماء، على أنه يسمعه لأول مرة. لماذا؟ لأن البعض قد يشغل باله بالكلام إذا كان يعرفه، وخاصة إذا كان يظن نفسه أنه عالم، لما يسمع سياق الدرس يقول في نفسه: كان الواجب أن يقول في هذا الموضع كذا وكذا، وكان الواجب أن يقول في هذا الموضع من الكلام كذا، وكان الواجب أن يعدل هذا المقطع من الكلام، وكان الواجب أن يعدل هذه العبارة، وكان الواجب أن يذكر اسم صاحب هذه الحادثة. ألا يحدث ذلك في نفوسنا يا إخوانى؟!! ويظلُّ مشغولاً بالتعديل، إذن ينعدم الانتفاع.
لكن الذي يسمع لكى ينتفع – هذا وضع آخر- يسمع الكلام وهو يُلْهَم، إن ملك الإلهام هو الذي يلهم العلماء العاملين، والأولياء والصالحين، بما يفيد الحاضرين. الذي يأتي بالدواء، قد يكون الدواء مكرراً، لكن في المرة الثانية يأتى بالشفاء، وأحياناً أكون أنا أعرف الدواء، وأحضره من الصيدلية واستخدمه، ولا يتم الشفاء!! وبمجرد ما اذهب إلي الطبيب ويكشف علىَّ، ويعطيني دواءاً قد يكون أقل من منه فى الجرعة أو فى القوة، لكن يأتي بالشفاء!! هكذا أمر الله يا إخوانى فى سماع دروس العلم – كما علمنا عباد الله الصالحون – ولذلك يقول الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه:
عَنِّى اسْمَعُوا مَا تَعْقِلُونَ مِنْ الكَلام
فَالعِلْمُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ صَافِى المُـدَام
خُذْ مَا صَفَا لَكَ مِنْ إِشَارَةِ عَارِفٍ
فَالعَارِفُونَ كَلامُهُم يَشْفِى السِّـقَام
إياكم – يا إخوانى – يقول أحد منكم – من إخواننا الأكابر العلماء – أنا غنىٌّ عن مثل هذا الكلام، لأنه ربما المريض الذي يئس منه الأطباء يأتي علاجه علي قرص أسبرين يشتريه من دكان بقالة وهو يستهتر به، ويقول فى نفسه: أنا أستطيع أن آخذ العلبة بألف جنيه، آخذ اسبرينة؟!! هذه أسباب سببها مسبب الأسباب عزَّ وجلّ!!
فالإنسان عندما يجلس في مجالس العلم، فوراً يغلق مخازن العلم التى معه، ويغلق سجل العلم الداخلي الذي معه، ويفتح شريطاً جديداً لكي ينتفع بعلم حديث عهدٍ بالله، نازل من عند الحميد المجيد عز وجل.
ما المهمة التي كلفني بها الله عزَّ وجلّ – وإخوانى أيضا يتذكروا المهمة التى كلَّفهم بها الله – فى مناصرة سيدنا ومولانا رسول الله صلي الله عليه وسلم؟
فسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم – باختصار، وحتى لا نطيل عليكم، ولا تتشعب الأفكار، لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً – رسالته – أريد أن أعرِّف غايتها في كلمة واحدة – فهو صلي الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). غايتي أن أتمم مكارم الأخلاق. ولكن منذ متى بُنِيَتْ مكارم الأخلاق؟
بنيت من أول آدم عليه السلام، فكل نبيٍّ أتي ومعه شيء من الأخلاق الإلهية، يحاول أن يطبع بها من حوله من أهل الثلَّة الإيمانية. لأنه منذ آدم وما حدث بينه وبين الشيطان في الجنان، نزل آدم مندوباً عن حضرة الرحمن ومعه توكيل بضاعة الإيمان، ونزل الشيطان ومعه بضاعته التي سيحارب بها عباد الرحمن – وليس آدم خاصة، ولكن من أول آدم إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأصبح آدم وذريته، أو أتباع ذريته الذين يمشون معه ويتبعونه في المنهج، هم الذين معهم توكيل بضاعة الرحمن، وهم الذين أخذوا التوكيل الذي تمنت الملائكة أن تناله في كل سماء من سماوات الله عزَّ وجلّ. اشرأبت أعناقهم، وتاقت نفوسهم، وتمنوا جميعا أن يحصلوا علي توكيل: ( إني جاعل في الأرض خليفة )(14-البقرة). خليفة في أي شيء؟
