الحمد لله ربِّ العالمين، أنزل القرآن في ليلة الفرقان، للهدى والبيان، والذكر والتبيان، فمن آمن به وصدَّق حاز الجنان، ومن كذّب به وأشرك لحقه الخزى والذل والخسران.
وأشهد أن لا إله إلا الله، يعزُّ من أطاعه، وينصره على من عاداه، ويقيم به للحق دولة وللدين قومة، وللإسلام صولة، وللقرآن جولة. وأشهد أن سيدنا محمداً نبيُّ الله ورسوله، أقام به الملّة العوجاء، ونشر به الشريعة السمحاء، فهدى به بعد ضلالة، وعلّم به بعد جهالة، وأعزَّ به بعد ذلَّة، وجمع به بعد فرقة، وأغنى به بعد فاقة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فأقام به دولة الحق، وهدم به دولة الباطل، وكان هو الحق الذي قال فيه الله سبحانه وتعالى: } وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا { (81-الإسراء). صلى الله عليه وعلى آله الكرام، وأصحابه العظام، وأتباعه الذين نصرهم الله على أنفسهم، حتى أحيوا في مملكتهم وفي عالمهم دولة الإسلام، وشريعة الحق، وأصبحوا أنجماً ظاهرة مضيئة في أفق النبوة. رضى الله عنهم وألحقنا بهم على خير، آمين. (أما بعد)
فيا إخواني ويا أحبابي: هناك سؤال يجول بخاطر كثير منا، لماذا كانت الانتصارات الإسلامية الكبرى في شهر رمضان بالذات؟ مثل غزوة بدر، وفتح مكة، ودخول الأندلس، ومعركة عين جالوت، ومعركة العاشر من رمضان؟!
إنَّ سرَّ انتصار المسلمين في أي معركة، وضع الله عزَّ وجل له مفاتيحاً في كتابه، أولها: جعل النصر ليس بالقوة، ولا بالعدد ولا بالخُطط، ولا بالتكتيكات فقط، وإنما كما قال عزَّ وجل: } وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ { (10-الأنفال(.
فالنصر في البداية والنهاية من الله عزَّ وجل، ولذلك ورد في أخبار غزوة بدر – التى هى محور حديثنا فى هذه الخطبة – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده حفنة من التراب، ورمى بها في وجوه الأعداء، قائلاً: (شاهت الوجوه). فأصابت كل مشرك، فما السرُّ فى ذلك؟ السرُّ فى ذلك فى قوله تعالى: } وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى { (17-الأنفال).
ولذا قال للمسلمين لاحقاً – لما أخذت بعضهم نشوة النصر، فافتخر بقتله لصناديد أهل الكفر- قال تعالى لهم مُعلّماً ومُؤدبّاً: } فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ { (17-الأنفال). فأنتم أمسكتم بالسيوف وضربتم، ولكن الله هو الذي أمدَّكم بالقوة، وأوصلها إلى رقاب الأعداء فقتلتهم.
فالنصر بداية من الله عزَّ وجل، ولكن هذا لا ينافى قول الله عزَّ وجل لنا: } وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ { (60-الأنفال). فكل ما في إمكاناتكم من قوة جهّزوها، وتدربوا عليها، واستعدوا لها، لكن لابد مع القوة من استمداد النصر من عند الله عزَّ وجل، لأن لله عزَّ وجل أسلحة في القتال تحقق النصر لا يعطيها إلا لعباده المؤمنين، وقد أشار إليها مُجْملاً سيدنا عمر بن الخطاب – في كتابه الذي أرسله إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص في غزوه لبلاد فارس – وكان مما قاله له فيه: { مُرْ الجند بطاعة الله عزَّ وجل، فإنا لا ننتصر بعدد ولا عُدد، وإنما ننتصر بالمدد من الله عزَّ وجل. والله عزَّ وجل يمدّ بمدده من أطاعه ونصر شرعه، أما إذا عصى الجند الله، فإنهم يتساوون مع أعدائهم وهم أكثر منّا عَدَّاً وعُدداً فتكون النصرة لهم}. وهذا هو المفتاح الكريم الثاني للنصر,
فإذا أقمنا حدود الله وطبقنا شرائعه، جاءنا النصر من عند الله عزَّ وجل. ومن أول ما يأتى به النصر من الله قذف الرعب في قلوب الأعداء. وهذا سلاح قال فيه صلى الله عليه وسلم: { نصرت بالرعب مسيرة شهر} [2].
