Sermon Details

**********************
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بنعمة حبيبه ومصطفاه، وجعله رسولاً لنا في الدنيا، ونسأله عزَّ شأنه أن يرزقنا شفاعته أجمعين يوم نلقاه. والصلاة والسلام على معراج الأرواح إلى حضرة الكريم الفتاح، وإسراء القلوب إلى عالم اللطف والنور والغيوب، سيدنا مُحَمَّدِ النَّبِيِّ الذي تولاه مولاه من بدئه إلى منتهاه، وآله الحاملين رايته في الدعوة إلى الله، وأصحابه المُعِينِين له في تبليغ دعوة شريعة الله، والقائمين على هذا النهج وأصحاب هذا الفتح إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني وأحبابي: من يُمن الطالع لنا أجمعين، أن هذه الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب المبارك، وهي توافق أصح الأقوال المروية عن ليلة القرب والإسراء والمعراج لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصح الروايات أنها كانت في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، ومن فضل الله عزَّ وجلَّ علينا هذا العام أنها توافق ليلة الجمعة. فهي ليلة خير خاص وعام، للمسلمين وجميع الأنام، بفضل الملك العلام عظيم الإكرام وبديع الإنعام، فله الحمد و الشكر على الدوام.
سِـرُّ الاشْتِهَارِ
ولعل البعض يتساءل: لماذا اشتهرت قصيدة البردة ([1]) للإمام البوصيري رضي الله عنه، ولماذا يردِّد الحضور الصيغة المشهورة:
مَوْلايَ صَلِّ وسلِّمْ دَائِماً أَبَداً |
|
عَلَى حبيبك خير الخلق كلهم |
لقد اشتهرت البردة لصدق صاحبها، فإن الله عزَّ وجلَّ اقتضت حكمته، وشاءت إرادته، أن يشهر ويظهر الصادقين من بريَّته، وخصَّ المحبين الصادقين بصدق في اليقين، ونورٍ في الأرواح، جعل لكلامهم قبولاً عند من يستمعون إليه!! وفي ذلك يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: (كلُّ كلام يخرج وعليه نورٌ من كِسْوَةِ القلب الذي خرج منه).
وليست العبرة بفصاحة الكلام، ولا بطلاقة العبارات، ولا بانتقاء الألفاظ، وإنما يكسو الله كلام المحبِّ- وإن كان عاميًّا – حلاوة وطلاوة في أذن السامعين، وذلك كله من ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ. ولذلك قد نجد في كلام العاشقين والواجدين من الصالحين، قصائد لا منتهى لكمال ألفاظها، وسمو عباراتها، وبلاغة صورها، ولكنها لم تحظَ بما حظيت به مَثَلاً: قصيدة كالبردة، لماذا؟ لأن كلَّ كلام يبرز وعليه كسوة من نور القلب الذي برز منه .
وكذلك في عالم الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد اشتهر في عالم الناس كتاب: (دلائل الخيرات)، مع أن الصيغ التي فيه صيغ عادية، وهناك من أئمة القوم من لهم صلوات على الحبيب، فيها معاني رقيقة، وعبارات بليغة ودقيقة، وألفاظ فيها وَحْيُ الإلهام والسليقة، ولكنها لم تنل من القبول في دنيا الناس، ما نالته صلوات وعبارات (دلائل الخيرات). وذلك لصدق قائلها، وصفاء إرادة منشئها، الشيخ الجازولي رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا في كل أمر!! فقد ظهر في الأمة المحمدية ما يزيد على الثلاثين مذهباً فقهياً، ولكن لم يكتب القبول في الأمة إلا لأربعة مذاهب، مذهب الشافعي،ومذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومذهب الإمام مالك، لماذا؟ لصــدق هؤلاء، ولأنهم قبل أن يكونوا فقهـاء، كانوا أولياء لله عزَّ وجلَّ، ثم دخلوا في دراسة الفقه، بعد تمكنهم في مقام الولاية لله عزَّ وجلَّ، فكان عملهم ابتغاء وجه الله، وعليه سيميا الصدق؛ فنالوا وجاهة وقبولاً عند عباد الله عزَّ وجلَّ.
