الحمد لله على فضله وإنعامه، وعلى جوده وإكرامه، ونحن جميعا بكل ما أوتينا وبكل ما فينا، لا نعادل ذرة أو بعض ذرة من ذرات إكرامه وإنعامه، فله الحمد فى الأولى، وله الحمد فى الآخرة، وله الحمد على كل حال. والصلاة والسلام على خير نعمة أنعم بها علينا الله، وأكمل منَّة تفضل بها علينا الله، سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، سر هدايتنا، ونور عنايتنا، وصلاح جبلتنا، والآخذ بأيدينا جميعاً من ذنوبنا فى الأهوال الحشرية، فلن ننجوا إلا ببركته، ولن نأمن إلا بعظيم أمننا فى معيته. صلى الله عليه وآله وورثته، والقائمين بدعوته، إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين آمين يارب العالمين. (أما بعد)
فيا إخوانى ويا أحبابى بارك الله عز وجل فيكم أجمعين
طلب منى أخ فاضل من بينكم أن أتحدث عن نور الله عزَّ وجلّ، وهذا مقام عميق، لا ينبغى أن يتحدث فيه أو عنه إلا بدل أو صدِّيق، لأن سبيله التحقيق، والكلام فيه لا يستطيعه البيان، فإن البيان عاجز فى ميداين العوام، ولكن نقرب الحقيقة على قدرنا، بما يفتح به علينا ربنا، فنور الله عز وجل: هناك نور كونى، وهناك نور غيبى، وهناك نور شهودى، وهناك نور صفائى، وهناك نور قدسى، وهناك نور ذاتى. وهناك أنوار تحتاج إلى قلوب الأبرار، الذين يستطيعون وسعة هذه الأسرار.
فالأنوار الحسية الكونية، كنور الشمس والقمر والنجوم، والكهرباء والمصابيح، وهى أنوار تدل على أن نور الله عز وجل معنوى، لا يدركه الإنسان إلا بقلبه النورانى، فالأمر كما قال الإمام علىٌّ رضى الله عنه: (لا تدركه الأبصار ولو بحقائق النظر والبرهان، ولكن تدركه القلوب بالكشف والنور والعيان).
والأمر بتوضيح أكثر، ضرب الله عز وجل المثل لنوره، بما أودعه وأظهره لخلقه، فقال عز شأنه: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (35 – النور). لم يقل: (نوره)، ولكن قال: (مَثَلُ نُورِهِ). فضرب الله المثل لظهوره بهذا المثال لنوره، نحن نرى بعضنا فى نور المصباح أو الكهرباء، لكن مَنْ منا يستطيع أن يرى بحدقته حقيقة وجوهر وماهية الكهرباء؟ من يستطيع؟ لكن نرى آثارها، ولكن لا نستطيع أن نرى ذاتها وحقيقتها. وكذلك ربى – ولله المثل الأعلى- نرى آثار قدرته، وبديع إبداع صنعته، لكنه سبحانه لا يرى فى ذاته لعيوننا عن الإدراك بمدارك، فلا يوجد فينا المدارك التى تدرك حضرة الذات، لأننا لا نستطيع أن ندرك ما فينا من المعانى الغيبية، وهى التى أعطانا الله بها الكمالات.
فقد أعطانا الله عقلاً ميَّـزنا به عن سائر الكائنات، أين هو العقل؟ وما صورة هذا العقل؟ وفى أى موضع فينا يوجد هذا العقل؟ عجز الورى كلهم عن الإشارة إليه، أو التنويه عليه، لأنه غيب لا يدريه إلا خالقه عز وجل. فإذا عجز الإنسان عن معرفة العقل، فكيف يعرف بالعقل من خلق العقل؟ ما الآلة التى نستطيع أن نرى بها؟ فالإنسان يعيش بقلب سليم، أودعه فيه الخالق الكريم، فيه الحُبُّ وفيه الكُرْه، وفيه التسليم وفيه الإيمان، فى أى موضع نراه فى الأبدان؟ أو فى أى موضع نستطيع أن ندركه فى الأكوان؟ لا يستطيع الإنسان ولو طال به الزمان، أن يدرى شيئا ولو قليلاً عن القلب الذى إحتصنا به الرحمن. { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } (85- الإسراء).
فكيف يحوى هذا القلب معانى الرب؟!! وكيف يدرك هذا القلب أنوار الألوهية وأسرار الحضرة القدسية، وغيرها من المعانى الإلهية أو المعانى الغيبية؟!! هذا أمر محال إلا إذا تفضل الله عز وجل على رجل بالعطاء والنوال.
سئل الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه، كيف رأى رسول الله ربه؟ فقال رضى الله عنه: (غاب محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن حسه ونفسه، وبَقِىَ بربِّه، فرأى ما فيه من الله جمال الله، فى غيبه محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
إذا تجلى حبيبى بأى عين أراه بعينه لا بعينى فما يراه سواه
فالأنوار الحسية ذكرى وتقريب للحقيقة، لنستطيع أن ندرك – على قدرنا – بعض الأنوار الذاتية الإلهية والأنوار المعنوية، نور العقل، ونور القلب، ونور الروح، نور السرّ، نور الخفى، ونور الأخفى، التى هى فينا مواقع تقرب الحقيقة لنا، حتى نستطيع أن ندرك – على قدرنا – أنوار خالقنا وبارينا عز وجل.
