Sermon Details

يا لله .. يا الله .. يا الله، نسألك سبحانك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وعملاً رافعاً، ولساناً ضارعاً، ونعوذ بك من علم لا ينفع, ومن قلب لا يخشع، ومن لسان لا يضرع، ومن دعاء لا يسمع، يا رب العالمين.
الحقيقة يا أحبة: أعظم أمانة تسببت – لما تركناها – في فساد العلاقات، وفي سوء المجتمعات، أمانة الكلام .. أمانة اللسان. أمانة اللسان التي شدد الله عزَّ وجلَّ عليها ، وطلب من المؤمن أن يتحرى عليها، ويعلم قول ربِّ العالمين: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (18ق).
ما هذه الأمانة؟ … الإنسان ما سمِّي إنساناً – على قول – إلا من الأُنس؛ لازم يأنس بإنسان، يحدث للإنسان منا مشكلة فلا يستريح إلا إذا حكاها لإنسان آخر، يفضفض فيستريح. ماذا يحتاج هذا الموضوع في ذلك الوقت؟، يحتاج إلى قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (المجالس بالأمانات)[1].
أول شيء ربىَّ النبيُّ أصحابه عليها: “حرمة المجالس”. جلست في مجلس فلا تحكي لأحد ما دار في هذا المجلس. لماذا؟ حتى تكون رجلاً أميناً.
يجلس المرء في المجلس وقد يقال كلمة نقض لأحد في المجلس – كلمة نقض بناء – فيجعل من نفسه صديقاً حميماً له ويبلغه بهذا الأمر، لكن بطريقة أخرى، يعمل مونتاج للكلام، يكبَّر في هذا ويصغَّر في هذا!!!. هذا الكلام لم يكن موجوداً عند أصحاب حضرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لأن الذي ربَّاهم على هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّمٍ، ولذلك كانوا في أمانٍ واطمئنان.
حدث خلافٌ ذات مرة بين سيدنا سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فرجل ذهب لسيدنا خالد وقال له: أما علمت ماذا قال عنك سعد؟!!، فقال له: وماذا قال؟ قال: كذا وكذا وكذا، فقال له – لا، لم نتربَّى على مثل هذا: {إن ما بيننا لم يبلغ إلى ما قلت}. نحن نختلف والخلاف وارد، لكن الخلاف لا يُفسد للود قضية. الخلاف لا يجعلني أهاجم أخي، أو أحطُّ من قدره، أو أُشنِّع عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلَّم قال: (من قال على مسلمٍ كلمةً ليشينه بها – يعني ليُعيِّبه بها – أردغه الله طينة الخبال في جهنَّم يوم القيامة)[2].
كيف تقول في مسلم كلمة ليست موجودة فيه؟ فأنت كمسلم ينبغي أن تستر أخاك المسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)[3]. افرض أن لسانه زلَّ وأخطأ، ما الواجب عليك؟ أن تستر، لأن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)[4].
فينبغي على المؤمن حفظ أسرار المجلس، ونفرض أن أحداً تكلم معي، حضرة النبي أعطانا علامة قال فيها صلى الله عليه وسلَّم: (إذا حدَّثك أخوك بحديث ثم التفت – يعني يراقب لعل أحداً قد يأتي فيسمعه، فتعرف أنها أمانة، أو يكلمك بصوت منخفض وينظر هنا وهناك فإذا دخل أحدٌ وقف عن الكلام، فهذا معناه أن هذا الكلام سرٌّ – إذا حدثك أخوك بحديثٍ ثم التفت فهي أمانة)[5]. فالمفروض أن لا تذيع هذه الأمانة.
ومثلها تماماً الأمانات التي انتهكها الناس، وانتهكوا حرماتها في زمننا هذا!!. الرجل مع زوجته في حجرتهما وفي بيتهما، وفي ستر الله وفي غطاء الله، فلا ينبغي أن يقول شيئاً مما سمعه منها أو فعله معها، وهي نفس الشئ. فالآن يجلس النساء مع النساء في المكاتب، وأحياناً الرجال مع النساء، ويقولون: بالأمس حدث كذا وأول أمس حدث كذا، فهؤلاء ما موقفهم؟ قال صلى الله عليه وسلَّم فيهم: (شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة: الرجل يُفضي لزوجته، وتُفضي إليه ـ يعني يُفضي لها بحديث أو يُفضي لها بمسألة الجماع ـ ثم تُصبح فتنشر سرَّه وينشر سرَّها)[6].
وحذَّر ذات مرة من هذا الأمر، فواحدة من السيدات – من نساء الأنصار، ونساء الأنصار كُنَّ متفقهات في الدين، ولذلك قال فيهن صلى الله عليه وسلَّم: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهنَّ في الدين)[7]. ولكن باللطف فلا توجد الألفاظ الجارحة الخادشة للحياء. فكان صلى الله عليه وسلَّم إذا تحدث عن شئون الجنس كان يتكلم كما يتحدث القرآن، أى يتحدث بالكناية أو بالرمز أو بالإشارة، أما إذا كان الكلام واضحاً وجارحاً، فهذا حرمَّه دين الله وشرع الله ونبيُّ الله.
فقالت واحدةٌ منهن: إنهم يا رسول الله ليقولون ـ يعني يقولون هذا الكلام ـ فقال صلى الله عليه وسلَّم: (فمن تفوَّه بذلك فهما – وانتبه معي – كشيطان وشيطان أصابا بعضٍ على قارعة الطريق والناس ينظرون)[8]. فهذان مثلهما كاثنين فعلا الفاحشة أمام الناس والناس يطلعون عليهما. فما المطلوب؟، هذا الموضوع يجب أن يكون فيه الحياء والسكن.
فهذه الأمور لا ينبغي ذكرها لا في قليل ولا كثير، فإذا تزوجت البنت فلا ينبغي لأمها أن تسألها: ماذا فعل معك زوجك الليلة؟، أو ماذا فعل معك بالأمس؟. ما شأنك وهذا الموضوع؟!!، فلا البنت تحكي لأمها ولا لأختها، فهي عادات إنتشرت في المجتمعات وأصابت المجتمع الإسلامي في الصميم، لأنها أدَّت إلى إنعدام الحياء ولو قليلاً، لأن الحياء من الإيمان، والحياء لا يأتي إلا بخير. تريدين أن توصيها فأوصيها قبل الزواج كما تريدين، لكن لو تزوجت فإياكِ أن تسأليها.
وإذا كان حضرة النبي حذَّرنا أنه لو حدث شئٌ بين الرجل وزوجته فلا نسأله ولا نسألها عن السبب، لماذا؟، قال: ربما يكون أمراً خاصًّا لا ينبغي أن أطلع عليه، يعني لا أقول له: لماذا أنت غاضب من زوجتك؟، لكن إذا هو إنتدبني لذلك فلا مانع، ولكن من البداية لا يجب أن أسأله: لماذا أنت غاضب من زوجتك؟، ولا أسألها: لماذا زوجك غاضبٌ منكِ؟، لأنها أمور ينبغي أن تكون بينهما وأن تُعالج بعيداً عن أهلهما.
فإذا استطعنا أن نعلِّم هذا الجيل على ذلك فسيكون جيلاً سعيداً إن شاء الله، لأننا نريد أن يعيشوا في سعادة، فيحلُّوا مشاكلهم بأنفسهم، وحتى لو عندهم أولاد فالإسلام يقول لهم: لا يعالجوا مشاكلهم أمام الأولاد، فبعد أن يهدأ الزوج والزوجة – إذا حدثت مشكلة يدخلاً حجرة نومهما ويغلقا بابها، ويجلسا معاً يتفاهما معاً – لأن الأولاد لا يستطيعوا تحمُّل هذه المشاكل، وقد يُثار عندهم أزمات نفسية لما يرونه من عدم توافقٍ بين الأب والأم.
فهذه الأمور التي حرص عليها الإسلام حرصاً تاماً، وهو كتمان الأسرار، وكان السادة الحكماء يقولون: (صدور الأحرار قبور الأسرار). إذا حكى واحد لي قصة أو مشكلة فكأني لم أسمع، حتى كانوا يعلمون أبناءهم فيقولون له: [إذا دخلت بيتاً يا بُنيَّ – لأى إنسان قريب أو جار أو غيره – فتدخل أعمى وتخرج أبكم]. لماذا؟!!، حتى لا يتطلع في البيت، ماذا بداخله، وماذا هنا؟ وماذا هنا؟ – لأن هذا الكلام موجودٌ الآن، ولكننا نحتاج لهذه الآداب، وهي ليست موجودة في المدارس، ولكن نحن الذين نلتزم بتدرسها لأبنائنا وبناتنا – وبعد خروجه يكون أبكماً، يعني لا يحكي شيئاً مما رآه. لماذا؟، لأن الإسلام يأمر المسلمين أن يكونوا على قدر المسئولية، وأول المسئولية حفظ الأمانة.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان عنده صبيٌّ صغير، وأمه عندما حملت به نذرت – وكان ذلك قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلَّم للمدينة – فقالت: يا رب إذا رزقتني بغلام فسأجعله خادماً للكعبة، فرزقها الله بالغلام وأسمته أنساً، وعندما بلغ عشر سنوات هاجر النبي إلى المدينة فأسلمت .. وهي السيدة أم سليم رضي الله عنها. أخذت بيد الولد وقالت: يا رسول الله إني كنت قد نذرت أن ابني هذا يكون خادماً للكعبة، وما دُمت أنت قد بُعثت فجعلته خادماً لك ـ وكان عمره عشر سنوات. رأته يوماً ماشياً فسألته: إلى أين أنت ذاهب يا أنس؟ فقال لها: حضرة النبي أرسلني لطلب، فقالت: وما هو؟ قال: لا ينبغي أن أُفشي سرَّ حضرة النبي. فاحتضنته وقبَّلته وقالت له: هكذا فكن. أولاد تربوا من البداية على كتمان الأسرار. فكتمان الأسرار يحفظ المجتمع من الشرور والآثام.
