الحمد لله الذي فتح أبواب قلوبنا لرحيق حبيبه ومصطفاه، وجعله منا سهل المنال، قريب الأخذ والتناول. والشكر لله على خِزَنِ العطاء التي فتحها لنا الله، والتي لم يتمتع بعشر معشـارنا، وعشر معشارها أحدٌ من السابقين، وخصَّنا بها ربُّنا فضلاً منه ونعمة عزَّ وجلَّ. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، روح أرواحنا، وبهجة قلوبنا، وسرِّ أسرارنا، والباب الأعظم الذي يَفِدُ منه لنا كلَّ هبات الله وعطاء الله، حتى نكون بفضله من رجال الله الدَّالين على الله بالله. صلِّ الله وسلم على صاحب المدد، وسر الإعطاء والإمداد، واليد العظمى الإلهية التي تفضلت علينا بالعطاء والنوال، واجعلنا يا ربَّنا من زمرة هؤلاء الرجال، ومن أهل هذا الحال، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين. أما بعد …
الأمر الأول: أن اجتماعنا في هذه الليلة في هذه الأيام من كل عام؛ ليس القصد منه سماع العلم، فأنتم والحمد لله كلكم علماء بالله، وما أُفْرِغَ على صدوركم من العلم الوهبيّ يملأ جبالاً؛ وإن كنتم أدباً زائداً منكم تستحيون أن تخرجوه وتبرزوه لعباد الله.
نَظَرَاتُ الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى
لكن الغرض الأول من هذه اللقاءات: أن نتلاقى؛ وأن نحظى بنظرة من حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، خاصة أن هذه الليلة .. ليلة النظرة!! فقد وقف على طريقه كما تروى الروايات الصحيحة[1]، امرأة عجوز شوهاء – أي حسناء – وقالت: يا محمد انظرني!! فقال جبريل عليه السـلام: يا محمد لا تلتفت إليها. ووقف رجل وقال: يا محمد انظرني!! فقال جبريل عليه السلام: يا رسول الله لو نظرت إليه لغوت أمتك. ووقف شيخ كبير وقال: يا محمد انظرني!! ووقف رجل آخر …..
ثم قال جبريل: يا رسول الله أما المرأة العجوز الشوهاء فهي الدنيا، ولم يبقَ من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر هذه العجوز؛ ولو نظرت إليها لفتنت بها أمتك، وأما الشيخ فهو إبليس، ولو نظرت إليه لغوت أمتك، وأما الرجل الأول هو داعي اليهود ولو نظرت إليه لتهودت أمتك.
وهنا وقفة: فكثير منا لا يفقه معنى (تَهَوَّدَتْ أُمَّتَك)، أو الرجل الأخير داعي النصـارى: ولو نظرت إليه لتنصرت أمتك، وتهوَّدت يعني: أخذت طباع اليهود – وقد كان يغلب عليهم حُبُّ الدنيا، ويتمسكون بظواهر التشريع – وتَنَصَّرَتْ يعني أخذت حالة النصارى من التروحن والإقبال على الأعمال الصالحات والدار الآخرة وترك الدنيا. وقد جمع الله عزَّ وجلَّ لنا هذين الأمرين؛ نعمل للدنيا، ونعمل للآخرة، وزاد لنا خاصة ونعمل لوجه الله، خصوصية لهذه الأمة المحمدية. فجمع الله لنا خير ما عند اليهود، وخير ما عند النصارى، وزاد لنا – فضلاً منه وكرماً – أننا نعمل ابتغاء وجهه: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [9الإنسان]، وتلك زيادة لهذه الأمة. وكل هؤلاء أمر الله عزَّ وجلَّ جبريل أن يجعل الحبيب صلى الله عليه وسلم لا ينظر إليهم.