لا يقول أحدنا هذا الكلام لمن هم حولي، وأنا رجل عالم لا أحتاج إلي هذا الكلام، أنا سوف أحصله من الكتب!! لا، أو يقول أيضا: أنا بلغت مقاماً عظيماً وأقول كلاماً أحسن من هذا علي المنابر!! كما قلنا يا إخواني الشفاء من الله، وقد يأتي لأهون سبب إذا أراد الله عز وجل. ونحن – والحمد لله – نحفظ سيرة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وبعضنا يكاد يحفظها بأسانيدها عن ظهر قلب، لكن ربنا قال لنا فيها – وفي قصص الأنبياء والصالحين، والأولياء والصديقين والمقربين: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) (100-يوسف). فالمهم أن آخذ العبرة في هذه القصة. أي عبرة؟
آخذ عبرة هذه القصة وأعمل بها هذه السنة، يتفضل علي ربنا فيعطيني عبرة ثانية، فأعمل بها السنة القادمة لكي أستفيد، ليست عبرة واحدة ولكنها عبر لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلّ، لأن معاني كلام الله لا عدَّ لها ولا حصر لها، ولا يستطيع أحد أن يفصلها كل التفصيل، إلا اللطيف الخبير عزَّ وجلّ.
فنحن – والحمد لله – كلنا نحفظ السيرة، ونعرف كيف ولد سيدنا رسول الله، وكيف كانت حياته؟ وكيف كانت مجاهداته؟ وكيف كانت عباداته؟ لكن أنا آخذ عبرة لنفسي أولاً، يعني هذا الدرس الذي سوف أقوله، أذكر نفسي أولاً به، وأذكر نفسي لكي أتذكر مهمتى مع رسول الله صلي الله عليه وسلم.
قال: ]خليفة[ عنى فى صفاتي، ولذلك قال صلي الله عليه وسلم: (إن الله يحب من خلقه من كان علي خلقه). هؤلاء هم الذين أخذوا صفات الله عزَّ وجلّ. ]خليفة[ عن الله في أي شيء؟!! فى الكرم، فى العطف، فى الشفقة، فى الحنان، فى العفو، فى الجود، فى الرأفة، فى الهداية، في الحلم، في الصفح، في الأمانة، في كل أخلاق الله، وجمالات الله، وكمالات الله. هذه البضاعة عند مَنْ؟ عند العبد الذى ورث الخلافة عن آدم عليه السلام، وآدم عَمَّنْ ؟ عن الله عزَّ وجلّ.
وماذا عن الشيطان؟ يريد أن يهدّ، يهدَّ هذه الكمالات ويقضي علي هذه البضاعة، وماذا معه؟ معه اللؤم والخسة، والخيانة والخديعة، والبطش والزور، والظلم والكذب، والبهتان وشهادة الزور والغرور، وغيرها من هذه الأوصاف التي مع الشيطان، ومع أذناب وأتباع الشيطان، يروجونها ليحاربوا بها عباد الرحمن في كل مكان. واضح هذا الكلام يا إخواني أم لا؟!!
متى بدأت شرارة هذه الحرب؟ من ساعة ما اختار الله عزَّ وجلّ آدم لخلافته!! ولذلك سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه – وكان من الأفراد الذين أخذوا التوكيل في زمانه – لما قال من كانوا حوله: لماذا أكل آدم من الشجرة؟ ما كنا بقينا في الجنة وانتهى الأمر؟ فقال لهم: ألم تسمعوا كلام الله؟ ] إني جاعل في الأرض خليفة [ (14-البقرة).لم يقل: (إني جاعل في الجنة خليفة)، الخلافة كانت لابد أن تتم في الأرض، لأنه قال: ( جاعل في الأرض )، لأنه لو في الجنة ، الجنة ليست ميدان حرب!! الجماعة الذين هم الجنة: ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (6-التحريم).