وهذا سرُّ أن البردة لها رنين في قلوب المحبين، ودوي في قلوب العاشقين، وبهجة تحدث عند سماعها لكل المشتاقين لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. وسؤالنا الثاني: لماذا يردِّد الحضور:
مولاي صلِّ وسَلِّمْ دائماً أبداً |
|
عَلَى حَبِيبِكَ خَيْرِ الخَلْقِ كُلِّهِم |
لأن الإمام البوصيري رضي الله عنه عندما كان ينشد هذه القصيدة، وقد كان ينشدها مناماً في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يستمع إليه بسمته الشريف، وَسُمِّيَتْ: (البُرْدَة)، لأنه عندما انتهى صلى الله عليه وسلم من سماعها، خَلَعَ بردته الشريفة وأعطاها له وكساه بها، فسميت: (البُرْدَةُ المُبَارَكَة) – وقد كان ذلك كله في المنام كما قلنا – وأثناء إلقائه لهذه القصيدة على مسامع الحبيب حُضُوراً، قال في أحد أبياتها: (فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ)
ثم تلعثم وتوقَّف؛ فأخذ يردِّد: (فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ)، ولما رأى الحبيبُ صلى الله عليه وسلم تلعثمه، قال له: قُلْ .. (وأنه خير خلق الله كلهم) .. فكانت هذه الشطرة إملاءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ الصالحون يردِّدونها عقب إنشادهم لكل بيت أو لكل جملة من الأبيات في البردة المباركة، ويبدأون بالصلاة عليه فكانوا يقولون: مولاي صلِّ وسلِّم دائماً أبداً .. ثم نَصُّ كلام سيدنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (على حبيبك خير الخلق كلهم).
وهذا هو السرُّ في ترداد هذا البيت، وهو كلام رسول الله الذي أملاه على الإمام البوصيري رضي الله عنه وأرضاه في المنام.
هذه المقدمة؛ حتى نزيل ما علق بأذهان البعض؛ نحو ما رأيناه من ترداد الصلاة والتسليم على الحبيب الكريم صلى الله عليه وسلم عند استماعنا لبردته.
والبردة كان لها شأن عظيم، وشأنها شأن مواجيد الصالحين وقصـائد العاشقين، في تأجيج القلوب وإثارتها نحو الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم. ولكل رجل من الصالحين، كثير من المواجيد يلهمه بها الله عزَّ وجلَّ عند رؤياه أو استحضاره لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
منهم من يقول هذه القصائد في حالة الحضور، وكلام مثل هذا يكون لسامعيه هيام، وعشق، ونور.
ومنهم من ينشدها في حالة استحضار لأنوار حضرة النَّبِيِّ المختار، ويكون أيضاً لسامعيه على قدر عشقه ووجده استكناه لذات النَّبِيِّ المختار، واستحضار لشمائله صلى الله عليه وسلم في الظاهر وفي الأسرار.
والكل يحاول أن يحضر القلوب لتحضر بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتنال منه طهور المشروب .. صلى الله عليه وسلم.
أَسْرَارُ إِكْرَامِ الْحَبِيبِ
ونريد أن نأخذ في هذه الليلة سرًّا؛ ربما ترتاح له قلوب الظامئين إلى نيل مقام الرضا عند ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ. قد سمعنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى به الله عزَّ وجلَّ به في هذه الليلة المباركة، رُوحاً وجسماً، وسمعنا في سرِّ ذلك وأسباب ذلك كلاماً كثيراً. لكنه قد خطر بذهني في هذه الأيام المباركة أمرٌ بينَّه لنا حبيب الله ومصطفاه، يظهر سرَّ إكرام الله عزَّ وجلَّ له، وأخذه في هذه الليلة المباركة، ليحظى به أنبياء الله ورسل الله، ويستبشر به في الملكوت الأعلى عمَّار سماوات الله جلَّ في علاه، ويحظى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بما اختصه به مولاه، في حضرات الدنوِّ والقرب، من التجلِّي والتملَّي، والأسرار والعلوم، والأمور التي جلَّاها له الله، وقال فيها عزَّ شأنه: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ (10النجم).
ونحن نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كابد مشاق الدعوة إلى الله في مكة، وتحمل ما تنوء به الجبال؛ من إيذاء أهلها تارة، ومن حصارهم له ولصحبه في شعب أبى طالب ثـلاث سنين كاملة، ثم تحمل بعد ذلك إيذاء العرب عندما كان يتعرَّض لهم في أسواقهم بالقرب من مكة، ثم بعد ذلك لم يكلّ ولم يملّ، وواصل دعوته إلى الله عزَّ وجلَّ، متحملاً في سبيل ذلك ما لا يتحمله جنُّ ولا ملك ولا بَشَرٌ سواه، لأن الله عزَّ وجلَّ أعدَّه وجهَّزه، وأهَّله وقواه لتبليغ دعوة الله عزَّ وجلَّ، فذهب إلى الطائف، وبلَّغ الدعوة لأهلها، ولكنهم أعرضوا، ثم رجع مرة أخرى.
وهنا بيَّن لنا الله السرَّ الذي من أجله اصطفاه صلى الله عليه وسلم، وأهَّله لمقام قاب قوسين أو أدنى: (نزل له الأمين جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبال، وقال له: يا محمد، هذا ملك الجبال، وهو طوع أمرك، فَمُرْهُ بما شئت. فقال ملك الجبال: يا محمد، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)، وهما الجبلان المحيطان بمكة.