إلى من ينظر إذن؟!! قال لنا، وخاطبنا خطاباً تخفق له الأرواح، وتطير من أجله الأشباح، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [104البقرة]. قولوا: انظرنا، (نظرة يا رسول الله)، فنحن أهل النظرة، خصَّنا الله عزَّ وجلَّ بنظرة حبيب الله ومصطفاه، هذه النظرة التي يقول فيها الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ماذا كان حال سيدنا عمر؟!! تقلَّد السيف وذهب ليقتل رسول الله، وهدَّد وتوعَّد، وقال: أقتل محمداً ليرتاح الناس أجمعون منه، ثم نظر إليه صلى الله عليه وسلم نظرة، وهزّه هزَّة، ثم تغير من هذه النظرة من الكفر إلى شديد الإيمان. إنها نظرةٌ نظرها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم!! واجتماعنا هذا من أجل هذه النظرة!! وقد قال لنا فيها إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:
إذا نظرت عيني وجوه أحبتي فتلك صلاتي في ليالي الرغائب
أَسْرَارُ الْنَظْرَةِ
فالفتح والمنح، والعطاء والوهب، كلُّ ذلك يأتي من نظرةٍ واحدة!! نظرةٌ من قلبِ تقيٍّ نقيٍّ، ينظر بنور الله، أو ينظر بعين الله، تبدِّلُ حال المرء إلى حيث لا يدري مقامه أحدٌ إلا مولاه عزَّ وجلَّ!! وشيخنا الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال عن طريقتنا الشاذلية: (نحن نربِّي مريدنا بالنظرة، قالوا وكيف ذلك؟ قال: إن النعامة وكذا السلحفاة لا ترقدان على بيضهما، وإنما ترقد أنثاهما في مكان قريب من البيض، ثم تنظر إليه بعيونها فيخرج منه سيالٌ حراري!!). وذلك لأن البيض لكي يفقس يحتاج إلى حرارة، وكم من الطيور ترقد على البيض نفسه لتمده بالحرارة اللازمة لكي يفقس، وبيض النعامة والسلحفاة تصل إليهما الحرارة من النظرات، فيفقس البيض ويخرج بسبب نظرات الأم من كليهما.
وهذا أيضاً – يا إخواني – طريق الصالحين. نظرة برضا وعطف ووداد؛ ترفع المرء وتجعله يبلغ المُراد، وإن كان مقصِّراً في العمل وتحصيل الزَّاد. ولكن تلزم النظرة برضا!! فالأب أو الأم لمن ينظران برضا؟ لمن يطيعهما، ويبرُّهما، ويسير على خطاهما، فيجعله ذلك صحيح الجسم.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أحبابه، ويصحِّح أحوالهم، ويرقِّي مقامهم، ويجعل حالتهم الروحانية في البهاء والضياء والنور والكمال، مع الأولياء والأصفياء رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا غضب على ابن روحيِّ من أبنائه، تحوَّل إلى الدنيا، يكدِّ فيها ويسعى جاهداً لتحصيلها، ويقاتل من يناوئه ويمنعه من الحصول عليها، ولن ينال منها في الختام إلا ما قدَّره وكتبه الله عزَّ وجلَّ.
ولذلك يا إخواني فإننا جميعاً نحتاج إلى هذه النظرة، وقد حبانا الله عزَّ وجلَّ جميعاً أحوال سيدنا ومولانا رسول الله، فمنَّا من أعطاه الله الحنان، ومنَّا من أعطاه الله الشفقة، ومنَّا من أعطاه الله الولاية الكبرى، ومنَّا من أعطاه الرعاية، ومنَّا من أعطاه الله الزهد، كل هذه النظرات تغذِّيك وأنت في هذا المقام.
كلما لحظتك عينٌ من عيون إخوانك المقربين رفعتك روحانياً، ورقَّتِكَ قلبياً، والحمد لله لا نقول: وأنت لا تشعر، وإنما نشعر جميعاً بذلك الأمر، وهذا هو سبب حرصنا على هذه اللقاءات، ليس من أجل العلم، لأنكم جميعاً وبحمد الله علماء، وقد لا أغالي ولا أبالغ إذا قلت: معظمكم والحمد لله ينطبق عليه قول الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه في سيدنا عبد الله بن مسعود عندما كانوا يسألونه في توصيف أصحابه قالوا: فما بال ابن أم عبد؟ – يعنون بذلك عبد الله بن مسعود – فقال رضي الله عنه: (ذاك رجل مُليء من رأسه إلى مشاشة قدمه عِلْماً).