فليس هناك حرب، لكن أين ميدان المعركة؟ هنا في الأرض، في هذه الأرض، بعدما تركب الشهوة في الإنسان، وتكون فيه النفس ومعها الروح، ومعها الجسم، ومعها القلب، والكل يتصارع علي كرسي العرش!! الكل يريد أن يكون صاحب هذه الدولة – أي الجسم. النفس تريد أن تسيرني علي هواها!! والقلب يريد أن يسيرني حسب مناه!! والجسم يريد أن يأخذ شهواته وكفى!!
( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) (69-النساء).
أين هذه الحرب يا أخواني؟ بداخلي! إنها ليست في الخارج، أين الحرب إذن؟ بداخلي، معي، ساعة ما تعرض عليَّ معصية، تشتعل الحرب، جماعة يقولون اعملها، وجماعة يقولوا لا تفعلها. أين هؤلاء؟ بداخلي وليس خارجي. جماعة يقولون: لا تضر هذه المرة، ربك رحيم واعملها وبعد ذلك تتوب ويضحكوا علىَّ!! الجماعة الأخرى يقولون: لا، وما يدريك وأنا أفعل المعصية يأتينى الموت.
فيحدث هذا الصراع، إذا كان الجماعة الطيبون أنا مهتمٌ بهم وأغذيهم بالقرآن، وأعطي لهم فيتامينات من سنة النَّبيِّ العدنان صلي الله عليه وسلم، وأجعلهم دائماً يستمعون بخشوع من العلماء الذين تأتي قلوبهم بالثمار العليَّة الإلهية، طازجة من الرحمن علي الدوام، سيرعووا وينتهوا عن الغي وعن القبيح.
نبات الإيمان الذى بداخلي جوَّعته ومنعت عنه كتاب الله، والعلم النافع من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقوَّيت الجسم وسمََّنته ولا أزال أحضر له ما لذَّ وطاب، سوف يَنْزَوِي الإيمان ولن أستطيع أن أتغلب علي جنود الشيطان، وكلما يطلب القلب النُّصرة يجد الخسران والخذلان، ويقع في المعصية. وبعد المعصية يرجع ويقول: يا تواب يا غفور، يا رحيم يا كريم. وهو كذلك يفتح الباب لأنه ( يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (222-البقرة)، ولكن لمن؟ للذي يتوب!!
لكن لا يتوب، ويري نفسه أن ما يفعله طيباً، وما يعمله حسناً، وما يعمله خيراً، وأنه لا يراه أحد – لأنه لا يري الله عزَّ وجلّ!! فيكون هذا دليلٌ علي أن الإيمان قد مات وغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه، وأصبح يمشي جسماً بغير روح، والذي يمشي جسماً بغير روح مَنْ الذي يلبسه؟ أتحفظون القرآن يا إخوانى؟ من الذي يحفظ القرآن؟!! ] ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )
(36-الزخرف). فأصبح يركبه شيطان دائما يسوف له، ويقول له: هذه الحكاية مازال الوقت أمامها طويلاً!! وعندما يقترب أجل الإنسان، تتوب وترجع إلي الله!! ويقرب له البعيد، لكي يغريه ويغويه ويخضع لزينة الحياة الدنيا!!
فهذه الحرب إلي متى ستستمر يا إخواني؟ الشيطان لما حدثت له المعركة، قال لله: إن لي شرطاً؟ قال له: كذلك، قال له: هذه المعركة تظل مستمرة مع آدم والذين من ورائه إلي يوم القيامة!! ( قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ )(79:80- ص). قال له: إذن لن أترك أحدا منهم!! حتى من بجاحته أقسم بعزة الله: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (82- ص)، ورجع ثانية واستدرك وقال:( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (83- ص).
