Sermon Details
6فبراير2020
الشيخ أحمد الرفاعي (حياة – سلوكه في طريق الله- وصوله -وتربية للمريدين)
ABOUT SERMON:
سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه
بداية أنوه أن الذي يوجد في مصر هو من ذرية سيدي أحمد الرفاعي وليس هو بذاته، واسمه سيدي علي، وصفته وكنيته أبو شباك، لكن سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه ولد وعاش ودفن في قرية أم عبيدة التابعة لإقليم واسط بجنوب العراق، وكان ذلك في بداية القرن السادس الهجري، والرفاعي نسبة إلى أحد أجداده وكان اسمه رفاع، فنُسب إليه.
سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه سنتناول نبذة بسيطة عن حياته، وعن سلوكه في طريق الله عز وجل، وعن منهجه في الوصول إلى الله، وعن منهجه في تربية المريدين التربية الإلهية النبوية الحقة.
كان هو ينتسب من جهة أبيه إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، وأمه تنتسب إلى سيدنا الحسن رضي الله عنه، وهذا سبب من الأسباب التي قيلت في تسميته أبو العَلَمين لأنه ينتسب إلى العَلَم الأول سيدنا الحسن، والعَلَم الثاني سيدنا الحسين.
وقيل قولاً آخر في سر هذه التسمية، لأنه جمع الشريعة والحقيقة، فسمي أبو العِلْمين، وأطلق عليه مجازاً أبو العَلَمين، عالم الشريعة وعالم الحقيقة.
وكان خاله أخو أمه من كبار العارفين المشهورين في بلاد العراق يسمى الشيخ منصور الباز البطائحي، والبطائحي نسبة إلى البطائح وهي الأماكن الجبلية المجاورة للقرى والمدن، والتي كان يذهب إليها العابدون والمجاهدون في الله لبعدها عن مظاهر الدنيا والشهوات والحظوظ والأهواء.
وفي الحقيقة أنا أحكي الروايات التي تُنسب إلى ميلاد الصالحين، وإن كنت لا أرتاح لها نفسياً لأن أرى أن فيها زيادة كبيرة من المريدين، لأن العهد أن كرامات الرجل الصالح تظهر بعد صلاحه وتقواه، وحسن إقباله على الله، وقيامه بتنفيذ ما أُمر به بدعوة الخلق إلى الله، وهنا يؤيده الله تبارك وتعالى، لكن المريدوزن يجعلون للصالحين كرامات قبل ولادته، وكرامات أثناء حمل أمه به، وكرامات عند ولادته، حتى أنهم ينسبون إلى كثير من الصالحين ومنهم سيدي أحمد الرفاعي أنهم وهم أطفال صغار كانوا يصومون رمضان ولا يفطرون إلا عند غروب الشمس، وهذا الكلام لا يصدقه إنس ولا جان ولا عقلاء ولا حكماء، لكن هذه زيادة لو وجدتها في كتاتب اعبرها سريعاً ولا تقف عندها.
لكن الكرامة التي يحكونها لسيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه قد تكون مقبولة، وهي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء سيدي منصور الباز خاله، وكان أبوه توفي قبل ولادته، فذهبت أمه للعيش عند أخيها، فجاءه سيدنا رسول الله وقال له: ستلد أختك رجلاً صالحاً يُسمى أحمد الرفاعي، فإذا نما وكبر فاذهب به إلى الشيخ علي الواسطي ليربيه فإن له مقام عظيم عند الله تبارك وتعالى.
إلى هنا الرواية يصدقها الإنسان، لكنهم يزيدون: (وهو سيكون رأس الأولياء كما أنا رأس الأنبياء) وهذا كلام لا ينبغي أن يقال لأن رأس الأنبياء صلى الله عليه وسلم لم يُعرف ذلك عنه إلا من كتاب الله، وبعد أن أمره مولاه بالإبلاغ عن مقامه وقدره عند مولاه، لكن قد تكون هذه زيادة من المريدين، المهم لا نقف عند هذه القصة، لكن كل الذي أريد أن يأخذه الأحباب بعين الإعتبار أن لا يقفوا عند أمثال هذه القصص ويحكونها ويتحدثون بها، فإن الأولياء أجمعين في غناء تام عن ذكرها، لكن المهم الذي نحتاجه في حياة الرجل الصالح ما نتحدث به الآن.