وأنتم والحمد لله كلكم على هذا الحال، وليت كل واحد منكم يتكرع بعض ما حصله من العلم، وهي علوم لا حصر لها، ولا نهاية لها، سمعها من إخوانه في الوقت الذي سعدوا فيه بصحبتهم. لكنا نريد العمل؛ لبلوغ الأمل، وهذا يستوجب النظرة:
من نظرة واحدة، وهذا هو الأمر الذي أريد أن يثبِّته إخواني جميعاً في صدورهم، وإياكم أن يظنَّ البعض منكم، فأنا أكثركم وأشدُّكم لها حاجة وكلنا ذاك الرجل الذي يقول لمولاه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [24القصص].
كلنا محتاجون!! فمَنْ فينا الذي بلغ الكمال، حتى مَنْ بلغوا الكمال، كمال، وبعد الكمال مزيد، ومَنْ بلغ أعلى درجات الكمال؛
ماذا قال له حضرة الله؟ ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [114طه]. طلب منه الله عزَّ وجلَّ أن يطلب الزيادة، لأن العلم ليس له حدٌّ ولا عـدّ، والله عزَّ وجلَّ فَضْلُه لا يحدُّ، وطلب النظرة يكون ممن؟ هل من الإخوان؟!! وهل الإخوان لهم نظرة؟!! وما قيمتها؟!!
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى أَخِيهِ عَلَى شَوْقٍ؛ خَيْرٌ مِنَ اعْتِكَافِ سَنَةٍ فِي مَسْجِدِي هذَا} (الْحكيم عن ابن عمروٍ رضي الله عنه)، وهذا للنظرة الواحدة!! وقال صلى الله عليه وسلم: {الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لاِنْتظَارِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، وَنَفَسُهُ تَسْبِيحٌ}[2].
وإذا كانت النظرة إلى الكعبة عبادة يستحق بها الإنسان الحصول على عشرين رحمة من الرحمات التي تتنزل على البيت[3] فما بالكم بالنظرة في وجوه الصالحين، وماذا تساوي؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أَحِبُّوا الْفُقَرَاءَ وَجَالِسُوهُم}[4]. وفى رواية: {جَالِسُوا الْفُقَرَاءَ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللهِ لا تَبْعُدُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ}.
والعارف الفرد مَحْبُوبٌ لِخَالِقِهِ فَاتَ المَقَامَاتِ تَحْقِيقاً وَتَمْكِينا
أمطار التفضلات، وكنوز العطاء والهبات؛ مفتوحة للصالحين في كل الأنفاس والأوقات، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لهم: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [39ص]. فجميعنا يحتاج إلى هذه النظرة، وجئنا هنا من أجل هذه النظرة.
ويكفي أن تعلموا أن سيدنا موسى عليه السلام لما طلب من الله النظرة: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [143الأعراف]. والمقام عال، والربُّ أي مقام التربية: ﴿قَالَ لَن تَرَانِي﴾ أي لم يَحِنْ الوقت بعد، وأجلسه على طريق الحبيب ليتمتَّع بنظر الحبيب في هذه الرحلة الميمونة المباركة وقال له: إذا سمعت مؤذن: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ [1الإسراء]. فقف للحبيب صلى الله عليه وسلم على طريق المَسْرى؛ فهناك تنال مناك، وتحظى برؤياك، وتفوز بلقياك، فأخذ يردِّده[5] وذلك لكي يحظى بكثير من النظرات:
وإنما السرُّ في موسى يردِّده ليحظى بحسن مولاه حين يشهده
لكي يرى حسن الله في حقيقة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحمد لله، من يريد الجنَّة يحتاج إلى فضل الله، أما من يريد الله فإنه يحتاج إلى نظرات من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت النظرة حتى من الحاسد تؤثر لأن قلبه مملوء بالضغينة والحقد، فما بالك بالنظرة من قلب مملوء بالنور والرحمة، والشفقة والهداية.