إذن هنا الحرب شغالة في الأكوان منذ نزول آدم من الجنان إلي أن تنتهي الدنيا وما عليها. في جبهة منها جند الرحمن وقادتهم الأنبياء والمرسلون، وبعدهم العلماء العاملون والأولياء والصالحون، وعدتهم وعتادهم والذين يعينونهم هم عباد الرحمن من المؤمنين. وفي الجانب الآخر الشيطان وجند معه هم أهل الجحود، وأهل الشرك وأهل الكفر، وأهل الأهواء وأهل المعاصي، وهؤلاء كثيرون!! والحرب متواصلة.
أهل الله عزَّ وجلّ مددهم من السماء وينزل علي القلوب، فينزل مددهم نوراً من الله، سكينة من الله، طمأنينة من الله، إلهاماً من الله، علما وهبيا من الله، فيثبتهم ويعينهم علي عدوهم الذي قال لهم فيه الله: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) (6-فاطر). إياكم أن تسلموا له في يوم من الأيام، أو تأمنوا لمكره في نفس من الأنفاس.
والشيطان سخَّر الله مع أعوانه الأكوان، معهم المال، ومعهم الزخارف ومعهم المطارف، ومعهم الجمال ومعهم الأهواء، ومعهم الحظوظ ومعهم الشهوات، فإغراءاتهم تقوى فى العيون ولا يستطيع أن يخلص منها إلا من تحصن بالله وتمسك بهدي سيدنا ومولانا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
هؤلاء يريدون أن ينشروا الفضيلة، وهؤلاء يريدون أن ينشروا الرذيلة. وللأسف أن الحرب واصلت – في العصر الذى نحن فيه – زحفها إلي صفوف المقاتلين حتى بين المسلمين!! سنحارب بأي شيء؟ الصدق، وأين هو؟!! فنحن قد تسلحنا بسلاح العدو!! وأصبح الكذب هو عدتنا وعتادنا!! الأمانة، أين هي؟!! أصبح الواحد منا الأن يأخذ الدينار من أخيه، ليس مهماً أن يراعي حقه، المهم أن يكون الدينار له، أو الريال له، أو الجنيه له!!
هذه هي المصيبة التي وقع فيها المسلمون – يا إخواني – لكن لا يجب أن يقع فيها مثلكم، لماذا؟ لأنكم أنتم حملة الرسالة، وقائمون بالنيابة عن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم لهذه الأمانة، فماذا نحمل؟ وماذا ورثنا من رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ لواء الفضيلة. وإياكم أن يظن أحدكم أن معه لواء الهداية، هذه الهداية مع مَنْ يا إخواني؟ مع الله … ] ( ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء )[ (56-القصص).
وهذه النقطة هي التي تغرُّ الذين يظنون أنهم علماء، يقول: ربنا هدي فلاناً علي يدىَّ، واستجاب للكلام الذي سمعه مني وبقي ما شاء الله. ليس كذلك، لأن الهداية كلها من الله، وما اللواء الذي نحمله – يا إخوانى؟ إنه لواء الفضيلة!! أنا وأنتم ماذا نبيع؟ أنا أبيع، وأنتم تبيعون، نحن سائرون وسط هذا المجتمع نبيع للناس الصدق والأمانة، والكرم والجود، والوفاء بالعهود والإخلاص والصدق، وكل ما جاء به الأنبياء والمرسلون من بضاعة رب العالمين عز وجل، والمرصوصة والمبثوثة والمنتشرة في كتاب الله عز وجل.
موجودة!! أنظر إلي المعارض القرآنية التي تعرضها، أنظر إلي هذه اللوحات، أقرأ مثلاً هذه اللوحة: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (23-الأحزاب)، وأنظر إلي هذه اللوحة إلي آخرها وغيرها من اللوحات القرآنية.
نحن الآن .. أصبحت الحرب – مثلما نرى الآن – ليست حرباً بالسيف وجهاً لوجه، ولا بالمدافع ولا بالدبابات، بل هي حرب في الأخلاق والمعاملات، فالعدو وجنوده يريدون أن يغيِّروني، بدلا من أن أكون رجلاً صادقا، لا … أصبح رجلاً لا كلمة لي. يريدون أن يغيِّروني، بدلاً من أن أكون رجلاً أميناً – لكي أستحق أن أكون أميناً علي علم الله، وعلي أسرار الله، وعلي تقدير الله – يريدون كذلك أن يكون عندي شيئا من الخيانة!!
