Sermon Details

الخطبة الخامسة[1]
الهدي النَّبويُّ في الصيام وحكمته الصحية
الحمد لله ربِّ العالمين، جمَّل عباده المؤمنين في شهر الصيام بجمال الملائكة المقربين. فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، وعباد الله المؤمنين يمتنعون عن الطعام والشراب نهاراً ويحيون الليل بصلاة القيام، لتحدث المؤانسة بينهم وبين الملائكة الكرام، فيتنزلون عليهم في ليلة القدر بالتحية والسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض فرائضه لحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو، يكشف البَعْضُ بعضَ أسرارها، وتبقى حكم الله عزَّ وجل في فرض العبادات كما هي!! ففرض علينا الصيام ليس لتعذيبنا بالجوع، ولا لقلة خزائنه عزَّ وجل من الجود والكرم، وإنما رحمة بأجسامنا، وعلاجاً لأعضائنا، وسموًّا لأرواحنا، وتهذيباً لنفوسنا، وترقيقاً للحجب بيننا وبينه عزَّ وجل.
فإذا تحقق العباد بحقيقة الصيام، كان لهم ما قاله الله عزَّ وجل أثناء آيات الصيام: } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ { (186-البقرة).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الصورة الأكملية لأداء التكاليف الشرعية، والتي من اهتدى بهديها في حياته الدنيوية، سعد في دنياه، وفاز بما يرجوه يوم لقاء الله.
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، القدوة الطيبة، والأسوة الحسنة، والنموذج الأكمل للفضائل الإلهية، والأخلاق القرآنية، وعلى آله وصحبه، وكل من اتبع هداه إلى يوم الدين، آمين. (أما بعد).
فيا أيها الأخوة المؤمنون: فقد مرت علينا أيام ونحن في ضيافة شهر الصيام، تعالوا بنا نفقه سوياً الحكمة التي من أجلها فرض الله علينا فريضة الصيام، فقد حدد ذلك في قوله عزَّ وجل: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ { لماذا يا رب؟ } لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { (183-البقرة) …
فهذا الشهر الكريم معسكرٌ ربانيّ، وفصلٌ دراسي إلهي، دورةٌ يدخل فيها المؤمنون والمؤمنات – في كل أنحاء الدنيا – ليحصلوا عقبها على رتبة من رتب التقوى. فكل واحد من المؤمنين الصائمين يخرج في نهاية شهر رمضان، وقد علَّق المولى عزَّ وجل على صدره وساماً من أوسمة التقوى، أو نيشاناً من نياشين النور الإلهي، أو وشاحاً من أسرار الكتاب القرآني الرباني. وكلٌّ على قدره، بما يشرح الله عزَّ وجل به صدره، فإن الله عزَّ وجل فضله في هذا الشهر الكريم لا يعدُّ ولا يحدُّ!!
ولكن من هم الصائمون الذين يحصلون على بعض ما ذكرناه؟ هم الذين ساروا على هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيام والقيام. وكيف كان هديه الشريف؟
تعالوا نقتطف جزءاً يسيراً – على حسب المقام، حتى لا نطيل عليكم. فقد كان من هديه الشريف صلى الله عليه وسلم في رمضان تعجيل الفطر وتأخير السحور، ويقول في ذلك صلى الله عليه وسلم: {لا تَزَالُ أُمَّتِي بخيرٍ ما عَجَّلُوا الإفْطَارَ وأَخَّرُوا السُّحورَ}[2]. وكان فطره صلى الله عليه وسلم على رطب – يعني: البلح الطازج، فإن لم يجد فعلى تمرات – يعني: البلح الجاف، وكان يضعه في الماء حتى يكون له مفعول الرطب، فإن لم يجد فعلى مزقة لبن، فإن لم يجد يتجرع قليلاً من الماء.
وهنا يظهر لنا جماعة المؤمنين حكمة النبي الكريم، وأنه كما قال الله عزَّ وجل في شأنه: }وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{ (3، 4- النجم).فقد بيَّن الدكتور/ أنور المفتي أسرار الإفطار على التمر أو الرطب أو أي شئ حلو فقال: (إن المعدة تكون آخر النهار خالية من الطعام، والأعضاء قد أصابها شئ من الفتور والكسل، لنقص إمدادها بالغذاء، فإذا أكل المرء عقب الإفطار مباشرة شيئاً من البروتينات -اللحوم أو الأسماك أو ما شابهها – استغرقت أربع ساعات حتى تُهضم وتصل إلى الأعضاء. وإذا أكل شيئاً من الدهون مكث هذا الطعام ست ساعات حتى يتم هضمه وتحويله إلى المادة اللازمة لغذاء الأعضاء. أما التمر والرطب والشئ الحلو فلا يستغرق أكثر من خمس دقائق حتى يصل إلى جميع الأعضاء، فينشطها، وينبه المعدة لتفرز عصارتها وإنزيماتها حتى تكون جاهزة لاستقبال الطعام). وصدق الله عزَّ وجل إذ يقول: } وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { (7-الحشر). |