حفظ القرآن، ثم درس الفقه على مذهب الإمام الشافعي، ثم درس التفسير، وما تيسر من علوم اللغة المتاحة في وقته، وهذا هو المهم في البداية، ثم أخذه خاله – كما تحكي الروايات – إلى الشيخ علي الواسطي ليتربى على يديه، وكان يعشق مجالسة الصالحين أجمعين.
وهذا يعطينا انطباع آخر أنه لا ينبغي أن يقفل الإنسان نفسه على رجل صالح ولا ينتفع بالآخرين، لكنه كما قال السادة الصالحون: (اعرف شيخك وزر غيره) فيكون على سبيل الزيارة، وليس على سبيل الموازنة بين المشايخ، أو على سبيل التردد، يمشي مع هذا أم يمشي مع هذا، وهذا لا يفيد المريد ويجعله في وقفة مع الله لا يتحرك بالسير إلى الله سبحانه وتعالى، لكنه يعرف شيخه، ويسلم نفسه، ويسير على نهجه، ويعمل بما أمره ووصاه به، ولا مانع من الذهاب إلى غيره من الصالحين على سبيل التبرك، وعلى سبيل أن يُنفح منهم بدعوة مستجابة، أو يُنفح منهم بنظرة من نظراتهم، وهذا لا مانع فيه، لأن كل الصالحين أيَّدوا ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه بعد وصوله إلى الله، كان له مجالس علمية يشرح فيها آيات من كتاب الله يفسرها، أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضحه ويفصله، فمثلاً له كتاب اسمه (حالة أهل الحقيقة مع الله) وهو عبارة عن أربعين حديث فسرها في أربعين مجلس، وكان المجلس يعقده يوم الخميس ليلة الجمعة من كل أسبوع، يذكر الحديث من رسول الله ويفسره، وهذا يدل على تبحره رضي الله تبارك وتعالى عنه في العلم.
ذكر مرة أنه مر على رجل من الصالحين فقال: قال لي: (متلفت لا يصل، ومتسلل لا يُفلح، ومن لم يرى من نفسه النقصان فهو دائماً في نقصان) يعني كثير التلفت، مرة إلى الدنيا، ومرة إلى الأهواء، ومرة إلى المظاهر، ومرة إلى جمع المال، ومرة إلى ما يطلبه الإنسان في دنياه، ومرة إلى حضرة الله، وهذا لا يصلح لأن متلفت لا يصل.
وكذلك متسلل لا يُفلح، يعني الذي يدخل خفية على الصالحين، ولا يريد أن يعرفه أحد، يريد أن يمشي مع الكل، ويأخذ من هذا، ويأخذ من هذا، ويجلس مع هذا، ويجلس مع هذا، ولا يعرفه أحد هنا ولا هنا، وهذا لا يصلح، لأنه لا بد أن يُنسب إلى أقوام لكي يستمد منهم كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول رضي الله عنه عن نفسه ليعلِّمنا ما كان يحدث مع المريدين، وهذه حقيقة أعجبتني لأن ذلك ما كان يحدث معي وأنا في بداية الطريق إلى الله، فقد كنت أسمع بيت من القصائد، فأظل أردد في هذا البيت شهر أو شهرين او ثلاثة، إلى أن يكرمني الله بالتحقق به فأنتقل إلى غيره، فيقول: فمكثت أرددها سنة حتى عملت بها، ثم ذهبت إلى هذا الرجل الصالح وقلت له: أسمعني غيرها، قال: (ما أقبح الجهل بالأَلِبَّاء، وما أقبح العلة بالأطباء، وما أقبح الحب بأهل الجفاء) كيف يكون إنسان لبيب وعنده عقل ولا يثقفه ولا ينميه بالمعلومات وزيادة القراءة والاطلاع والسماع؟!! واللب هو العقل: ” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ” (21الزمر) وكذلك كيف يكون طبيب وفي نفس الوقت مريض؟!:
غير تقي يأمر الناس بالتقى |
طبيب يداوي والطبيب سقيم |
لا بد أن يعالج نفسه أولاً، فهل يصلح أن يذهب إنسان لطبيب فيقول له الطبيب: علاجك الوحيد أن تترك السجائر، والطبيب يمسك بيده سيجارة؟!! فهل تنفع هذه النصيحة؟! لا، اقلع أنت أولاً عنها ثم أوصي غيرك بالإقلاع عنها، أو يذهب لطبيب يشتكي له من السمنة، فيطلب منه الطبيب أن يُنزل من وزنه، والطبيب سمين! فلماذا لم تفعل ذلك أنت أولاً؟!! وهكذا، فلا بد أن يبدأ أولاً بنفسه:
ابدأ بنفسك فانههها عن غيها |
فإذا انتهت عنه فأنت عنه حكيم |
فهناك يُسمع ما تقول ويشتفى |
بالقول منك وينفع التعليم |
وقال له: (وما أقبح الحب بأهل الجفاء) كيف يعلن أنه محب لله ورسوله، أو محب للصالحين وعنده جفاء شديد من ناحيتهم، أو يهاجمهم، أو يعترض عليهم، أو ما شابه ذلك؟!!، يقول: فأخذتها وعملت بها لمدة سنة، وظل في هذا الحال.