فالمؤمن في هذا الزمان يا إخواني في حرب!! لأنه يتمسك بالفضائل ولو لم يكن في الكون كله إلا هو، ولو لم يوجد غيري، أنا كما أنا، والزمن يتبدل ويتغير، لأنني أعرف أنني عن قريب سألقي الله عزّ وجلّ وسيسألني عن الأمانة التي كلفني بها عزَّ وجلّ. ماذا أقول له؟ أقول له: إن الحاجة في الدنيا، وضرورات الدنيا، وطلبات الدنيا، جعلتني أغش لكي آكل وأعيش!! يقول لي: ليس هذا عذراً… جعلتني أخون فلاناً لكي أعيش!! يقول لى: ليس هذا عذراً…. لماذا؟ لأنه حَمَّلني رسالة الفضيلة وقال لي :ليس لك دخل أنت، احمل الرسالة والباقي عليَّ أنا!! ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِّ ) (110- آل عمران).
قمت أنا بهذه الرسالة، يقول لي: ليس لك دخل!! انظر إلي نبيك كيف كان حاله صلي الله عليه وسلم؟ كلنا نعرف أنه كان فقيراً، كان مرة يرعي الغنم، ومرة يتاجر للسيدة خديجة، فلما كلَّفه الله بالرسالة، قال له: ليس لك دخل، هذه علينا نحن، لن نتركك في يوم من الأيام!! وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) (8-الضحى)، أغناه الله عن الخلق، كيف ذلك؟
واحدٌ من اليهود – وكان أغني أغنياء اليهود – ولم يعقب نسلاً، ليس له أولاد، فشرح الله عزَّ وجلّ صدره للإسلام، وذهب لليهود وقال: يا معشر اليهود، ماذا تعلمون عني؟!! قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا – وكان ذلك في غزوة أحد في هذا الوقت – قال: تعلمون أن مُحَمَّداً علي الحق، فأخرجوا لنصرته، قالوا: لا، قال: فإني أشهدكم أني آمنت به وبرسالته، وسأخرج لنصرته، فإذا مت فمالي كلُّه لمحمد صلي الله عليه وسلم، وكتب وصيته، وخرج وأعطاها لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
ودارت المعركة – ولا صلَّي ولا صام، ولكن دخل لنصرة رسول الله صلي الله عليه وسلم – وفي المعركة أستشهد فأصبح هذا المال لمن؟ لرسول الله صلي الله عليه وسلم!! أغناه الله حتى لا يحتاج إلي أحد سواه. لماذا ؟ لأنه يقوم بحمل الأمانة التي كلفه بها الله عز وجل.
فالذي يحمل الأمانة، ويبلغ الرسالة ، ويمشي بالأمانة، يغنيه الله وينصره الله عز وجل. إياك أن تسمع لكلام أعوان الشيطان – مثلما نسمع الآن – كيف تبيع يا فلان؟ والله بالصدق .. فيقولون له: أنت هكذا لن تعيش، ولن تأكل ولن تشرب، إذا لم تغش فلن تنفع، والحديث يا أخي يقول: (من لم يتذأب تأكله الذئاب). من أين أتوا بهذا الحديث؟!! هو ليس بحديث ولا غيره، لكنهم يريدون أن يؤيدوا كلامهم وأغراضهم!!
لكن الله – يا إخواني – وعد بنصر جنده: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
] [ (47-الروم)، لم يقل (المؤمنين الذين مع النَّبيّ)، ولكن المؤمنون في كل زمان ومكان، وعد الله أن ينصرهم ولا يحوجهم إلي أحد سواه طرفة عين ولا أقل، ماداموا يتمسكون بهدي الله، وبشرع الله، وبالرسالة التي كلفهم بها الله.