فعندما علم النَّبىُّ أن ملك الروم جهّز أكثر من خمسمائة ألف، وأعلن أنه سيتوجه لمحق هذا النَّبيِّ، جهَّز صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً، وخرج من المدينة في وقت صيف كان شديد الحرارة، وبمجرد خروجه من المدينة طارت الأنباء إلى قيصر الروم بخروجه صلى الله عليه وسلم – وبينهما ما يزيد عن الألف كيلومتر – فما كان من قيصر الروم إلا أن ترك بلاد الشام كلها وذهب إلى عاصمة ملكه في القسطنطينية، رعباً وفزعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك – في شمال الجزيرة – فلم يجد من الروم جنداً ولا جيشاً ولا أحداً في مقابلته. فالسلاح الأعظم الذي نصر الله عزَّ وجل به المسلمين في كل حروبهم في شهر رمضان. } وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ { (2-الحشر) .
إخوانى المؤمنين: ولماذا كان النصر حليف أهل الإيمان في شهر رمضان بالذات؟ لأن شهر رمضان شهر الصبر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ} [3]، و {الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ}[4]. فما شأن الصبر بالنصر؟ يقول الله عزَّ وجل: } إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا { (65-الأنفال).
وبفحص هذه الظاهرة علمياً، نجدُّ الحقَّ عزَّ وجل ركَّب طاقات أعضاء الإنسان جميعاً على أن يقوم جزء يسير منها بالعمل في الحياة الطبيعية، وادخر باقي الطاقات حتى تتفجرللمؤمن الصابر في الوقت المناسب.
فالعضلات جميعاً تعمل ببعض طاقاتها، وعند الاستثارة تعمل بكل طاقاتها، فتقوى عشرة أمثال طاقاتها الأولى. وكذا طاقات الجهاز العصبي، تعمل عملها الطبيعي، وحتى خلايا الكلْية والكبد تعمل بعشر طاقاتها، وعند الطوارئ تراها وقد زاد إنتاجها إلى عشرة أمثالها.
وقد تم في السنين الأخيرة اكتشاف مادة الأندروفين – وهى مادة كيميائية، تفرزها خلايا المخ، خاصة القشرة العليا من فصي المخ، وهى مادة تزداد في دم الإنسان كلما زاد صبره على الآلام المختلفة، وكلما زادت إرادته في إنجاز عمل خاص، وهى التى تعين الإنسان على وقف الألم، وعلى زيادة التحمل، وعلى استقرار طاقاته وهو يواجه الصعوبات والمخاطر. ولذا فالمؤمن تكون قوته في وقت الشدة عشرة أضعاف قوته العادية لأنه تدّرع بدرع الصبر، ودرع الصبر لا يكون إلا لأهل الإيمان وهذا حالهم الجلى فى شهر الصبر شهر رمضان.
إخوانى المؤمنين: ونحن نحتفي هذه الأيام بذكرى غزوة بدر فى اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وفتح مكة في العشرين من رمضان، فهما من الليالي التي اختصها الله عزَّ وجل بالفضل، ولذلك فقد حرص سلفنا الصالح على إحيائها في طاعة الله عزَّ وجل، لأنها من ليالي النصر، والفرح بالنصر والفرح بإعزاز الحقّ، وكذلك لأنهما من الليالي التي تجلَّى فيها الله لحبيبه ومصطفاه ولأصحابه من المهاجرين والأنصار، فأعزَّهم وأيَّدهم وأمدَّهم ووفَّقهم.
فأهل التوفيق يحيون هذه الليالي، ليحظوا بمدد من التوفيق الإلهي الذي حظى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله أمدَّهم عندما استغاثوا به فانتصروا على أعدائهم.
ونحن كذلك أيها المؤمنون والمؤمنات، معنا عدوٌ ملازم لنا، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَعْدَىٰ الأَعْدَاءِ لَكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ}[5]. ومن أجل أن ينتصر الإنسان على هذا العدو يحتاج إلى إمداد ومعونة من الله سبحانه وتعالى، فإن لم يمدنا الله بمعونة من عنده أو مدد من لدنه ما استطعنا أن نتغلب على أنفسنا، بل ربما قهرتنا أنفسنا وفي ذلك هلاكنا والعياذ بالله.