فماذا كان ردُّه؟ وماذا كانت إجابته؟!! وهذا سرُّ اصطفائه من مولاه، وهو السبب الذي من أجله حباه وقربه وأدناه- ماذا قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ألاح الله له الفرصة لينتقم له مِمَّنْ عاداه وآذاه، وأصبح الأمر مهيَّأ أن يشفي صدره إذا كان به غيظ من أعدائه؟!! قال صلى الله عليه وسلم: {بل أرجو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا}[2].
فعرَّف الله عزَّ وجلَّ الملائكة الكرام، ثم أخذه إلى النبيين عليهم وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة وأتم السلام، ثم أخذه ليعرضه على الملأ الأعلى، ويعلمهم أنه اصطفى هذا الحبيب إلى مقام لم يصل إليه في الدنوِّ من حضرة الله قريب، وجعله قاب قوسين أو أدنى، لأنه بلغ في مقام الأخلاق الإلهية، والكمالات الربانية، مقاماً لم يصل إليه سواه، في العفو عمن آذاه، وفي الصبر على تبليغ دعوة الله، وفي التسامح مع هؤلاء البدو الحفاة، الذين أذاقوه مرارة شديدة لا يتحملها بشر في دعوة الله سبحانه وتعالى.
فأخذه الله وحباه، وكأنما كان ذلك هو الوسام الذي قال فيه الله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [4القلم]. وما دام قد بلغ هذا المقام العظيم في الخُلُق، فقد تفضَّل عليه الله بنوال هذا المقام الكريم في القرب من الله عزَّ وجلَّ.
أي أن سرَّ الاصطفاء للمقامات الإلهية لمن يريد أن يكون قريباً من ربِّ البريَّـة، والسرُّ لمن يريد أن يلبس تاج الولاية، أو يَخْلَعَ الله عزَّ وجلَّ عليه خِلَعِ العناية، أو يطرِّزه بطرز المقربين، أو يجمِّله بجمال المحبوبين، أن يكون ظاهراً وباطناً على خُلُقِ سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
فإذا استطاع العبد أن يجاهد نفسه في هذا المقام، نال هذا المرام، وكان من المجتبين المصطفين على قدم الوراثة لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم. فإن باب الجهاد في العبادات؛ هو لنيل الدرجات العالية في الجنَّات، وللحظوة بالحسنات والدرجات يوم الميقات. لكن الوصول لمناصب الولاية، ومنازل العناية؛ لا يكون إلا بالأخلاق الكريمة التي كان عليها الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا سـرُّ الدنوِّ، وهذا سرُّ القرب.
فإذا جمَّل العبد بهذه الأخلاق الكريمة وأبهاها، وأعلاها، وأرقاها: أن يكون صدره وقلبه يخلوان من الغلِّ، والغشِّ، والحقد، والغيظ على خَلْقِ الله. ولذلك؛ فإن أول درجات الأولياء يقول فيها ربُّ العزَّة في قرآنه: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [43الأعراف]. ليس في صدورهم غلٌّ ولا حقد لأحد.
يقول ربُّ العزة عزَّ شأنه، فيما ورد لسيدنا إبراهيم عليه السلام: { أَنْ يَا خَلِيلِي، حَسِّنْ خُلُقَكَ، وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلْ مَدْخَلَ الأَبْرَارِ}[3].
ويقول الإمام أحمد البدوي رضي الله عنه: (التصوف حُسْنُ الخُلُق، فكل ما زاد عليك في حُسْنُ الخُلُقِ فقد زاد عليك في الصفاء). وحسن الخلق لا يكون إلا بالعمل بكتاب الله، والتأسي بحبيب الله ومصطفاه، وأعلاه وأرقاه أن يعمل بقول حبيب الله ومصطفاه في معنى حديثه الشريف: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ كَانَ عَلَى خُلُقِهِ}. وفي ذلك يقول إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:
تخلَّق بأخلاق الإله وحافظن |
على منهج المختار في العقد تنسق |
فالإنسان الذي ما زال يحنق على هذا، ويغتاظ من هذا لشيء في نفسه، ويحدث في صدره كمدٌ أو همّ من فلان أو فلانه لشيء في نفسه، فإن مثل هذا يحتاج إلى المراهم القرآنيَّة، وإلى البراشيم المحمديَّة؛ حتى يكون كما قال الله في عباده في الآيات القرآنية: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [134آل عمران].