إذن ما رسالتنا يا إخوانى؟ الفضيلة .. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )(14-الصف). أيحارب ربنا – يا إخوانى – ويريد منا أن ننصره؟ لا، يريد أن ننصره – كما قلت يا إخواني – في أنفسنا أولاً، بأن نستمسك بالفضائل وبالقيم التي جاء بها أنبياء الله ورسل الله.
ونلقي نظرة علي سيدنا شعيب عليه السلام ماذا كانت وظيفته؟ كان حارساًً لقيمتين اثنتين وضحهما المولي عز وجل: ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) (181-الشعراء)، يريدهم فقط أن يوفوا الكيل والميزان، هذه كل وظيفته. وسيدنا موسي عليه السلام لماذا جاء؟ جاء ليزيل الظلم ويحقق العدل في بني إسرائيل.
وحتى يبين لنا ذلك، أنه عليه السلام لما خرج من مصر، وجد بنات سيدنا شعيب علي البئر ولا تستطيعان أن تسقي أغنامهما، حتى انتهي كل الرعاة – كلهم سقوا حيواناتهم وأغلقوا البئر بالحجر وتركوهما من غير ماء – فبيَّن الله هنا فتوته – والفتوة هنا ليس معناها الشجاعة فقط، الفتوة هنا معناها المروءة – كلمة الفتوة في القرآن معناها: المروءة، وليست الشجاعة فقط – ورفع الحجر لهما … ولما مشت البنت الكبرى أمامه والريح تهفهف ثوبها، قال لها: امشِ خلفي وصفِ لي الطريق، لماذا؟ لأنه حارسٌ علي القيم والفضائل!! لم يأت لكي يتطلع لها وينظر إليها!!
ذهب إلي سيدنا شعيب – وكان جائعاً وليس معه شيء – فقال له: تعالي لتأخذ الأجر، قال له: لا، نحن من آل بيت لا نأخذ الأجر علي عمل فعلناه لله عزَّ وجلّ، فالذي فعلناه لا نأخذ عليه أجر!! قال له سيدنا شعيب: أريد أن أزوجك واحدة من بناتي، فقال له: لابد أن أدفع مهراً، لا أتزوج من غير مهر. قال سيدنا شعيب: موافق، فقال له: ما المهر الذي يرضيك؟ فقال له سيدنا شعيب: تشتغل عندي في رعي الغنم ، إما ثماني سنوات أو عشر سنوات، الأمر كما يروق لك.
عندما سألوا سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم عن المدة التي قضاها سيدنا موسي؟ قال: أتمهما وأوفاهما، يعني كم سنة؟ العشرة، لماذا؟ لأنه يعلِّم القيم!! الرجل خيَّره، لم يقل ثماني سنوات وكفى، لا …لابد أن يتم العشر سنوات، لأنه يعلِّم القيم الإلهية!! وإبراز الفضائل القرآنية على أنفسهم.
فالناس تسمع كثيراً، والعلماء كثيرون، ولكن عندما يأتوا ويقيسوا القول بالفعل يحدث عندهم إحباط، ماذا يصدقون؟!! فعله أو كلامه؟!! النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لا، الجماعة الذين معي، والذين يريدون أن يكونوا معي، إذا قال فعل، ليس عنده وجهان، لا يلقي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ظاهره كباطنه، وباطنه في مراقبة الله أجمل وأكمل من ظاهره.
فالذي يحبط المؤمنين الآن – يا إخواني – الجماعة المنافقون الذين ينتشرون فينا، لأن هؤلاء يروجون بضاعة أعدائنا فينا، يروجون فينا الكذب والخيانة، وعدم الوفاء بالوعد، وغيرها من البضاعة التي نراها في هذا الزمان الذي نحن فيه!!
المعركة أصبحت علي أشدها لأنهم يستخدمون كل أجهزتهم وكل التقنيات الحديثة في نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة. أليس هذا ما يحدث يا إخواني ؟ يحاربون العفة في بناتنا وبنينا، ويحاربون الصدق والإخلاص، وكل هذه القيم والوفاء والبرّ، كل القيم إلا سلامية يحاربونها، ويتشدقون ويقولون: نحن الذين معنا القيم وحقوق الإنسان.أين؟!! كذَّبهم الحنَّان المنَّان، وأنتم ترون – والحمد لله – في كل مكان.