إذا كان أفضل نور ملكوتى – وهو نور آمين الوحى جبريل عليه السلام – لم يستطع أن يتجاوز السدرة، ليحظى – ولو بشعشعان – من الأنوار القدسية، فما بالنا نحن بذنوبنا وعيوبنا، وبطبيعتنا وكثافة أجسامنا؟!!
فالنور الملكوتى لا يستطيع إدراك النور الذاتى، ولكن من فضل الله علينا أننا بعد النقاء والصفاء، يكرمنا الله عز وجل من عنده بالجمال والبهاء، الذى نشرف به على هذا الكمال والجمال والبهاء. ومن يرى قبساً أو لمعاً من هذه الأضواء يقول كما قال الإمام الغزالى رضى الله عنه:
فكان ما كان مما لستُ أذكره فظُنَّ خيراً ولا نسأل عن الخبر
ولو جاء ابن لى فى سنة أولى إبتدائى وأقول له: 1+1=2 ، أو عِـدْ يا بنى من واحد إلى عشرة، فقال: يا والدى أنا أريد أن أتعلم اللوغارتمات والدالات، ماذا أقول له؟ أقول له: أنت لا زلت صغيراً يا بنى.
هو نفس الأمر، فإن الله عز وجل أعطانا فى قلوبنا، وفى صدورنا، من نور الإيمان، ما نستطيع أن ندرك به فى مقام المعانى والعيان – على قدر ما لنا عند الله عز وجل – من الطاقة والوسعة والقوة فى مقامات الإيمان، وكلما زاد الإيمان فى القلوب، وكلما صدر النور فى الصدور، زاد مددنا فى عالم الإشراق والنور، فتدرك ما كان وما خفى، بما تفضل به عليك الله من النور، الذى يمدك به فى فؤادك، وحتى نعلم هذه الحقيقة، قال الله عز وجل لنا مبينا هذه المقامات، فقال عن ذاته: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (35 – النور)، وقال عن حبيبه صلوات الله وسلامه عليه:{ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } (15-المائدة).
وجاء بكلمة (نور) نكرة، لأنه يظهر لكلٍّ على قدره، لا على قدر صاحب النور صلى الله عليه وسلم. (قد جاءكم من الله نور) على قدركم، وعلى قدر صفاء قلوبكم، وعلى قدر وسعة أرواحكم، وعلى قدر العطاء الذى صرف لكم من خزائن فضل ربكم – عز وجل – فربما نكون كما نحن الآن والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتجلى لنا عياناً، منا من يرى حقيقته، ومنا من يرى قبساً من ضياء حضرته، ومنا من يمر على مخيلته، ومنا يخطفه شعاع منه فى سريرته، والكل يرى على قدر ما يسمح له خير الورى صلى الله عليه وسلم، لأن الله قال له فينا: { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } (175- الصافات). كيف يكشف لهم صلى الله عليه وسلم؟ على قدر ما تتحمل أفئدتهم، ووسعة قلوبهم.
وربما أنتم تذكرون أن رجلاً فى زمانه صلى الله عليه وسلم كان فى بلاد اليمن، لم يجتمع به ظاهراً – فى الظاهر- مع أنه تمتع به من أنوار الباطن فيما لم يتمتع من حوله من أهل المظاهر، حتى تعجبوا منه عند سؤاله لهم، وظنوا أن ما رأوه وحصلوه هو الغاية، وهو النهاية. وكان تبشير الحبيب وإيمائه عن مقامه، حتى يعرفهم أنهم فى البداية، جاء صلى الله عليه وسلم بهذا الرجل ليعرفهم أنهم فى البدايات ولم يصلوا الى مقام النهايات.
فكل الناس فى مقام الحبيب فى بداية البدايات، ولو وصلوا إلى غاية الغايات ومنتهى النهايات، فما بالكم بنور الله الذاتى؟!! وسر الله الصمدانى؟!! هذا أمر لا يستطيع واصف أن يصفه، وإنما يستطيع أهل القلوب – إذا تفضل الله عليهم ، وتطهروا من العيوب، بنور من عنده موهوب – أن يدركوا بما مَنَّ الله فيهم من النور الموجود، بعض حقائق نور علام الغيوب – عز وجل.
لكن نحن كما قال سيدى وإمامى، الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه: (كيف يدرك الطين أنوار رب العالمين). هذا هو الطين، ماذا فىَّ؟
أطِينٌ أنا وَيْحِى وأين هو الطِّين أنُورٌ أنا وَيْحِى وهَا أنا تعيين
هذه أمور غيبية تحتاج إلى خصوصية، نسأل الله أن يهب لنا مواهب أهل الخصوصية، وأن يتفضل علينا جميعا بهذه المزية، حتى يكاشفنا عيانا بأنواره الذاتية، ويجعلنا من أهل مجاليه الذاتية، ويمتعنا دائماً وأبداً بأنواره القدسية، ومجالاته الوهبية.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
***************
ديوان أ/ السعدي عمران بالأقصر سهرة الاثنين 6صفر 1422هـ الموافق 30-4-2001