وسيدنا أبو بكر لما مرض سيدنا رسول الله ذهب إليه لزيارته؛ ولشدة تعانق روحه بروحه صلى الله عليه وسلم مرض لمرضه. وقال رضي الله عنه:
مرض الحبيب فعدته فمرضت من نظري إليه
وذلك لأنه يريد أن يفديه بنفسه، ويقول: فداك نفسي وأبي وأمي يا رسول الله، فلمَّا مرض لأنه تمنى أن يكون المرض به ويفدي رسول الله من هذا الداء؛ ذهب إليه صلى الله عليه وسلم عائداً فقال:
مرض الحبيب فعدته فمرضت من نظري إليه
شفي الحبيب فعادني فشفيت من نظري إليه
عندما عاده رسول الله شفي في الحال. وقد كان كلُّ أملهم في نظرة برضا وشفقة وحنان من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر يا إخواني كما هو ظاهر الشريعة هل يدخل أحد الجنَّة إلا برضا (حبيبه)؟ كذلك لا ينال أحدٌ مِنَّةً إلا برضا مُربِّيه، فكما لا ينال أحدٌ الجنَّة إلا برضا أبيه، فلن ينال عبدٌ صادقٌ مِنَّةً إلا برضا مُرَبِّيه. والنظرة هي قصدنا ومرادنا من هذه اللقاءات.
والأمر الثاني – حتى لا أطيل عليكم: أننا إذا تحدثنا معاً عن قبس من الإسراء أو المعراج، فهو باب واسع فيه أدب لأهل الأدب، وفيه معاني لأهل المعاني، وفيه تأويلات لأهل التفسير والتأويل – لكنَّا دائماً معكم نختصر الوقت، ونتحدث عما لنا في هذه الرحلة، وهو السير والسلوك إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لأنها رحلة إلى الله عزَّ وجلَّ. وقد فصَّلها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوضح لنا فيها كيفية السير والسلوك إلى رضوان الله، أو إلى كرم الله، أو إلى نيل عطاء الله، أو إلى لـطف الله، أو إلى أي مقام يطلبه سالك من مولاه عزَّ وجلَّ، ولذلك فإن فيها كل أصناف السَّيْرِ والسلوك الموصلة إلى ملك الملوك عزَّ وجلَّ.
وأيُّ سَيْرٍ إلى الله بدايته مقام التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وشرط التوبة التي بها الأوبة، وبها تُفتَّح الأبواب، ويحبُّك الكريم الوهاب: أن تخلع ما فات، وأن تملأ قلبك بما يُحِبُّه مولاك، وتشغل وقتك كلَّه في العمل بما يُحِبُّه ويرضاه.
فالسير والسلوك وإن كان في الدنيا؛ إلا أنه في عالم الآخرة!! فأي طاعة يعملها المرء؛ فأثناء عمل هذه الطاعة يكون في الدنيا بجسمه لكنه في الآخرة بقلبه، وعقله، ولبِّه، وجميع أحاسيسه ومشاعره. إن كانت هذه الطاعة مجلس علم، أو حلقة ذكر، أو مجلس تلاوة قرآن، أو صلاة بين يدي الرحمن، أو أي عمل صـالح، وقد قال فيها حضرة الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ [153آل عمران].
حال الدعوة عندما كان يذكُّرُهم أين يكونون في هذا الوقت؟ أفي الدنيا أم في الآخرة؟ حسم الله هذه القضية وقال: ﴿ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، مع أنهم في الدنيا! لكن الدنيا عند الله غير ما في أفكارنا وعقولنا.