وِلايَـــــةُ اللهِ
متى يصل المرء إلى مقام المحبَّـــة؟ إذا انتهى من مقام كظم الغيظ، ومن مقام العفو، حتى يحبَّه الله، ويصير من أهل ولاية الله عزَّ وجلَّ في علاه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهو قادرٌ علـى أَنْ يُنَفِّذَهُ، دَعَاهُ الله علـى رُءُوسِ الـخلائقِ يومَ القـيامةِ، حَتَّـى يُخَيِّرَهُ من أَيِّ الـحُوْرِ شاءَ}[4]، وفى رواية: {فَخَيَّرَهُ أَيَّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ}[5].
الْمَقَامَــاتُ الْعُلا
فكان صلى الله عليه وسلم هو الأوحد في الأخلاق الإلهية، وهو الباز الأشهب في التخلق بالأخلاق القرآنية، فعرضه الله عزَّ وجلَّ على الأنبياء السابقين – ومنهم من لم يصبر على أذى قومه، ومنهم من دعا بإهلاك قومه، ومنهم من تمنَّى على الله عزَّ وجلَّ أن ينزل كذا وكذا من أنواع الهلاك بقومه – فسلَّموا وعظَّموا صاحب هذا الخُلُقِ النبيل، وعرفوا أنه هو الأستاذ الجليل عند الله عزَّ وجلَّ في كريم الخصال، وفي جميل الأخلاق، وفي حسن السجايا والطباع .. صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا يا أحبابي ويا إخواني: كان مفتاح العُلا لمن أراد أن يكون له منزلة عند الله ومقامات علا، هي الجهاد في الأخلاق. والجهاد في الأخلاق لا يكون إلا في وَسَطِ الخَلْق، فإن من أراد أن يعتزل الخلق ويعبد الله عزَّ وجلَّ، ربما سقط في الامتحان إذا تعرض للخَلْق، لكن سيِّد الخَلْقِ صلى الله عليه وسلم كان صاحب هذا المقام العظيم في القرب من الله عزَّ وجلَّ.
إذن فإن سرَّ هذه الليلة هو إظهار محاسن أخلاقه، وإظهار جميل طباعه، وحسن سجاياه التي فطره عليها الله عزَّ وجلَّ، وأهمُّها وأعمُّها وأرقاها وأحبُّها؛ أنه تمنَّى لأعدائه الهداية، وتمنَّى لأعدائه أن تلحقهم العناية، ولم يَدْعُ عليهم بالضلالة والغواية، ولا أن تنزل عليهم الكروب، أو أن تحيط بهم الخطوب.
ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ عنه في كلامه المكتوب: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [6الكهف]. أي ما هذه الأخلاق العظيمة العجيبة التي أنت عليها؟!! إن السابقين من الأنبياء والمرسلين أجمعين لم يتحمَّلوا، فمنهم من قال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [26نوح]، ومنهم من كان يطلب لهم سرعة نزول العقاب، أو أن يسرع الله عزَّ وجلَّ بإهلاكهم، لكنك لم تصبر على آذاهم وحسب، بل إنك دائماً تقول: {اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُون}[6]. ويطلب من الله لهم المهلة، ويطلب من الله عزَّ وجلَّ لهم الهداية.
وكذلك الأمر الأعظم عندما جاءه الأمين جبريل، وقال له: يا محمد، الكريم يدعوك إليه، قال: يا أخي يا جبريل ماذا يفعل بي؟، قال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [2الفتح]. وهنا يُظهر الله وسعة رحمته، ومكنون شفقته، فلم يكن يبحث عن نفسه قطّ، ولم يهتم بأمر نفسه لحظة من ليل أو نهار، فقال: يا أخي يا جبريل الكريم يدعوني إليه!! فماذا يفعل بأمتي؟ اهتم بأمر أمته.
وهكذا كان شأنه وحالته، فإن الله عزَّ وجلَّ أعلى أمره وأظهر شأنه؛ لأنه لم يهتمّ بنفسه، وإنما كان جُلُّ اهتمامه بغيره، سواء من الكافرين بدعوة الله لهم بالهداية، أو من المؤمنين بأن يدعو الله ليغفر لهم ويسامحهم، ويتجاوز عن أخطائهم، وأن يعمَّهم برعايته، وأن يجعلهم جميعاً من أهل ودِّه وكرامته.
فقال الله عزَّ وجلَّ لجبريل قل له: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [5الضحى]. قال: يا أخي يا جبريل، الآن طاب قلبي، ها أنا ذاهب إلى ربِّي.
حبيب دعـــاه الله للقرب واللقا |
ومنه دنا لطفاً ثم حيَّـــــــــــاه |
|
وناداه يا محبوب ذاتي ونورها |
تنعم بنور الوجه إني أنا الله |
|
عليك لقد صلَّيت بالذات منَّـــــة |
وأوليتك الرؤيا وما ترضـــــاه |