هذه الرسالة… رسالة مَنْ؟ ليس لها أهل إلا أنتم. أنتم الذين سوف تقومون بها: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )، هم أنتم إن شاء الله، ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )، متواضعين مع إخوانهم المؤمنين ، ليس هناك تكبر، و ( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (54-المائدة)، ليسوا محتاجين منهم شيئاً حتى لو كانت أرزاقنا في أيديهم – كما يقول البعض – نموت علي دين الله خيرٌ من أن نعيش علي السحت والحرام والخديعة وما يغضب الله عزَّ وجلّ.
كم مرة سنموت؟ هي مرة واحدة!! لكن لما الواحد يموت وقد وفَّي ما عاهد عليه الله، يأتي يوم القيامة ويأخذ مقاماً من المقامات التي أعدها لنا الله، وما هي؟ (َ الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ) (35-الأحزاب).
هذه هي المقامات التي سيبقي بها الهناء يا إخواني!! فلان هذا ما مقامه؟ من الصادقين. فلان هذا ما مقامه؟ من الأوفياء. ينادي منادي الله أين أهل العفو؟ فيقومون …. ينادي منادي الله أين أهل الصفح ؟ فيقومون …. هؤلاء الذين ستكون لهم المنزلة يوم لقاء الله عز وجل.
فنحن لأجل ذلك ماذا نقول؟ هي موتة واحدة، لما أموت علي الوفاء بما عاهدته عليه من الأخلاق والمعاملات، أحسن من أن أموت علي رذيلة من هذه الرذائل، فأصبح – والعياذ بالله – وقد خسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
سيدنا رسول الله جاء لكي يتمم رسالة الأنبياء، كيف يتممها؟ الذي جاء منهم بالوفاء بالكيل في الميزان، والذي جاء يرفع الظلم، والذي جاء بمحاربة الرذيلة – مثل سيدنا لوط، والذي جاء بكذا، والذي جاء بكذا .. رسالة الإسلام مثلما عبَّر عنها ربيع بن خراش، لما دخل علي كسري وقال له: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة الأضداد والأنداد إلي عبادة الله الواحد الأحد، ومن جور الحكام إلي عدالة الإسلام.
جئنا لننشر ماذا؟ لننشر العدل!! تفرح بنا الأرض، وتفرح بصعود أنوارنا السماء فتفتح لنا الأبواب، لكن الآخرين: ( لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء ) (40-الأعراف). رحمة الله بالملائكة، لأن الملائكة الذين معي ومعك – عندما يموت أحدنا – إذا كان هناك واحد مثل حالاتنا يقولون له: جزاك الله خيراً، ما وصلت بنا إلا للمواطن الصالحة، لم تدخلنا مكان المعصية، ولا مكان غيبة، ولا مكان نميمة، ولا غيره ولا خلافه. ثم يصعدون إلي الله عز وجل، فيقولون: يا رب أين نتوجه؟ نريد أمراً، فيقول: (سمائي مملوءة بملائكتي كما ترون، وأرضي مملوءة بملائكتي كما تعلمون، ولكن اذهبوا إلي قبر عبدي فامكثا بجواره، وسبحاني وهللاني وكبراني إلي يوم القيامة، واكتبا ذلك كله في صحيفة عبدي)، ويظلون شغالين هناك.
من هم؟ الكرام الكاتبون. كم عددهم يا إخواني؟ ليسوا اثنين كما يظن البعض، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل والنهار) – يتعاقبون عليك، في صلاة العصر تتغير الوردية، وفي صلاة الفجر تتغير الوردية. ولذلك قال في الحديث: (كيف تركتم عبادي؟ يقولون: جئناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون). لأجل ذلك قال لنا: حافظوا علي الفجر والعصر، لأن هذا وقت تغيير الوردية، حتى لا يذهبوا هناك ويقولون: وجدناه نائماً وتركناه نائماً، لأن هذه مصيبة!! لكن الآخرون يقولون: (وجدناهم يصلون، وتركناهم – أيضا – وهم يصلون).