فأهل الله السابقون، وأئمة الدِّين المتقون، يحيون هذه الليلة ضارعين إلى رب العالمين، أن يرزقهم التوفيق، وأن يمدَّهم من بحار النبوة، ومن أسرار الفتوة، ومن أنوار الألوهية، ما به يستطيعون أن ينتصروا في هذه الحياة على أنفسهم بفضل الله وتوفيق الله.
ففي ليلة بدر كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصلوا إلى ميدان المعركة- وكانوا خارجين لمقابلة التجارة التي كان فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وأربعون رجلاً من قريش، وكانت هذه التجارة في طريقها من بلاد الشام وبها مكاسب ومغانم كثيرة، فنزل سيدنا جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله وأعلمه أن أبا سفيان وعمرو بن العاص آتين من بلاد الشام ومعهما أربعون رجلاً، ومعهم مال وفير، فاخرجوا فربما يعوضكم الله عز وجل ويغنمكم هذا المال مقابل المال الذي اغتصبوه منكم في مكة.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عدد قليل حوالي ثلاث مائة وثلاث عشرة رجلاً، ولم يعرفوا أنهم خرجوا من أجل الحرب، ولذلك كانت الأسلحة التي معهم قليلة، ومعهم ثلاثة من الخيول ومن الجمال سبعون جملاً، ولذلك كان كل ثلاثة يتناوبون على جمل واحد، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كان يتناوب مع اثنين من أصحابه، وعندما قالوا له: يا رسول الله عليك أن تركب ونحن أقوى على المشي، فقال صلى الله عليه وسلم: { أعلم أنكم تكفونني ذلك، ولكنني لا غنى لي عن الأجر }. يعني أريد الأجر مثلكم، فضرب لنا المثل في القدوة، وعلمنا كيف يكون قائد الجيش نفسه شريكاً لجنده.
ورغم أن الأسلحة كانت قليلة، والعدد كان قليلاً، إلا أنه شاءت إرادة الله أن يكون القتال، مع أن جُلَّ الذي خرج لا يريد إلا الغنيمة والأموال، والأرباح والمكاسب التي بالتجارة. وعندما علم أبو سفيان بخروج المسلمين غيَّر الطريق ونجا بكل من معه، ولكنه كان قد أرسل رسولاً إلى أهل مكة يُعْلِمُهم بأن تجارتهم معرضة لسوء ليخرجوا إليه، فخرجوا في تسعمائة وخمسون فارساً ومعهم مائة فرس، ومعهم من الجمال عدد كثير، وأموال كثيرة وأسلحة وفيرة، وخرجوا واستعدوا لحماية تجارتهم. وفي نفس الوقت كانوا موتورين لأن الرسول خرج من بينهم ولم يستطيعوا أن يصنعوا معه شيئاً، مع أنهم كانوا قد دبروا خطة محكمة لقتله – فخرج بإذن الله من بينهم – فكانوا يريدون الانتقام.
فالتقى الجيشان عند ماء بدر، وصل الكفار أولاً عند ماء بدر – وسمي بدر لأن هناك بئر يسمى بدر، ومياهه عذبة – فعندما نزل الكفار أولاً نزلوا بجوار البئر وجعلوه خلفهم وحموه حتى لا يشرب منه المسلمون، ولا يغتسلون ولا يحصلون منه على ماء. وعندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا قد قطعوا أربعة أيام في الطريق سيراً على الأقدام، وكان الجو حاراً – والطريق في الصحراء – ونتيجة للتعب الشديد حدثت آيات عظيمة من آيات الله من أجل أن تثبتهم في هذه الليلة.
كانوا متعبين، ونتيجة للتعب والكفار بجوارهم قسمهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تنام الثلث الأول من الليل، ومجموعة تنام الثلث الثاني من الليل، ومجموعة تنام الثلث الأخير من الليل.
وبعدما قسَّم الجيش وقفت المجموعة التي تتولى حراسة الجيش وأقاموا له خيمة صغيرة في مؤخرة الجيش أخذ يصلي فيها لله عزَّ وجل، وشاءت إرادة الله للجميع أن يناموا من شدة التعب، ومن طول السفر والسير على الأقدام، حتى الذين كانوا موكلين بالحراسة ناموا ومعهم سيوفهم وهم واقفون في أماكن حراستهم، ولم يقعوا على الأرض بقدرة الله عزَّ وجل. حتى أن سيدنا رسول الله نام في سجوده، فغشّاهم الله بالنُّعاس جميعاً، وحرستهم ملائكة السماء من عيون الكفار، ومن دوريات الكفار. وهذه كانت أول آية من آيات الله التي ذكرت في سورة الأنفال: } إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ { (11-الأنفال).
وفي الصباح – وعادة عندما يكون الإنسان متعباً أو ينام في جو بارد يحتلم – فأصبح كثير منهم وقد أصابته جنابة، فوسوس لهم الشيطان وقال: كيف تكونوا أولياء لله، وفيكم رسول الله، وتحسبون أنكم على الحق ولا تستطيعون الوضوء أو الصلاة؟ وكيف تقابلون أعداءكم بهذه الكيفية – والمياه كما قلنا قبل ذلك مع الكفار – فحدثت الآية العظيمة الثانية من آيات الله: } وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ { (11-الأنفال) .
فنزل الماء من أجل هذه الأمور الثلاثة: أولاً: ليتطهروا به، فاغتسلوا وتوضأوا وأخذوا منه في قِرَبِهِم، وقاموا ببناء أحواض فامتلأت بالماء، وأصبح عندهم ماءٌ أكثر مما عند الكفار، ثانياً: ليذهب عنكم رجس الشيطان – وهي الوسوسة التي وسوس بها الشيطان في نفوسهم، والتي ربما كانت تتسبب في ضعف عزيمتهم – فذهبت، وقوى الإيمان لأنهم علموا أن عناية الله معهم.
فطالما معهم عناية الله يطمئنوا، ثالثاً: أن الأرض كانت رملية، والأقدام كانت تغوص في الرمال، فنزل المطر وجعل الأرض مُلبّدة لا تغوص فيها الأقدام. وهذه كانت آية من آيات الله في المكان الذي فيه المسلمون. أما المكان الذي فيه الكفار فقد نزل فيه مطر كثير فأصبحت الأرض طيناً – وَحْلاً – لا يستطيع الواحد منهم أن يتحرك فيها، وتغوص أقدامه في الطين. وهذه عناية الله للمؤمنين، وبدأت المعركة في الصباح.
وقبل المعركة تفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميدان القتال ومعه كبار قادة الجيش، وحدَّد بيده الشريفة الأماكن التي يُقْتل فيها صناديد الكفر، فيقول: هنا سيقتل أبو جهل، هنا سيقتل أمية بن خلف، هنا سيقتل فلان وفلان. فحدد الأماكن التي يقتل فيها الكفار. وقد كان من عظيم قدرة الله – بعد المعركة – أن كلَّ مكان حدَّده رسول الله لقتل رجل وجدوه في نفس المكان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما اصطفت الصفوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي: (اعطني حفنة من الحصى من الأرض) فوضعه في كفه ورمى به الكافرين. ماذا تفعل هذه الحفنة من الحصى في هذا العدد الكبير؟!! لكن الحصى غطَّى التسعمائة والخمسين جميعاً، وأصابهم في أعينهم، من أجل أن يثبت الله المؤمنين، وفي ذلك يقول عزَّ وجل: } وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى { (17-الأنفال).
وبدأت المعركة وفي أثنائها توالت المعجزات النبوية، فسيدنا عكاشة – وكان من أصحاب رسول الله – ظلَّ يحارب حتى كُسِرَ سيفه، فذهب إلى رسول الله ولم يكن معه احتياطي، لأن كل واحد معه سيف فقط، ماذا فعل الرسول؟ أحضر عوداً من الحطب وأعطاه له وقال له: اضرب بهذا العود. فتعجب سيدنا عكاشة وحرَّك عود الحطب بشدة فوجده سيفاً عظيماً مصقولاً لامعاً، وكأنه خارج من المصنع، وظل يحارب بهذا السيف طوال عمره حتى مات.
ومُعاذ بن عفراء – وهو رجل من الأنصار – وهو يحارب ضربه عكرمة بن أبي جهل بالسيف على كتفه فقطع ذراعه، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من ريقه الشريف ووضعه على مكان الجُرْح وأعاد الذراع إلى مكانه فشفى في الحال بإذن الله، وكأنه لم يصبه ضرر. سبحان الله العظيم لم يحتج رسول الله إلى خياطة ولا بنج، ولا أدوية ولا طبيب تخدير، ولا طبيب جراح ولا غير ذلك، مع أن العظم تكسّر، وتقطعت الشرايين والأوردة!!
ولكنه تأييد الله عزَّ وجل لأهل بدر، لأنها كانت معركة فاصلة، وقد عبر عن ذلك رسول الله في بداية المعركة حيث قال: {اللهم إن هذه قريش قد أتت بخيلها وخُيلائها تحادك وتكذب رسولك. اللهم نصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعْبد في الأرض بعد اليوم}.
أي إنه إذا انهزم هؤلاء المؤمنون فسوف ينتهي هذا الدين، فكان لابد من النصر والتأييد لهم.
وظهرت آيات لا حدَّ لها ولا حصر لها، ومن ضمنها أن المسلمين رأوا المشركين عدداً صغيراً جداً، مع أنهم تسعمائة وخمسون!! ويحكي عن ذلك سيدنا عبد الله بن مسعود فيقول: كنت أقول لمن بجواري هل هؤلاء سبعون رجلاً؟ قال: لا بل إنهم مائة! وذلك حتى تكون بينهم الثقة واليقين. وكذلك الكفار رأوا أصحاب رسول الله عدداً صغيراً من أجل أن يغتروا، وإذا جاء الغرور جاءت الهزيمة، وكانت هذه آية من آيات الله: } وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ { (44-الأنفال) ، حتى يثبت المسلمون ويغتر الكافرون، وهذه أيضاً من أسباب النصر.
وكذلك من إمدادات الله في المعركة نزول الملائكة، لماذا أرسل الله الملائكة؟ لأن في هذه المعركة قام الشيطان بتجنيد كل أعوانه، حتى أنه جاء قبل المعركة من أجل تشجيع الكفار في صورة رجل من عظماء العرب اسمه سراقة بن مالك! وكان زعيم قبيلة كبيرة وقال للمشركين: أنا معكم وجميع قبيلتي معكم! فعندما رأوا سراقة قالوا لقد جاءت لنا إمدادت من العرب، والمسلمون رأوا أن أناساً جاءوا إلي الكفار لمعاونتهم، فقالوا: لا نقدر طالما أن العرب جاءوا لمساعدة المشركين!!
فأرسل الله الملائكة لتمنع الشيطان وأعوانه، ولذلك عندما نزلت الملائكة – تروي كتب التاريخ – أن الشيطان كان موجوداً ويده في يد رجل من زعماء الكفار، وكان يتحدث معه، وبمجرد نزول الملائكة جرى مسرعاً بعيداً، فناداه هذا الرجل، فقال له إبليس اللعين: } إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ { (16-الحشر) ، ولكنه خاف من الملائكة حتى لا تحرقه. فكان نزول الملائكة حماية للمؤمنين من الشيطان وأعوانه.
هذا أولاً، وثانياً اطمئناناً للمسلمين، أي بشرى لهم يبشروهم بنصر الله، وبمعونة الله وبتوفيق الله لعباده المؤمنينن: } آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ { (7-محمد). ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعِزٌّ لعباده المؤمنين، وناصرٌ لأحبابه المستضعفين. وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب اللواء المعقود، والنصر المعهود، وآله وصحبه الركع السجود، وكل من تبعهم بخير إلى يوم الوفود. (أما بعد)..
إخواني وأحبابي: ما أبرز مقومات النصر في كتاب الله لجند الله؟
أولاً: عدم الغرور وذلك لقول الله: } وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ { (123-آل عمران).
فهذه الخطة أساس النصر بالنسبة للمسلمين مبنية على خمسة أسس: الثبات، وعدم الغفلة عن ذكر الله – ولذلك شرع الله صلاة الخوف أثناء القتال حتى لا يترك الصلاة قبل المعركة أو أثناءها، ورسول الله سنَّ لنا في هذه المعركة سلاح الدعاء، فكان هناك من يحارب بالسلاح وهناك من يحارب بالدعاء، وجلس رسول الله يدعو حتى نزلت عباءته من على أكتافه، ويقول له سيدنا أبو بكر: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجزٌ لك ما وعدك. فقال له: أبشر يا أبا بكر، فإني أرى جبريل ومعه الملائكة، وإني أرى مصارع القوم.
وكذلك كان المسلمون بعد ذلك في أي معركة من المعارك المهمة، فالمجاهدون يحاربون، والذين يجلسون في المدينة يدعون الله، وكان للأزهر دور كبير في هذا المجال، وكان في أي معركة من المعارك يجتمع العلماء في الأزهر يقرأون القرآن وصحيح البخاري من أجل نصر المجاهدين، وعندما يصل القائد يقول لهم: لقد انتصرنا بدعائكم وليس بأسلحتنا وقوتنا.