حَقِيقَـــةُ الْدُّنْيَـــا
فالدنيا عند الله عزَّ وجلَّ هي العمل الذي يكون فيه المرء في واحدة من هذه الخصال: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ [20الحديد]. عندما يكون المرء في عمل من هذه الأعمال يكون في الدنيا!! فإذا كان في لهو يشاهد التلفاز، أو يجلس يأتنس مع قوم في غير علم نافع، أو عمل رافع فهو في لهو، حتى ولو كان يذكر الله، لأن ذكر الله هنا معه مشاغل تمنع من القبول، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقَنُونَ بَالإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ}[6]. وكذلك اللعب إن كان نرداً (طاولة)، أو ورقاً (كوتشينة) أو دومينو، أو ما شابه ذلك فهو لهو ولعب، وقال صلى الله عليه وسلم: {مَنْ لَعِبَ بِالنَرْدِ شير فَكَأنَّما غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرِ وَدَمَهِ}[7].
والدنيا إن كان مشغولاً بها شغوفاً بأهلها، وكل وقته تطلعات في الفترينات، وينظر في الموديلات، وكل نظره يركِّز على ما يلبسه مَنْ حوله، ويسألهم في ذلك وعن ذلك، أو كان همُّه الفخر في نيل المناصب، أو في العلو، أو في الجاه، أو مشغولاً بولده فوق المسئولية التي كلَّفه نحوه بها الله عزَّ وجلَّ وهذا أمر يطول شرحه، وهذه هي الدنيا، وما سوى ذلك فأنت فيه في الآخرة.
هل الصلاة ضمن هؤلاء الخمس؟ لا، إذن أنت فيها في الآخرة، وكذا تلاوة القرآن، وكذا مجلس العلم، وكذا عيادة المريض، وكذا تشييع الجنازة، وكذا أي عمل خير أو صالح تقصد به وجه الله فأنت بعمله في الآخرة ولست في الدنيا كما أنبأ الله عزَّ وجلَّ. فرحلة الإسراء والمعراج رحلة في الآخرة، إذن كي يبدأ الإنسان رحلة السير والسلوك إلى الله؟!!
عليه أن يتوب توبةً نصوحا، شرطها الأول: أن ينقِّي قلبه من مشاغل الدنيا وهمومها، وحظوظها وأهوائها، ويجعل شغله بالله والدار الآخرة، وما أعدَّه الله عزَّ وجلَّ فيها لعباده الصالحين. وليس معنى ذلك أن يترك الدنيا ويترك السعي، ولكني أقول ينقِّي قلبه، فيسعى بجسمه وقلبه مشغول بربه عزَّ وجلَّ، كما قال إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه فيكم وفي الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدىَّ:
نَهَارُ الفتى المحبوب في السعي والبرِّ وَلَيْلُ الفتى المحبوب في الذكر والفكر
نهــــارهمُ يســـــــعون يرضون ربَّهــــــــــــــــم كما أَمَرَ الرحمـــــنُ في مُحْكَـــــــمِ الذكر
يطلبوها كما أمر الرحمن: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ [15الملك].
فالجسم للمطالب والتكليفات الدنيوية، والقلب للذكر والاستعداد للأنوار والتشريفات الإلهية. وإذا لم ينقِّ الإنسان قلبه؛ فلا ينتظم وإن طال به الأمد وصولاً إلى ربه عزَّ وجلَّ. لكن لابد من نقاء القلب، والنقاء يحتاج إلى جلاء، والجلاء وصفه سيد الأنبياء فقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبُ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ، قالوا: فَمَا جِلاَؤُهَا يَا رَسَولَ اللهِ؟ قَالَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ الله}[8]، وفى رواية:{ذِكْرُ الله}.
هل ذكر الله هو حلقات الذكر؟ لا، ولكن ما قال فيه الله: ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [9الجمعة]. وذكرُ الله هنا هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المذكِّر بالله، والمذكِّر بكمالات الله، وبجمالات الله، ورضوان الله عزَّ وجلَّ.