ماذا كانت عبادته التي يتقرب بها إلى الله؟ يقول خادمه واسمه يعقوب: كان يقضي ليله ونهاره في تلاوة القرآن.
وكما رأينا فإن كل أحوال الصالحين قد تكون متشابهة، فالذي حدث مع سيدي أحمد البدوي، ومع سيدي أبو الحسن الشاذلي، ومع أي رجل من الصالحين هو نفس الأمر، البداية في حفظ القرآن وتعلُّم الشريعة، ثم بعد ذلك جهاد النفس، وجهاد النفس أفضل شيء له هو تلاوة القرآن.
لا يوجد شيء أفضل من تلاوة القرآن، ولكن مع التدبر والتمعن والتفكر، وليس قراءة للعد.
أيضاً يُحكى عنه نفس الأحوال التي كانت تحدث مع الصالحين أجمعين، وهي أن يصلي الفجر، ثم يقعد في مصلاه يذكر الله ختى ضحوة النهار، وبعد طلوع الشمس بثلث ساعة على الأقل يصلي صلاتين واردتين عن الصالحين، يصلي ركعتين سُنة الإشراق، وركعتين سُنة الضحى.
ولم نسمع عن أحد من الصالحين السابقين أنه كان لا يقوم الليل، ولو ركعتين قبل الفجر، ولكنهم لم يكتفوا بالركعتين بل لا بد أن يكون لهم وقت قبل الفجر، ولا يوجد أحد منهم كان ينام بعد الفجر، فيظل إلى شروق الشمس، وبعد الشروق بثلث ساعة مع الله فيما صح من الأوراد الواردة عن رسول الله، أو الأحزاب الواردة عن الصالحين، أو مع كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا كان منهجه رضي الله تبارك وتعالى عنه في عباداته وتوجهاته إلى الله.
ما المنهج الذي بسببه وصل؟ يقول: خضت كثيراً من الأبواب إلى الله تبارك وتعالى فما وجدت أسرع ولا أنفذ من باب الذل والمسكنة، وهو التواضع.
كان أهم ما فيه أنه شديد التواضع لله تبارك وتعالى، وكانت تربيته للمريدين أول شيء أن يتخلق المريد بخلق التواضع، ويضرب لهم الأمثال، فكان يقول كما قال بعضهم: يا بني انظر إلى النخلة فإنها لما تحملت كل شيء بنفسها ولم تتواضع، وَكَلَها الله تبارك وتعالى إليها، فأصبحت تحمل كل ثمارها، وانظر إلى نبات القرع عندما تواضع إلى الله، وألصق خدَّه بالأرض حمَّل الله الأرض ثماره عنه، من الذي يستطيع حمل ثمار القرع الكبيرة؟!! الأرض، لأنه تواضع، وهذا ما ذكره الحديث الشريف:
{وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ} صحيح مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
ولذلك عندما ننظر بعين البصيرة للأحباب، نرى أن كل من عنده شيء من الكِبر ليس هناك أمل في رقيه إلا إذا جاهد نفسه في الخروج من هذا الكِبر، فإذا خرج من الكِبر وتخلَّق بالتواضع عليه أن يفرح فإن الله عز وجل سيصب عليه عطاءاته وهباته بغير حساب.