هؤلاء الملائكة كم عددهم؟ بعض الصالحين أحصوهم، فوجدوهم عشرين ملكاً. أما قوله: ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (17،18 -ق)، رقيب وعتيد ليس اسماً لهؤلاء لأنهما لو أسماء ملائكة لقال: (رقيب وعتيد). وعتيد صفة رقيب واحد وهو الله، وعتيد لأنه شديد في مراقبته للخلق، لا تفوته صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. لكن لو كانا اثنين، كان أتي بواو المعية (رقيب وعتيد)، أو واو العطف.
فالملائكة هؤلاء يحزنون عندما يأتي واحد من العاصين الآخرين ويموت ويقولون له: لا جزاك الله خيراً، أدخلتنا مداخل التهم، وأدخلتنا أماكن المعاصي والظلمات، ويلعنوه لأنه لم يحسن صحبتهم طوال عمره وهم معه في هذه الحياة الدنيا.
فالملائكة الذين صحبوا الطائع في هذا الوقت رحمة بمن؟ رحمة برسول الله صلي الله عليه وسلم ، لماذا ؟ لأنه نشر الهداية، وجعلهم يفرحون بمن يصحبونهم وهم يذكرون الله، ويستغفرون الله، ويطيعون الله عزَّ وجلّ.
الجنة أيضا تفرح برسول الله صلي الله عليه وسلم لأنه هو الذى جهَّز الرجال الذين يدخلونها.فكل شيء في ملك الله وملكوته يفرح لما يرضي الله، ويحزن لما يغضب الله عزَّ وجلّ. كل شيء خلقه الله يفرح لما يرضي الله ويسخط ويتبرم لما يغضب الله عزَّ وجلّ، في الملك أو الملكوت، في الجمادات أو النباتات أو الحيوانات، حتى أن البراق عندما جاء به جبريل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ يرقص من شدة الفرح!! فقال سيدنا جبريل عليه السلام: مه يا براق، فوالله ما ركبك مخلوق أعزُّ علي الله عزَّ وجلّ منه!! يعني أنت لك حق في ما تفعله هذا. فهو مبسوط لأن النبي سيركبه صلوات الله وسلامه عليه.
والأرض كانت تطوي تحت قدميه، وكانت تحت أمره!! عندما أمرها أن تأخذ بأقدام سراقة بن مالك وفرسه!! لماذا؟ لأنها تبغض العصاة والمذنبين. فكل شيء في ملك الله يفرح بالهداية ويفرح بالتقي، إلا عصاة الجن والإنس، قال صلي الله عليه وسلم: (ما من أحد في ملك الله أو ملكوته إلا ويشهد لي بالرسالة إلا عصاة الجن والإنس)، هؤلاء هم الذين ينكرون هذا الفضل وهذا الخير وهذا الكرم الإلهي.
لكن كل شيء – يا أخي – يريد هداية الله وعناية الله، حتى كما قيل: كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما يدعو – قالوا: كان سقف البيت يردد الدعاء خلف رسول الله صلي الله عليه وسلم، والتي يسمونها في اللغة الأبواب، كانت تردد خلفه الدعاء صلي الله عليه وسلم.
المنبر الذي كان يقف عليه، والذي كان يسند ظهره عليه – الجذع – لما صعد المنبر ألم يبك؟ بكى وسمعوا صوته حتى نزل والتزمه وقال: (والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لظل يبكي إلي يوم القيامة). ولذلك سيدنا عمر سمع يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو لم تكلم إلا كفأ لك ما كلمتنا، ولو لم تناسب إلا كفأ لك ما ناسبتنا. بأبي أنت وأمي يا رسول الله: وظل يردد سيدنا عمر كثيراً في هذا المقال الطويل. قال الله عزَّ وجلّ: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (107- الأنبياء)، وكل ما سوى الله عزَّ وجلّ هو من العالمين. |