والسعي للمذكر هو المنوط به جلاء القلوب، لأن القلوب لا تنجلي بحركات المسبحة، وربما يمسك شخص بالمسبحة، ويقطع بها ذكراً لفظاً من ألفاظ الجلالة مائة ألف أو يزيد، قال في هذا سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه: (ذكر اللسان شقشقة). وقال في ذلك الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (ذِكْرُ اللسان حسنات)، وأنا أريد القرب، إذن علىَّ أن أوقظ النائم الذي بداخلي؛ وهو وسيلة القرب، وأقول له في بوادي الغنـائم: قم يا نائم). أوقظ القلب من نومة الغفلة بمجالسة الصالحين.
وماذا يفعل الصالحون؟.أعطاهم الله عزَّ وجلَّ النظرات الرحمانيَّة التي بها تنقشع الظلمات عن أفيائنا القلبيَّة.
ليست العبادات، ولا النوافل والقربات، ولكنَّه: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾. من هو؟ الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وإن كان في الحقيقة ليس له أول، ولا آخر، وظهوره عين بطونه، وبطونه عين ظهوره، وهو الرحمن عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾. من أجــــل:
كيف يصلِّي علينا؟ يصلِّي علينا: أي يصلنا بما به وصلنا، فمن الذي سيلهمك معاني التوبة؟ ومن الذي سيملأ تجاويف قلبك بعيون المحبة التي تنفجر فيه، وتظل ترويه، حتى ينكشف عنه الحجاب، فيتمتع بكمالات خالقه وباريه؟!! هو الله.
فأين العمل الذي تملكه ليبلِّغك هذا المراد؟ ومن الذي سيُلهمك بالطريق النافع الميسر لك حتى لا تضل بك السبل؟ لو لم يلهمك الله ستمشي في هذا الطريق ثم ترجع!! وتمشي في طريق آخر ثم ترجع!! وتظل هكذا إلى أن تفارق الحياة، ولن تصل إلى بغيتك، وهو التمتع بوجه الله.عزَّ وجلَّ. لكن الإلهام من الله وهذا هو الوصل: يصلي عليكم ليخرجكم من الظلمات!!
والظلمات كثيرة: ظلمات الشك والشرك لأهل البدايات، وظلمات الكِبْرِ والحقد والحسد لأهل النهايات، وظلمات حُبِّ الظهور أو التعالي والمشيخة، لمن هم بين البدايات والنهايات. ظلمات كثيرة لا يعلم حقيقتها إلا الله، وإن كان يكشفها للصالحين من عباد الله – عزَّ وجلَّ. إذن لابد أولاً من جلاء القلب، ولا يتم ذلك إلا بمجالسة الصالحين. ولذلك قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه مخاطباً البحر بحر الروم.
وَقَلْبِي لا تُطَهِّـــــــــــرُهُ بِحَــــــــارٌ يُطَهِّـــــــــرُهُ العَلِيُّ بِنَيْلِ عِلْمِ
أي علم يا أبا العزائم؟ قال رضي الله عنه:
{ كما أن كلَّ ماء لم ينزل من السماء لا ينفع، كذلك كلُّ علم لم ينزل من سماء رسول الله لا يرفع). فالعلم النافع هو النازل من سماء فضل رسول الله على قلوب الصادقين من عباد الله، فيرون به قلوب الأطهار الطالبين رضاء الله، فتهتز الحقائق النورانية الموجودة في قلوبهم، وتنبت في هذه القلوب بذرة المحبَّة التي وضعها الأحبَّة، حتى لا تجعل لهذا القلب في غير حُبِّ الله عزَّ وجلَّ نصيب أو حَبَّة.
وتنبت فيه بذرة اليقين: حتى تمتلئ تجاويفه بالاعتماد الكامل على ربِّ العالمين، بذرة الورع، بذرة التسليم، بذرة التفويض، البذور التي وضعها الله في قلبك، لا ينبتها إلا ماء الحياة النازل من سماء رسول الله، من عَيْنٍ من عيون الله؛ وهي عباد الله المقربين: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [6الإنسان].
