Sermon Details

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله .. والصلاة على سيدنا محمد بن عَبْدِ الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالي: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21الأحزاب). هذه الآية عندما نزلت, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وطنوا أنفسكم على الحال الذي كان عليه سيدنا رسول الله. ما الحال الذي كان عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وراودته الجبال الشم من ذهب عن نفســـه فأراها أيما شــــمم
فذاتك النور نالت من لطافتها ما دونه وقفت ذات الملائكة
ملك الجبال نزل إليه وقال يا محمد إن شئت أحول لك جبال مكة ذهباً وفضه. فقال: لا, أجوع يوماً وأشبع يوماً خيراً منها. لماذا؟ فقال: إذا جُعْتُ صَبَرْتُ فَنِلْتُ أَجْرَ الصَّابِرِين, وإذا شَبَعْتُ شَكَرْتُ فَنِلْتُ أَجْرَ الشَّاكِرِين!! أريد أن أكون يوماً صابراً ويوماً شاكراً.
ودخل عليه سيدنا عمر بن الخطاب ذات يوم وهو نائم على حصير, وليس حصير بلاستك كما هو موجود اليوم!! لأن البلاستك لين, بل حصير بردة, وقد أثر الحصير في جنبه الشريف، له خطوط وعلامات!! فقال: يا رسول الله، كسرى وقيصر وهما عدوا الله يفترشون البساط والحرير والقطيفه وأنت حبيب الله وصفيُّه تنام على حصير حتى يؤثر في جنبك!! فقال صلى الله عليه وسلم: أنت الذي تقول هذا الكلام يا عمر!! فماذا يقول غيرك؟!! عجباً لك يا عمر!! (أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهم في حياتهم الدنيا)[1]. هذه حياتهم وجنتهم وأخراهم وكل ما لهم عند الله أخذوه في الدنيا. (يا عمر، كيف أنعَّم وقد التقم صاحب القرن قرنه).
صاحب القرن سيدنا إسرافيل عليه السلام، وهذا القرن العالم المحيط بالسموات السبع والأراضين السبع وكلِّ شئ، وله فتحة على فم إسرافيل عليه السلام: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) (68الزمر). والقرن بمعنى الصور، وهو العالم المحيط بالسموات السبع والأراضين السبع.
يقول صلى الله عليه وسلم له: (كيف أنعَّم وقد التقم صاحب القرن قرنه، وأحنى جبهته – أى: استعد وفتح أذنيه – بمعنى: أصغى أذنيه – ينتظر أن يأتيه الأمر من الله بالنفخ فينفخ) [2]، أي أنه مستعد للنفخ وجاهز، فبماذا أتنعم؟ هذه كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, الزهد في الدنيا!! وليس كما يقول بعض المغفلين أنه كان فقيراً!! أنهم لا يعلمون شيئاً في الدِّين, أنه كان أَغْنَى الأغنياء!! هل يوجد رجلٌ فقير يسأله سائل: أعطني مما أعطاك الله, فيعطيه خمسمائة جمل!! هل هذا فقير؟!! الذي يعطي خمسمائة جمل!! ورجل آخر يقول له: أعطني مما أعطاك الله، يعطيه غنماً تسدُّ ما بين جبلين, تسدُّ الطريق ما بين جبلين، هل هذا فقير؟!!! إنه كان كريماً، كل ما يأتيه يُخرجه!! وكل من يراه يحسبه فقيراً!! وليس بفقير، ولكن قالوا:
تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوْ أَنَّهُ ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَـمْ تُطِعْهُ أَنَامِلُه
يداه على الدوام مبسوطة مع الله.
يُمْنَاكَ تَهْمِي بِالعَطَا وَتَجُودُ وَسَمَا بِنِسْـــــــــبَتِهِ إِلَيْكَ الجُودُ
كانت يداه على الدوام مبسوطة للطالبين والسائلين. لكن هو صلى الله عليه وسلم لا يطلب شيئاً من الله إلاَّ ويعطيه الله, بل إن الله عزَّ وجلَّ – لحبِّه له صلوات الله وسلامه عليه – لا ينتظر حتى يطلب منه وإنما يلبِّيه الله عزَّ وجلَّ قبل أن يرفع لسانه بالحركات والكلمات، لأنه عزيزٌ على الله، وكريمٌ على الله عزَّ وجلَّ.
إذا كان عندك ابنٌ مؤدب ومطيع ومستقيم، هل تنتظر أن يطلب منك شيئاً وأنت تعلم أنه يستحي؟!! فترى أنت من نفسك ماذا يريد وتعطيه له، لأنه لا يطلب حتى لو احتاج فإنه يستحي. فما بالكم بسيِّد الأولين والآخرين في الأدب عند حضرة ربِّ العالمين عزِّ وجلَّ!!! فتابعه أصحابه صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، وعلموا أن الدنيا ليست بدار مقيم، وإنما هي برهة قصيرة ويرتحلون إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين, وعلموا أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
المؤمن الذي ينظر إلى الجماعة الكافرين ويريد أن يتنعم مثلهم ويريد أن يعيش عيشتهم، ويريد أن يتابعهم في أكلهم وحياتهم – فهذا لا يسيرعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأنه يأتي هناك وليس معه شئ!!! من قال هذا الكلام؟ الله عزَّ وجلَّ. ماذا قال؟ اسمعوا هذا الحديث وعوه, قال:( إذا أبغضت عبداً – ومعنى عبداً أي الرجل, ماذا يحدث؟ – أصححت له جسمه – لا يشتكي من رأسه أبداً، ولا يشتكي إلى أحد).
لكن المؤمن غير ذلك, سيدنا رسول الله خطب إمرأة وأخذ يصفها أبوها للنَّبِيِّ يريد أن يُعْلِمَه أنه لا يوجد مثلها – فقال: يا رسول الله ما اشتكت وجعاً في رأسها!! فقال له النبيُّ: خُذْ ابنتك ماذا أفعل بها؟!! لماذا؟ لأنه دليل على غضب الله!! (إذا أحب عبداً – إبتلاه – عبداً أصححت له جسمه، ووسَّعتُ عليه في معيشته – يأخذ ما يريد، مثل الأمريكان والإنجليز والأوربيين، هل يوجد أحد منهم يريد شئ من الدنيا أبداً؟ لماذا يا ربِّ؟ قال: حتى لا تبقى له حسنة يطالبني بها يوم القيامة, فإذا بقيت له حسنات خففت عليه سكرات الموت، حتى يخرج من الدنيا وليس له حسنة يطالبني بها.
قال: وإذا أحببت عبدي المؤمن اسقمتُ له جسمه، وضيَّقتُ عليه في معيشته وأحاسبه بمثاقيل الذر, لماذا؟ قال: لا تبقى عليه سيئة واحدة عند الموت). يطهِّره إذا اشتكى، فمثلاً ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم: (مرض يوم يكفر ذنوب سنة).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
**************
[1] صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه.
[2] روى الإمام أحمد عن أبي سعيد بلفظ: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر).
2 ترعة ناصر مركز إسنا – بمناسبة الإسراء والمعراج 22/1/1992