وكان سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه يقول لأصحابه المباركين ذلك، فكان يقول لهم: إذا نزل المطر من السماء أين يقف؟ هل على رؤوس الجبال أم على الوديان؟ يقولون: في الوديان، يقول: كذلك إذا نزل ماء العلم الإلهامي على القلوب لا يقف إلا في القلوب التي تواضعت لحضرة علام الغيوب.
لكن القلوب التي فيها شيء من الكِبر ليس لها في هذه العلم الإلهي نصيب، وهذا ما قاله الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ألا يا أخي بالذل ترقى وتُرفعن |
وبالزهد تُعطى ما له تتشوق |
ألا من يكن في قلبه بعض ذرة |
من الكِبر والأحقاد ما هو ذائق |
فكان يهتم بصفة خاصة في مجاهدة نفسه وفي تربية مريديه على خُلُق التواضع، حتى أنه من تواضعه رضي الله تبارك وتعالى عنه كان يسأل أصحابه أحياناً ويقول لهم: إن كان فيَّ عيب فدلوني عليه، فقال له أحد تلاميذه النجباء: فيك عيب يا سيدي، قال: ما هذا العيب؟ قال: أننا من تلاميذك، وأن الله جعلنا من تلاميذك، فقال: أنا خادمكم – انظر إلى التواضع – (سيد القوم خادمهم).
وكان رضي الله تبارك وتعالى عنه من شدة تواضعه أكسب الله قلبه شفقة حتى بكل الخلق، حتى بالحيوانات، فكانت شفقته عظيمة بكل الحيوانات، حتى الحيوانات التي يخشاها الإنسان، والتي تؤذي الإنسان، رأى مرة كلباً غريب ليس من الكلاب التي تسكن في منطقته وبه جرب ويتحاشاه الناس، فأخذه وخرج إلى الصحراء وأخذ يتعهده بالرعاية، يغسله، ويحاول أن يضع له المساحيق التي تعالجه، ويُطعمه حتى شفي، وهذا لا يتحمله إلا أكابر القوم الذين جعل الله تبارك وتعالى في قلوبهم الشفقة بخلق الله، وبكل مخلوقات الله تبارك وتعالى.
وإن كان بعض أتباعه والمنسوبين إلى حضرته استغلوا هذا الخُلُق استغلالً سيئاً في أنهم يحاولون أن يصطادوا الثعابين والأفاعي ويستعرضون بذلك، لكن ليس هذا من منهجه، ولذلك الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه رُوي أنه ذهب إلى مدينة دمياط، فجاءه أهل الطرق الأخرى ومن جملتهم الرفاعية، ويحملون الثعابين على أعناقهم وفي أيديهم ويتباهون بذلك، وقالوا: نحن نمسك الثعابين فماذا معك أنت من الكرامات؟! فقال: يا هؤلاء إن كنتم تمسكون بالثعابين فكم رجلاً هديتم بهذه الطريقة؟! فسكتوا، قال: لكني أُمسك ثعابين الحقد التي في القلوب وأُخرجها خارج القلوب لتتقرب إلى حضرة علام الغيوب.
ما الذي يمنع الإنسان من القرب إلى الله؟ الحقد الموجود في القلب، لكن لو أمسكت ثعابين الدنيا كلها ستهدي من بها؟! وماذا تفعل بها؟!! فدلَّهم على الطريقة الحقة التي ينبغي أن يمشوا عليها لأن هذا هو المنهج السديد الذي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (89الشعراء).
بعدما فتح الله تبارك وتعالى عليه اقترب أجل خاله منصور الباز البطائحي، فقالت له زوجته: أوصي بالخلافة لولدك، قال: لا، الخلافة لابن أختي أحمد الرفاعي، فغضبت وذهبت إلى كبار المريدين وحفَّزتهم أن يطلبوا من الشيخ أن يجعل الوصاية والخلافة لولده، فلما أكثروا على الشيخ قال لهم: سأُجلي لكم حقيقة هذا الأمر، أحضروا الاثنين معاً، فأحضروا ابنه وأحضروا ابن أخته أحمد الرفاعي، فقال لهما: على كل واحد منكما أن يحضر حِمل جمل ضخم من النجيل الموجود في الصحراء الفلانية، فذهب ابنه سريعاً وجمع النجيل وحمَّله على الجمل وجاء، وانتظروا أحمد الرفاعي أن يأتي فلم يحضر، ولما اقترب اليوم من نهايته قال لهم الشيخ: انظروا أين أحمد؟ ولِمَ لم يأتي؟! فأحضروه، وليس معه شيء، فقال له: أين الذي جئت به؟ قال: يا سيدي كلما هممت أن أقطع نبتة سمعتها تذكر الله تعالى فأستحي من الله أن أقطعها وهي تذكره، فقال لهم: هل عرفتم؟! هذا دخل في قول الله: “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (44الإسراء) ولكن هذا الرجل يفقه، فمن يكون أولى بالطريق؟! فسلَّموا له.
تولى قيادة الطريق بعد خاله الشيخ منصور الباز البطائحي رضي الله عنه، والمريدين الذين كانوا يحضرون مجلسه قيل أنهم كانوا حوالي ستة عشر ألف مريد، فكيف كان يسمعهم؟! وكيف كان يصل إليهم الكلام؟! لا تسأل عن ذلك فالله سبحانه وتعالى يعينه على ذلك.
والأساس الذي كان يربي عليه المريدين هو تفريغ القلب بالكلية من الشهوات والحظوظ والأهواء والدنايا، وملئه بالكلية بحب الله، وحب رسول الله، وحب كتاب الله سبحانه وتعالى.
هذه العبادة الأصلية التي كان يقوم بها، وليس عبادة نفلية، ولكن عبادة تفريغ القلب، ويقول لهم: القلب إذا فرغ من هذه الشهوات والأهواء يرى الأنوار العلية، وتتنزل فيه الإلهامات الربانية، ويُنذره ويُحذِّره إذا قُدِّر له أن تأتية بلية أو يقع في معصية تُغضب رب البرية، ويخبره بما مضى، ويُخبره بما هو آت، من الذي يخبره؟ القلب.
فكان كل اهتمامه بالقلب، وتصفيته تصفية تامة، وهذه هي نفس طريقة كُمَّل الصالحين في أي زمان ومكان:
إذا صفا القلب من وهم وشبهات |
يشاهد الغيب مسروداً بآيات |
نَفَس بقلب سليم رفعة ورضا |
وألف عام بلا قلب كلحظات |
ثم أسس طريقته رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أساسها ما يلي: (طريقتنا دين بلا بدعة، وهمة بلا كسل) دين ليس فيه بِدَع، فإذا رأينا بعض البِدَع فيمن ينتسب إليه نعرف أن هؤلاء ليسوا صادقين، لأن الرجل تبرأ من البداية من كل هذه البِدَع، وكذلك طريقة فيها همة شديدة في الله، وليس فيها كسل أبداً، فكان رضي الله عنه وأرضاه غاية في العناية بأولاده.
أما الكرامات التي يُشهد له بها فأعظمها وأكرمها أنه كان كان فقيراً لأمه كان يجود بكل ما عنده.
فلما أكرمه الله عز وجل بأداء فريضة الحج – وهذه الكرامة موجودة في أكثر من كتاب من كتب القوم – وقف أمام الحضرة المحمدية وقال: السلام عليك ياجدي، قال: وعليك السلام يا بني، فما استطاع أن يطيل الوقوف ووقع من طوله من شدة فرحته بسماع إجابة السلام من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقال:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها |
تقبل الأرض عني وهي نائبتي |
وهذي دولة الأشباح قد حضرت |
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي |
وقالوا: الكل رأى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج له، ويُقبِّلها رضوان الله تبارك وتعالى عليه.
ولمَّا حج المرة الثانية والأخيرة وقف في الروضة الشريفة وقال:
يقولون عدتم، بم رجعتم؟ |
يا أكرم الخلق ما نقول؟ |
فسمعوا من الروضة الشريفة الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
قولوا رجعنا بكل خير |
واتحد الفرع بالأصول |