ونقل الكلام وزيادة الكلام، وهي الأمور التي تؤدِّي إلى الأحداث العظام التي نراها على مدى الأيام، وسببها كلمة!!، كلمة واحدة تؤدي إلى عداوة بين واحد وآخر، وتمتد العداوة فتكون بين عائلة وأخرى، أو بين بلدٍ وأخرى، بسبب كلمة واحدة، فلذلك حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم قال لنا: (المجالس بالآمانات)[9]. فأى مجلسٍ .. المؤمن يجلس فيه يكون أمانة.
المجلس الوحيد الذي يُطالب فيه بإذاعته، هذا المجلس الذي نحن فيه الآن: (بلغوا عني ولو آية)[10]، (فليُبلغ الشاهد منكم الغائب)[11]. فهذا الذي من المفروض أن تبلغه، تجلس مع واحد فتقول له: اليوم سمعنا درساً في كذا وكذا، أو الموضوع الذي تكلم فيه الخطيب اليوم عن كذا، فهذا الذي أمرنا الإسلام بإذاعته وإشاعته، لكن الأحاديث الخاصة – إن كان في المنزل، أو مع الجماعة، أو مع أى فرد من أفراد الجماعة، الإسلام يعلم أهل الإسلام أجمعين أن يكونوا أمناء على هذه الأسرار.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
*************************
[1]
[2] روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال). وزاد الطبراني (وليس بخارج)، والحاكم بنحوه.
[3] روى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
[4] متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وشبك بين أصابعه).
[5] روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة).
[6] أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه). وفي رواية: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها). وروى البزار عنه مرفوعا: (ألا عسى أحدكم أن يخلو بأهله يغلق باباً ثم يرخي ستراً ثم يقضي حاجته، ثم إذا خرج حدث أصحابه بذلك. ألا عسى إحداكن أن تغلق بابها وترخي سترها، فإذا قضت حاجتها حدثت صواحبها. فقالت امرأة سفعاء الخدين: والله يا رسول الله إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون. قال: فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك كمثل شيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق فقضى حاجته منها ثم انصرف وتركها).
[7] روى البخاري في صحيحه عن ﻣﺠﺎﻫﺪ رضي الله عنه قال: “ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻟﻌﻠﻢ مستح ﻭﻻ ﻣﺴﺘﻜﺒﺮ”، ﻭﻗﺎﻟﺖ أم المؤمنين ﻋﺎﺋﺸﺔ رضي الله عنها: (ﻧِﻌﻢَ اﻟﻨﺴﺎءُ ﻧﺴﺎءُ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﻟﻢ ﻳﻤﻨﻌﻬﻦ اﻟﺤﻴﺎء ﺃﻥ ﻳﺘﻔﻘﻬﻦ ﻓﻲ اﻟﺪﻳﻦ). روى البخاري ومسلم قالت أمُّ سُلَيم رضي الله عنها: “يا رسولَ اللهِ إنّ اللهَ لا يَستَحِي مِنَ الحَقّ، هَل على المرأةِ مِن غُسْلٍ إذا هِيَ احْتَلَمَت؟“. فقال لها الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم: نَعم إذا رأت الماء).
[8] أخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال: لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرم القوم أي بفتح الراء وتشديد الميم أي: سكتوا من خوف ونحوه، فقلت: أي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن. قال: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون).
[9] كشف الخفاء رواه الديلمي والقضاعي والعسكري عن علٍّي رضي الله عنه ورفعه، ورواه أبو داود، والعسكري أيضاً عن جابر بن عبد الله رفعه: (إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق).
[10] روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
[11] روى البخاري عن عن أبي بكرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب).