الحمد لله ربِّ العالمين، الأحدي الذات، الأبدي الصفات، الصمديّ في جلاله وعزته من قبْل القبْل إلى ما بعد نهاية النهايات. سبحانه .. سبحانه، لا تحيط به الجهات، ولا تستطيع أن تعبر عن ذاته الكلمات ولا العبارات، بل ولا تلحق بجلال عزته الإشارات!! استوى على عرشه بما شاء، وكيف شاء، لأنه سبحانه وتعالى في عزته منزه عن جميع الأشياء. لا يحلّ في الأشياء، ولا تحل فيه الأشياء، بل إنه سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (11الشورى).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قُرْبه من العرش كقربه من الفرش، فكما أنه عزَّ وجلّ ما مسَّ الترابَ ولا حَسَّهُ ولا جَسَّهُ ولا مَسَّهُ، فهو سبحانه وتعالى ما مسَّ العرش ولا حسَّهُ ولا جسَّهُ ولا مَسَّهُ، وإنما العرش محمول قدرته ومعمول حكمته وهو محمول بقدرته سبحانه وتعالى، لأنه عزَّ وجلّ تعالى عن الأشياء، كما تعالى عن الجهات، كما تعالى عن الأزمان: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (82يس).
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُهُ ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، هذَّبه الله وصفاه، وشق صدره وأخرج منه قلبه وطهره ونقاه، وملأه بالأنوار الربانية، والحكم الروحانية التي هيئه بها للإطلاع على العوالم الغيبية، حتى صار قاب قوسين أو أدنى في مقامات القرب من الله عزَّ وجلّ.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب لواء الحمد، وسر اللواء المعقود لجميع الرسل، للوفاء بالعهود، وباب الله عزَّ وجلّ لكل عبد يريد أن يهتدي لطريق المعبود، ومفتاح باب الخلود لمن كتب الله عزَّ وجلّ لهم السعود.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه صلاة تمنحنا بها سكينة في نفوسنا، ومننا في قلوبنا، ونوراً في أرواحنا، وتجعلنا بها من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين، آمين يا ربَّ العالمين. أما بعد…
فيا أيها الأخوة المؤمنون:
أخذت أتأمل في العبارات الموجزة التي وصف الله بها عزَّ وجلّ رحلة الإسراء والمعراج، والموافق يومها اليوم الذي نحن فيه، فاحترت وتعجبت لأن هذه البرقية القصيرة التي لا تزيد عن سطر ونصف، جمعت فأوعت، جمعت كل شئ يتعلق بهذه الرحلة، سواء عن صاحبها، أو ما دار من الخلاف بين المختلفين من بعده، هل كان بالروح أو بالجسم أو بهما معاً؟ وسواء فيما يتعلق بكيفية رؤيته لهذه الحقائق في هذه البرهة من الزمان، كل شئ يتعلق بهذه الرحلة المباركة ذكرته هذه الكلمات القصيرة: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (1الإسراء).
فأول شُبهة يعترض عليها أصحاب العقول وردّدها المستشرقون فيما بيننا – لأنهم يحكمون بعقولهم في الأشياء ولا يدرون أن العقل الذي يحكمون به لا يعلمون عنه إلى يومنا هذا قليلاً ولا كثيراً!! أين العقل؟ وكيف يعمل العقل؟ وكيف تُخزّن المعلومات في العقل؟ وكيف تُستحضر الصور من العقل؟ والمناظر والألفاظ المصاحبة لها من العقل؟ لا يعرفون حتى يومنا هذا لا قليلاً ولا كثيراً عن هذا الأمر.
عرفوا المخ وهو الذي يُسيّر الجهاز العصبي في جسم الإنسان، لكن العقل بما فيه من ذاكرة، وما فيه من حافظة، وما فيه من قوة خيال، وما فيه من قوة تصور، وما فيه من إدراك، أين هو؟ لا يعلمون ولن يعلموا إلا إذا علَّمهم الله عزَّ وجلّ وكاشفهم ببعض ما فيه، فإذا كنا لا نعلم شيئاً قليلاً أو كثيراً عن العقل فكيف نحكّم العقل فيمن صنعه؟
وكيف نحكم بهذا العقل على مَنْ خلقه؟ وكيف نجعله حاكماً على مَنْ أوجده؟ إن هذا لهو الضلال البعيد الذي وقع فيه الكافرون، وأرادوا أن يرددوه بيننا جماعة المؤمنين، ولكن الله عزَّ وجلّ يحفظ عباده المؤمنين من الزيغ، لأنهم يقولون في كل وقت وحين: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (8آل عمران).
فبدأ الله العبارة بقوله: (سبحان الذي أسرى)، أي: نزّهوا الذي أسرى عن الحركات وعن الحيطات وعن الجهات. يعني: إياكم أن يخطر ببالكم أن الله فوق سبع سموات، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم وصل إلى مكان فيه الله!! تعالى الله عن هذا الأمر، وتنزه عن هذا الوصف، فإن الله عزَّ وجلّ موجود في كل الجهات ومحيط بكل الأزمنة والأمكنة، ورسول الله كان يراه وهو على بطحاء مكة، كما رآه في قاب قوسين أو أدنى !!!
وإنما المطلوب في هذه الرحلة أن يصل الحبيب إلى مقام في القرب من الله، لم يصل إليه عبدٌ من عبيد الله، الذين اجتباهم الله واصطفاهم الله عزَّ وجلّ، هذا هو المراد وليس معنى ذلك أن الله فوق فإنه فوق الفوقية وإنه تحت التحتية وإنه في أيمن اليمين، وإنه في أيسر اليسار، وإنه أمام كل أمام، وخلف كل خلف، بل إنه أقرب إلى كل إنسان من حبل وريد الإنسان.
فنسب الله عزَّ وجلّ الإسراء إلى ذاته، لنعلم أن الذي أسرى بعبده ومصطفاه، هو الله عزَّ وجلّ، وما دام الله هو الذي أسرى فلا عجب، لأن قدرة الله صالحة لكل شئ وتصنع كل أمر بسر قوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (82يس). انتهى العجب لأن الرحلة نسبت إلى الله عزَّ وجلّ.
هل كان بالروح أو بالجسم؟ كلام أثار جدلاً كثيراً ردده الكافرون وصدروه إلى جماعة المؤمنين، والله أجاب عنه بألطف عبارة وإشارة، فقد قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (1الإسراء). وكلمة عبد معناها جسم فيه روح وفيه عقل وفيه قلب، وفيه كل الحقائق التي فينا الآن، إما إذا خرجت الروح من الجسم نسميه نسمة، وإذا كان الإنسان روح بلا جسم نسميها نسمة (نسمة يعني روح بلا جسم).
ولذا وجد صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى آدم عليه السلام وعن يمينه نسمة، يعني أرواح لم تخلق بعد، وعن يساره نسمة يعني أرواح لم تظهر إلى الوجود بعد، فإذا نظر إلى من على يمينه ضحك، وإذا رأى من على يساره بكى. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه أرواح بني آدم ونسمهم فإذا نظر إلى أهل اليمين ضحك وفرح، وإذا نظر إلى أهل الشمال بكى وحزن، فالروح بمفردها نسميها نسمة، ولا تظهر بالعين المجردة، ولا نستطيع أن نجالسها ولا أن نحادثها ولا أن نلامسها، ولا أن نصنع معها كما نصنع مع بعضنا الآن!!! فلما قال الله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، كان معنى ذلك أنه بالروح والجسد.
إخواني جماعة المسلمين والمسلمات: هذا هو سرُّ إعجاز هذه الرحلة!!! وإلا فلو رأى إنسان في منامه – فيما يرى النائم – أنه لفّ العوالم كلها وشاهد كل ما فيها من عجائب صنع الله ومن آيات قدرة الله، هل نكذّبه؟!! هل نعترض عليه؟ لا أحد يعترض عليه ولا يكذبه، لأنه رآه في المنام، أما اعتراض الكفار عندما أخبرهم أنه ذهب بروحه وجسده ورجع، ولذا قالوا له تغْدوا إلى بيت المقدس وترجع في أقل من لمح البصر ونحن نضرب أكباد الإبل إليه شهراً ذهاباً، وشهراً إياباً !!!!
وهو صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بالمعراج بعد!! وإنما أخبرهم بالإسراء فقط في البداية علهّم يصدقوه وعلهّم يسلّموا لكنهم لم يسلموا، وهنا أظهر لهم بعض الآيات الحسية التي تدل على صدقه، لقد سألوه عن وصف البيت – وقد دخله ولكن لم يشاهده من الخارج – فرفعه الله عزَّ وجلّ إليه على يد جبريل عليه السلام وأخذ يديره حتى يصف لهم الأبواب باباً باباً، والنوافذ نافذة نافذة، وهم مع ذلك أعماهم الله، فلم يصدقه إلا الصديق!!!! ثم قال لهم: إن إبلكم كانت في مكان كذا وقد شربت مما معهم من الماء، وهل تشرب الروح الماء؟ إن الذي يشرب هو هذا الجسد، ولما رجعت هذه الإبل أخبروهم، قالوا: نعم، كان معنا ماء في جَرّة، وعندما كشفناها وجدنا الماء الذي بها قد نفد ولم نجد حولها ماءاً يدل على أنه قد سُكب، فاحترنا من الذي شربه؟ وكان الذي شربه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هذا البراق الذي ركبه، وهل الروح تركب؟!! إن الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام كان يهبط من فوق سدرة المنتهى إلى الأرض ويصعد في أقل من لمح البصر لا يعترضه شئ ولا يمنعه شئ، وإنما الركوب يكون لهذا الجسم، فهو الذي يحتاج إلى يركبه، فدل الله عزَّ وجلّ بهذه الكلمة الموجزة أن هذا العبد وهو صلى الله عليه وسلم أخذه الله عزَّ وجلّ بروحه وجسمه ليطلعه على ملأه الأعلى، وعلى عوالمه الظاهرة والخفية، حكمة من الله عزَّ وجلّ لا تتجلى إلا للقلوب التقية النقية.
(الذي أسرى بعبده ليلاً): ولو لم يقل الله عزَّ وجلّ كلمة (ليلاً)، لظن البعض أن الإسراء تحقق في أسبوع، أو في شهر، أو في أقرب من هذا أو أقل، لكن كلمة ليلاً تفيد أنه ذهب في هذه الليلة ورجع فيها، لأن تنكير هذه الكلمة يدل على أنه ليل واحد، فالليل الذي ذهب فيه هو الليل الذي رجع فيه، والأمر كله تم في بعض من هذه الليلة الواحدة بنص كلام الله عزَّ وجلّ. ماذا رأى؟ (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) (1الإسراء).
الآيات التي في الملك، والآيات التي في بيت المقدس، والآيات التي في السموات، والآيات التي في العرش، والآيات التي في الكرسي، والآيات التي في الجنة، والآيات التي في النار، والآيات التي في كل العوالم، داخلة في قول الله عزَّ وجلّ (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
وهنا تتعجب العقول كيف ذهب إلى بيت المقدس ثم صعد إلى السموات، سماءً تلو سماء، وما بين السماء والأرض بقدر سفر خمسمائة عام، وبين كل سماء والأخرى قدر سفر خمسمائة عام، وعرض كل سماء قدر سفر خمسمائة عام!!
كيف ذهب إلى كل هذه الأماكن والجهات وما بينها، وشاهد كل ما في عوالم الجنات ورجع وفراشه الذي كان ينام عليه لم يبرد بعد؟!! بل ظل دافئاً كأنه لم يفارقه إلا لحظة قصيرة!! إن الإنسان منا لو استيقظ من ليلة وذهب إلى المرحاض، ليقضي حاجته وأطال بعض الوقت، يرجع فيجد مكانه في الفراش وقد برد لأنه لا يستمر دافئاً إلا للحظات قليلة!!
وحتى لا نتعجل، قال الله عزَّ وجلّ: (إنه – صلى الله عليه وسلم – هو السميع البصير). يعني: {كنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا} (رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن أبي هريرة رواه الطبراني في الكبير).
فكان في هذا الوقت يبصر بنور الله!! ويسمع بنور سمع الله!! ويتكلم مع كل هذه الحقائق لأنه كلم جميع الأنبياء والمرسلين، وكل نبي له لغة كلغة قومه، وتكلّم مع جميع أصناف الملائكة، ولكل صنف منهم لغة مخصوصة، علمها لهم الله عزَّ وجلّ، بل تكلم مع الحقائق العالية مع العرش ومع الكرسي، ومع الجنات، بلغاتها!! كيف كان ذلك؟!!
إن الله عزَّ وجلّ أعطاه نوراً من نوره في بصره، فجعله يبصر ببصر الله، وأعطاه نوراً من عنده فى سمعه فصار يسمع كل هذه الأصوات فى مختلف الجهات بسمع الله عزَّ وجلّ، وأعطاه نوراً من عنده في لسانه، فصار يتكلم مع الجميع في وقت واحد على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم.
وهذا أمرٌ لا يعجب له المؤمن!! لأن الله يقول في الحديث القدسي لنا معشر المؤمنين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين: {ومَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَـيَّ بالنوافلِ حَتَّـى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كنتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِـي يَبْطُشُ بِهَا، ورِجْلَهُ الَّتِـي يَـمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِـي عَبْدِي أَعْطَيْتُهُ، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِـي لأُعِيذَنَّهُ} (عن أبي هريرة في الفتح الكبير وصحيح البخاري).
فإذا فإذا كان هذا يتفضل به الله على عباد الله المؤمنين العاديين، فما بالكم بسيد الأولين والآخرين؟!!!
هذه العبارة يا إخواني لفتت نظري!! فلو جمعت وسائل الإعلام في العالم كله بمختلف أجهزتها وما معها من وسائل تكنولوجية وقوى عصرية على أن ترسل برقية تشرح فيها هذه الرحلة بمثل هذه الكلمات النورانية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً!!!!
لكنه صنع الله!! وأمر الله يحكي هذه القصة الغريبة العجيبة، ويرد على كل ما دار في أذهان المؤمنين وغيرهم بكلمات قصيرة، وألفاظ يسيرة، وهذا إعجاز القرآن الذي نزل به الحنّان المنّان على النبي العدنان صلى الله عليه وسلم!!!
قال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ} (أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري). ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين حمداً يليق بجمال وجهه وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جملنا بجمال العبيد المقربين بحكمه العلية، والمسلمين لأنواره وحكمه الربانية، وأرجو منه رضاه عنا عزَّ وجلّ في الحياة الدنيوية وسعادته في الحياة الأخروية. وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، اختاره الله لرسالته، وربَّاه الله على عينيه، وجعله نبيًّا خاتماً، واختاره لنا وجعله إمامنا في الدنيا وشفيعنا في الدار الآخرة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، صلاة تذهب عنا بها الغفلات، وتحي قلوبنا فيها بآيات الله البيِّنات، وتجعلنا بها نتعلق بكل حركاتنا وسكناتنا بنور الله النازل إلينا. آمين. آمين يا ربَّ العالمين. أما بعد..
فيا إخواني وأحبابي:
إني أهيب بنفسي وأهيب بكم، أن تطالعوا قبساً من أسرار هذه القصة بتدبر وتفكر، فإن فيها الشفاء لكثير من أمراضنا الاجتماعية، وفيها الدواء لكثير من مشاكلنا النفسية والعائلية، وفيها الحل الأمثل للقضاء على ما نحن فيه من نكد العيش، ومن هموم الأمراض، ومن تعب الأولاد، ومن سلوك الأفراد. كل هذه الأشياء دواؤها ذكره سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة.
ودعونا نذكر مثالاً واحداً ولا نطيل عليكم، لو اتبعناه لسعدنا جميعاً في هذه الحياة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {رأيت جُحْرٍاً صَغِيرٍاً يَخْرُجُ مِنْهُ ثَوْرٌ عَظِيمٌ، فَيُرِيدُ الثَّوَرُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ حَيْث خَرَجَ فَلاَ يَسْتَطِيعُ. قلت: مَا هذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هذَا الرَّجُلُ يَتَكَلّمُ بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَنْدَمُ عَلَيْهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا فَلاَ يَسْتَطِيعُ} (رواه البخاري).
كل مشاكلنا سببها هذه الكلمة، فلو استطاع الإنسان المسلم أن يمسك لسانه إلا عما ينفعه، فلا يخرج منه القبيح، ولا يخرج منه السبّ ولا الشتم، ولا اللعن، ولا الغيبة ولا النميمة، ولا الكذب ولا قول الزور، ماذا يكون حالنا في مجتمعنا؟ إن المحاكم والله ستُغلق أبوابها في ذلك الحين، لأن المشاكل كلها بدايتها كلمة.
كلمة يقولها إنسان تُحرك إنساناً آخر، فيرد عليه بالمثل، ثم يتطاول الأمر فتمتد الأيدي، ثم يتطاول الأمر فتظهر الأسلحة، ثم يكون القتل أو الجرح، وتكون القضية وتكون النيابة وتكون المحاكمات، ما أغنانا عن هذا كله لو أمسكنا بألسنتنا حتى لا يحدث هذا بيننا، ربما يكون أفراد الأسرة جالسين في هناءة بال وفي صفاء حال، وواحد منهم يقول كلمة واحدة تعكر هذا الصفو!! بل تقلب البيت رأساً على عقب كلمة فى غير موضعها أو كلمة في غير محلها.
لكن لو التزمنا بهذه الأوامر الإلهية وكنا كما قال الله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (24الحج). فالمؤمنون هداهم الله إلى القول الطيب، فلا يقولون إلا الكلام الحسن، لأن المؤمن لا ينطق بالكلمة إلا بعد أن يفكر فيها ويتدبر فيها، فإذا كانت له وفي كفة حسناته أخرجها، وإذا كانت ستصير عليه وفي كفة سيئاته منعها من الخروج، قال صلى الله عليه وسلم: {رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْرَاً فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ} (في الزهد عن خالد بن أبي عمران مرسلاً في الفتح الكبير وجامع الأحاديث).
كم من كلمات رفعت أناساً إلى أعلى الدرجات إذا كانت هذه الكلمات لرفع الروح المعنوية، وللحث على هذه المنازل العلية. وكم من كلمات هزّت كيان بشر وجعلتهم يتعرضون للجنون أو يتعرضون للصرع، أو يتعرضون للأمراض النفسية من كلمة واحدة.
جراحات السنان لها التئام ولا يلتئم ما جرح اللسان
وَقْع الكلام أشد على الإنسان من وقع السهام، فلو أمسك المؤمنون بألسنتهم لطابت حياتهم، ولسعدوا في معيشتهم، ولصاروا والخيرات تغمرهم من جميع النواحي، لأن الله عزَّ وجلّ جعل مجتمع المؤمنين مجتمع الكلمة الطيبة، مجتمع الكلمة الصالحة،
أما الكلمة الخبيثة والكلمة السيئة فهي في مجتمع الكافرين، وفي مجتمع الجاحدين، وفي مجتمع المنكرين، لا تصل عدواها للمؤمنين إلا إذا تهاونوا بأوامر هذا الدين المتين، وما داموا متمسكين بأوامر هذا الدين – أسرهم ونساؤهم وأولادهم – حتى يروا ما في هذه السيرة العطرة، وما في هذه الحادثة الكريمة من عبر وعظات، لعّلها تكون نجاة لنا من أهوال هذه الحياة الدنيا.
وقد سبقنا المستشرقون إلى هذا الأمر، فقد أخذوا منها ونهلوا وأعدوا ووضعوا كتباً أبرزتها وسائل الإعلام في العالم كله!! فبعضهم كتب كتاباً سماه (كيف تكتسب صديقاً)، ووزّع هذا الكتاب ووزع منه في الطبعة الواحدة ما يزيد عن 3 ملايين نسخة وبعد الاطلاع على ما فيه وجدنا أن كل ما فيه هو نسخة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تفسير آيات الله، أخذها الكاتب الأمريكي ونسبها إلى نفسه على أنه هو المبتكر لها والمؤلف لها!! وعلى أنه هو الذي يضع أصولاً جديدة للصداقات وتكوين الأصدقاء!!
وهكذا الأمر فكل أمورهم قد أخذوها من الإسلام غير أنهم غيرّوا المسمى ونسبوها لأنفسهم!!
فعلينا جماعة المسلمين أن نرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه الخير لنا في هذه الحياة، والسعادة لنا عند لقاء الله.
نرجو الله عزَّ وجلّ أن يصلح أحوالنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا رشدنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم بارك لنا في أزواجنا وأولادنا وبناتنا، ووفقهم للعمل بطاعتك يا حنَّان يا منَّان، واحفظهم من فتن هذا الزمان، وحصِّنهم بالشرع الشريف وبالسنة والقرآن، واجعلهم من عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، يا ربَّ العالمين.
اللهم اغفر لعبادك المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.
اللهم وفق حكام المسلمين وولاة أمورهم للعمل بشريعتك وتنفيذ سنة خير أحبابك، يا ربَّ العالمين.