فمن أي طريق تسلك، ولَمْ تطهِّر قلبك لله عزَّ وجلَّ من المنازعة؟!!! أصحاب التسليم هم الذين سلَّمُوا كل قلوبهم إلى الملك العليم عزَّ وجلَّ.
والقلب هو براق الأحبة، يرى بنور القلب – الذي صفا وصوفي- ما حوله من الآيات، وما فيه من الآيات البيِّنات، ثم يكرمه الكريم عزَّ وجلَّ فيأخذه من البيت الحرام: ألا وهو القلب الذي حَرَّم على حقيقته غير الله عزَّ وجلَّ. (ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه)[9]، صاحب القلب الذي حرَّم على غير الله دخوله، وغلَّق أبواباً عليه ليمنع غيره من الدخول؛ يكرمه الكريم عزَّ وجلّ فيجمعه على المسجد الأقصى، ويأخذه بعد رؤية الحقائق الدنيوية إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أقصى المقامات لجميع السابقين واللاحقين صلى الله عليه وسلم، وصاحب هذا القلب يرى بنور الله، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ، فإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله}[10]. فيرى بنور الله كل أمر يواجهه في هذه الحياة، يرى باطن الحقائق، بينما ينظر الناس إلى ظاهرها:
وإن نظرت عيني إلى أي كائن تغيب المباني والمعاني سواطع
وغنَّى بِالحَقَــــــــــــائِقِ مَنْ رأى الأشْبَاحَ أَرْوَاحا
فيرى ما في الدنيا على حقيقتها، ولا يكرم المرء بالسير إلى الله إلا إذا رأى حقائق الأشياء، فمن ينظر إلى الشهوات تميل إليها نفسه لأنها تعجب عينه. لكن من يرى حقيقتها بعين قلبه هو الذي يزهد فيها، ويتركها لأهلها، ويواصل سيره إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذه هي بداية أهل العناية.
نسأل الله.عزَّ وجلَّ:أن يكرمنا بنظرات الوداد من سيدنا ومولانا رسول الله، وأن يرفع عنا كلَّ عناء وبلاء، وأن يوقظ قلوبنا من نومة الغفلة، وأن يزكِّي نفوسنا، وأن ويملأ بخالص حبِّه قلوبنا، ويهيِّم بحضرته أرواحنا، ويكشف السُّجَفَ لأسرارنا عن أسراره الذاتية، وعلومه الوهبيَّة، وكمالاته العليَّة.
[2]جامع الأحاديث والمراسيل، الفتح الكبير، عن أُسامة بن زيد رضي الله عنه.
[3]إشارة إلى الحديث الشريف: )إِنَّ لِلَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ)، رواهابن حجر العسقلاني فيلسان الميزان، والسخاوي في الأجوبةالمرضية عنعبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
[4] جامع الأحاديث والمراسيل، الفتح الكبير، وفى الترغيب و الترهيب عن أَنَسٍ رضي الله عنه.
[5]إشارة إلى الواقعة التي تخصُّ عدد الصلوات المفروضات في اليوم والليلة، وترداد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى عليه السلام والله عزَّ وجلَّ والمذكورة في الحديث الذي أوره ابن كثير في تفسيره – وغيره، عن أبى العالية الريحاني وفيه (قال: وفرض عليه خمسين صلاة. فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد؟قال: بخمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم فقـد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عزَّ وجلَّفسأله التخفيف، فوضع عنه عشراً. ثم رجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: بأربعين،قال: ارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بنيإسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه فسأله التخفيف، فوضع عنهعشراً – حتى قال الراوي: – فرجع على حياء إلى ربِّه، فسأله التخفيف فوضع عنه خمساً. فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال:بخمس. فقال: ارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت منبني إسرائيل شدة، قال: قد رجعت إلى ربِّي حتى استحييت، فما أنا راجعُ إليه) و الحديث طويل.
[6]أخرجه الترمذي، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه.