بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
السيدة زينب هي إبنة الإمام علي، وبنت السيدة فاطمة الزهراء، ووُلدت بعد الحسن والحُسين في العام السادس من الهجرة، وعند مولدها أخذوها إلى جدها عليه أفضل الصلاة وأتم السلام فسمَّاها زينب، وزينب يعني المرأة القوية في جسمها، الحكيمة في عقلها، وهذا معناها اللغوي عند العرب.
جدها لأمها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وجدتها هي السيدة خديجة بنت خُويلد رضي الله عنها، وكانت السيدة فاطمة أصغر بنات النبي وأحبُهن إليه صلى الله عليه وسلَّم، وهي التي بقيت بعد وفاة أخواتها حتى جاء ميعاد رحيل النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى الرفيق الأعلى، ورُوي عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:
كانت جالسة بجوار النبي صلى الله عليه وسلَّم في مرض موته، فأشار إليها صلى الله عليه وسلَّم أن تُقبل عليه ليُسر لها بحديثٍ فبكت، ثم أسَّر إليها بحديث آخر فضحكت واستبشرت، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها حاضرةٌ هذا الحوار، وورد أنها سألتها عندما خرجت: لماذا بكيت ثم ضحكت؟ وما الذي حدَّثك به النبي حتى فعلت ذلك؟ فقالت رضي الله تبارك وتعالى عنها: ما كنتُ لأُفشي سر النبي صلى الله عليه وسلَّم، لأنهن كُنَّ مؤدبات على الأدب العالي الغالي
أهم شيء لأي مسلم أو مسلمة يلتحق بالإسلام أن يعلموه ويهذبوه ويؤدبوه على حفظ الأسرار، وعدم إشاعتها مهما كانت الظروف.
وبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وسلَّم، ووضعه في روضته المباركة بأيام، قالت لها السيدة عائشة: الآن يمكنك إذاعة السر، ماذا قال لكِ النبي حتى بكيت ثم ضحكت، قالت: أخبرني أنه خُيِّر بين الحياة والرفيق الأعلى فاختار الرفيق الأعلى، فعلمت أنه سيموت فبكيت، ثم أخرني أنني أول أهله لحوقاً به فاستبشرتُ وضحكت، ولذلك ماتت السيدة فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلَّم بستة أشهر، وكانت أول أهله لحوقاً به.
إذاً السيدة زينب كانت في هذا الوقت تقترب من الخمس سنوات، وما زالت طفلة صغيرة، لكنها تربت في بيت يغرس في نفوس أبنائه وبناته الفضائل الإسلامية، والآداب الربانية، والأحكام القرآنية، فتفقهت في دينها، وكانت الراوية الوحيدة لأحاديث النبي عن طريق أمها وأبيها وأخويها الحسن والحُسين.
وكان سيدنا عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما إبن عم النبي، وهو الذي دعا له النبي وقال:
كان يقول: ((كنا نأخذ حديث آل البيت من عقيلة بني هاشم)) وهو اسمٌ من الأسماء أو الكُنى التي أُضيفت للسيدة زينب رضي الله عنها، فابن عباس مع جلالة قدره في العلم، كان يأخذ منها ويروي عنها الأحاديث التي ترويها عن أبويها وعن أخويها رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وكانت حياة السيدة زينب حياةٌ كلها شدات، وكلها معاناة، وشدات لا يتحملها عتاة البشر وليس امرأة، فعتاة البشر لا يتحملون ما تعرضت له رضي الله تبارك وتعالى عنها.
بعد أن كبر سنها ووفاها البلوغ تزوجت، وزوجها أبوها من ابن أخيه عبد الله بن جعفر، وسيدنا جعفر كان يُسمى جعفر الطيار، وعبد الله كان أول غلام يُولد للمسلمين بعد هجرتهم إلى بلاد الحبشة، عندما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد أن اشتد أذى الكفار أن يهاجروا إلى الحبشة، وكان من أول المهاجرين جعفر بن أبي طالب وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها.
فأول مولود وُلد للمسلمين في بلاد الحبشة كان عبد الله بن جعفر هذا، يعني وُلد تقريباً قبل الهجرة بعام ولذلك لحق من حياة النبي صلى الله عليه وسلَّم حوالي عشرة أعوام، وكان يكبر السيدة زينب بحوالي خمس سنوات.
أبوه كان يقود المسلمين في غزوة تبوك في بلاد الشام مع الروم، وقطع الروم يده اليمنى فأمسك الراية بيده اليُسرى، فقطعوا يده اليُسرى فأمسك الراية بعضديه يعني الجزئين العلويين من الذراع، وأخذ يقاتل حتى قُتل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلَّم من إعجاز الله معه جالساً في ذاك الوقت في مسجده المبارك وحوله أصحابه يصف لهم المعركة وصفاً تفصيلياً كأنهم يرونها، فيقول:
ولذلك سموه جعفر الطيار، وهو أخو الإمام علي رضي الله عنه، ولكنه أكبر من الإمام علي، وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلَّم.
عبد الله بن جعفر كانت فيه سجايا وأخلاقٌ كريمة وعظيمة لا تُعد ولا تُحد، وكان يُضرب به المثل في الكرم والجود، حتى أنه كان يجود بكل ما عنده ولا يُبقي لنفسه ولا لأولاده شيئاً، وتكرر ذلك معه عدة مرات، وكان لطيف الحديث حُلو الشمائل فيه كل الصفات الطيبة.
فتزوجت السيدة زينب من ابن عمها عبد الله بن جعفر، وأنجبت منه خمسة أولاد، ثلاثة رجال وبنتين، وكانت تؤدي رسالتها في دين الله مع قيامها بحقوق زوجها وأولادها، فكان يذهب إليها في بيتها كثيرٌ من نساء المسلمين يتفقهن في الدين، وتعلمهن ما يحتجن إليه من شرع رب العالمين سبحانه وتعالى.
تطورت الأمور وحدث ما لا يُحمد عقباه، حيث دخل اليهود وصنعوا فتنة بين المسلمين، فجعلوا المسلمين يذهبون من مصر واليمن والشام إلى المدينة، وقتلوا خليفة المسلمين في ذاك الوقت وهو سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وقد كانت بداية الفتنة التي حلت بالأمة الإسلامية بعد مقتل عثمان.
عثمان كان من المبشرين بالجنة، وغزوة تبوك التي تحدثنا عنها عندما ذهب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعد قتل جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ليأخذ بثأرهم كان المؤمنين في حالة اقتصادية سيئة، فقام عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه بالتبرع للجيش بألف فرس محملةٌ بكل ما يحتاج إليه المقاتل على ظهرها، وتبرع بأشياء كثيرة حتى قال صلى الله عليه وسلَّم:
لم يعد عليه شيء، وضمن دخول الجنة لأنه أدَّى ما عليه لله سبحانه وتعالى.
اختار الناس بعد مقتل عثمان الإمام علي بن أبي طالب أبو السيدة زينب لخلافة المسلمين، وكانت هذه بداية معاناة آل بيت النبي، وهم الإمام علي وذريته وأخواته وأبناؤهم وآل النبي أجمعين.
ولذلك يُروى أن الإمام علي مكث في الخلافة حوالي خمس سنين، وأرسل رسالة لأهل الكوفة والذين كان يعتبرهم أنصاره يقول فيها: (ليتني ما عرفتكم، ما رأيت منكم إلا كل شرٍ وضُر) لأن هؤلاء الأقوام تشدقوا بحب آل البيت، ولكن لحظة الجد تجدهم أول المحاربين والمقاتلين لآل البيت، هذه طبيعة هؤلاء الأقوام، ولذلك كان يقول لهم: (يا أهل العراق يا أهل النفاق) لأن هذا كان حالهم.
عندما تولى سيدنا الإمام علي الخلافة، كان معاوية والياً على بلاد الشام، فطلب معاوية – لشيء في نفسه – بقتلة عثمان ليأثر منهم لعثمان، ولم يكن ذلك في يد الإمام علي، ولكنه يريد سبباً للإستقلال ببلاد الشام عن الدولة الإسلامية في حينها، وحدثت حروب لا أطيل الحديث بذكرها، هذه الحروب كلها جعلت الإمام علي ينتقل إلى الكوفة في بلاد العراق، ومعه أولاده، ومعه بني إخوته، ومن جملة الذين انتقلوا معه السيدة زينب وزوجها عبد الله بن جعفر ومعهم أولادهم حتى يكونوا ميادين القتال، لأن العراق قريبة من بلاد الشام.
ظهر في هذا الوقت – وهم آفة العصر الذي نحن فيه – طائفة من الخوارج، ففي معركة صِفين وهي المعركة الرئيسية بين الإمام علي وبين معاوية كان مع معاوية عمرو بن العاص، وكان كما يُوصف بأنه داهية من دواهي العرب، في الفكر والذكاء وحُسن الحلية.
عندما حدثت حربٌ بينه وبين طائفة من الروم محصنين في حصن، ويريد أن يعرف أخبار الحصن من الداخل، تنكر ودخل على أنه رسولٌ من عمرو بن العاص، ولم يفطنوا له إلا عند خروجه، ففر ولم يلحقوا به، أرأيت الذكاء والفطانة وصلت لأي مرحلة!!، يدخل هو بنفسه ليعرف الأخبار ولا يثق في أحد، ولم يكتشفوه إلا في اللحظات الأخيرة.
فأشار عمرو بن العاص على معاوية بحيلة، وهي أن يرفع المصاحف على أسنة الرماح، ومعناها أننا نريد حكم الله بيننا وبينك، والمعركة كانت على وشك أن تنتهي بانتصار الإمام علي، وانكسار جيش الشام الذي يقوده معاوية، لكن الذين مع علي وهم بداية الخوارج قالوا له: لقد رفعوا المصاحف فلا يصح أن نحاربهم ويجب أن نقبل بحُكم الله، فقال لهم: إنها حيلة وإنه عمرو وأنا أعرفه، قالوا له: بل نقبل بحكم الله.
فوضعت الحرب أوزارها، وبمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، قالوا له: لِمَ تقبل بحكم الناس في كتاب الله؟! قال: أنتم الذين أشرتم بذلك وأصررتم، ولذلك حيروه وديروه، فكان يشكو إلى الله ويقول: اللهم إني قد سئمت وسئموني، اللهم أرحني منهم، فانقلبوا عليه وحاربوه وكانت هذه بداية الخوارج، وكانوا حوالي أربعة آلاف.
والإمام علي كان الرسول صلى الله عليه وسلَّم قد أخبره بكل شيء سيحدث له، فكان قبل أي موقعة يقول لهم: سيحدث كذا، فقبل الواقعة قال: ستقاتلون الخوارج، وسيموتون جميعاً ولن يبق منهم إلا تسعة، وهذا ما حدث، فقد قامت المعركة وقُتل الخوارج ولم يبق إلا تسعة على قول الله: ” وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ” (48النمل) هم الذين نشروا الفساد في الأمة الإسلامية كلها كما ترونهم الآن، وهم من ذرية الخوارج.
من الذي حضر هذه المعارك كلها؟ السيدة زينب رضي الله عنها، فالخوارج بعد ما حدث لهم ما حدث، اجتمعت المجموعة الذين كانوا قد حضروا المعركة وألَّفوا معهم مجموعة أُخرى، وقالوا: نقتل علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في ليلة واحدة ونريح المسلمين منهم، واتفقوا على ذلك.
واتفقوا على ليلة السابع عشر من رمضان، فقالوا: ومتى نقتلهم؟ قالوا: عند خروجهم لصلاة الفجر، ولم يكن في هذه الأيام حرس ولا غيره.
فالإمام علي ليلة الجمعة وهو خارج لصلاة الفجر طلع عليه عبد الرحمن بن ملجم قاتله الله وضربه بسيفه، ونُقل الإمام علي إلى منزله والدم ينزف منه، وأراد أبناؤه قتل الخارجي، ولكنه رغم شدة علِّته قال لهم: انتظروا، فإذا أنا متُّ فاقتلوه ولا تقتلوا أحداً غيره، وإذا عشتُ فسأرى فيه رأيي.
ومعاوية بن أبي سفيان لم يخرج في هذه الليلة، وأناب عنه صاحب الشرطة، فقُتل صاحب الشرطة، أما عمرو بن العاص كان في مصر وأيضاً لم يخرج في هذه الليلة فنجا من القتل.
فرأت السيدة زينب أباها في هذه الحالة، وتولَّى بعد علي ابنه الإمام الحسن، ولكن الإمام الحسن عمل بما أشار به صلى الله عليه وسلَّم:
بعد أن ظل الإمام الحسن في الحكم ستة أشهر تفاوض مع معاوية، وقال له: أنا سأترك لك الحكم ولكن بشرط أن لا تورث الحكم لأحد من أولادك من بعدك، ويكون الحكم شورى بين المسلمين، فوافق.
لكن تم الاتفاق مع زوجة الحسن أن تضع له السم، فمات الإمام الحسن سنة خمسين من الهجرة، وكل هذا تراه السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها.
عادوا إلى المدينة، فعقد معاوية البيعة لابنه يزيد بأن يحكم بعده، وطلب من الولاة في الأنصار أن يأخذوا البيعة ليزيد، ويزيد كان مشهوراً بين المسلمين أجمعين بأنه غير سويٍّ في طاعة الله، بل إنه كان يشرب الخمر وغير ذلك، فكيف يكون خليفة؟!.
فجمع والي المدينة كبار المدينة، الحُسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وقال لهم: إما البيعة ليزيد وإما السيف، والإسلام لا يرضى بالبيعة بالإكراه، فحاولوا أن يقنعوه ولكن بلا فائدة.
فخرجوا إلى مكة، وفي هذا الوقت أرسل أهل الكوفة إلى الحسين بن علي رسالة مفادها: تعالى إلينا، فهناك ألف سيف معك حتى تقيم الحق، وترد الشيء إلى أصله.
الإمام الحسين لم يجد مكاناً يهرب فيه، ولا يريد أن يبايع مُكرهاً لأنه رجلٌ من الرجال، وسيدنا عبد الله بن عباس كان حكيماً فقال له: لا تطعهم وابق ولا تسافر، وسيدنا عبد الله بن عمر قال له كذلك، ولكنها إرادة الله.
فأخذ أهله ونساءه ونساءهم وسافر، ولم يكن جيشاً لأن جملة ما كان معه حوالي سبعين، رجال ونساء، وأثناء مسيره قابله الشاعر المشهور الفرزدق، وكان يحب أهل البيت فقال له: ما رأيك في أهل الكوفة؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، وفعلاً كانت عبارة دقيقة، يعني يتكلمون جيداً جداً، ولكن قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
وكان والي الكوفة في ذاك الحين عبيد الله بن زياد، وكان رجلاً قاسي القلب، فجهز جيشاً من أربعة آلاف ليقضي على الحُسين ومن معه، والحسين لم يكن معه جيش، ولكن كان معه أولاده، وأولاد إخوته والنساء، فتقابلوا في كربلاء (كرب وبلاء).
وكربلاء فيها نهر دجلة، فعسكروا على النهر ومنعوهم من الشرب وحاصروهم، فعرض عليهم الحسين رضي الله عنه أن يتركوه أن يرجع إلى المدينة فأبوا، أو يأخذوه إلى يزيد بن معاوية فأبوا، أو يتركوه يذهب إلى ميدان الجهاد ويجاهد في سبيل الله فأبوا، ولم يقبلوا أي شرطٍ من هذه الشروط، ولا بد من الحرب.
هذه حرب غير متكافئة فكيف يحاربهم؟ في هذا الوقت الإمام الحُسين رضي الله عنه وأرضاه كان له أربعة عشر ولد، ماتوا كلهم أمامه واحداً وراء الآخر، ولم يبق غير سيدنا علي زين العابدين، وكان مريضاً مرضاً شديداً بالحمى وكان نائماً في الخيمة.
وأخذ الإمام الحُسين يحارب بالسيفين، حتى تكسرت السيوف، وكانت الطعنات التي فيه أكثر من ثمانين طعنة إلى أن استشهد في يوم العاشر من المحرم.
وكان يعلم أنه سيموت، لأنه دعا أخته السيدة زينب في الصباح وقال لها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في المنام وقال لي: يا حُسين عطشوك؟ قلت: نعم، قال: حاصروك؟ قلت: نعم، قال: إن شئت نُصرت عليهم، وإن شئت تُفطر عندنا.
فرأت السيدة زينب هذا المشهد، ورأت هؤلاء غلاظ القلوب يمرون بخيولهم ذهاباً وإياباً على جسده الشريف، فلم يقتلوه فقط، حتى أن هذا العمل لا يعمله أعتى الكفار، مع أنهم كان عندما يحين وقت صلاة الظهر وينوي الحسين الصلاة ومن معه، فكل جيش عبيد الله بن زياد يصلون خلف الحسين، وبعد إنتهاء الصلاة يمسكون بالسيوف ويقاتلوه، أي ناسٍ هؤلاء؟!! وهذا البلاء الذي حل بالمسلمين.
فخرجت السيدة زينب، وكانت أول مرة تخرج من بيتها، لأنها كانت لا تخرج من بيتها إلا لماماً، وأخذت تصيح وتنادي بفصاحتها يا محمداه يا محمداه، هذا الحسين، وهؤلاء أولادك وذريتك ماتوا من العطش، وسمعوا وتأثروا ولم يستجب أحدٌ منهم قط، وساقوهم سبايا، والسبايا هم الذين يأخذوهم في ميدان القتال ويُباعوا في الأسواق، وهذا لا ينبغي لمسلم ولا لمسلمة، فساقوهم إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة.
ودخلوا عليه القصر، فدخلت السيدة زينب وكانت هي صاحبة القدوة في هذا الأمر، فأراد أن يُعيرها فقال لها: أرأيتِ ما صنع الله بذويك وأهلك؟ قالت: برزوا إلى مضاجعهم والموت حقٌ عند الله سبحانه وتعالى، فكلم علي زين العابدين وكان صغيراً، ما اسمك؟ قال: عليٌ بن الحُسين، قال: وهل هناك علي بن الحُسين؟ ألم يُقتل؟ لأن سيدنا الحُسين كان يُسمي أكثر من ولد من أولاده باسم علي، علي الأكبر، وعلي الأوسط، وعلي الأصغر، فسكت الغلام، فأمر بقتله، فاحتضنته السيدة زينب رضي الله عنها، وقالت له: إن كنت مسلماً فاقتلني معه إن أردت قتله، فتركه، وأرسلهم على هذه الهيئة إلى يزيد بن معاوية في دمشق.
موكب لم يسمع التاريخ بمثله، يتقدمهم رأس الحسين لأنهم قطعوا رأسه، ولا بد أن يذهبوا برأسه إلى يزيد، ثم نساء آل بيت النبي، لأنه لم يعد غير النساء، والولد الباقي الوحيد هو علي زين العابدين.
ودخلوا على يزيد، والسيدة زينب كان لها أخت بنت الإمام علي واسمها فاطمة، والسيدة زينب وأختها فاطمة كانتا تتميزان بالجمال، جمال الخلقة، وجمال الخُلق، وجمال الطبع، وقل ما شئت.
فأحد الجالسين مع يزيد من أهل الشام، ظن أن هؤلاء سبايا من المعركة، فنظر إلى فاطمة بنت الإمام علي وقال: يا أمير المؤمنين اعطني هذه الفتاة – يعني تكون ملكاً لي – فخافت البنت وأمسكت بأختها السيدة زينب، فقالت السيدة زينب: ليس لك ولا له هذا الأمر، فاغتاظ يزيد من الكلمة، فقال لها: بل لي هذا الأمر، وأستطيع أن أفعل ذلك إن شئت، قالت: لو فعلت ذلك كفرت وخرجت من ملة الإسلام، قال: الذي كفر أبوكِ وأخويكِ، قالت: أنا على دين أبويا وأخوايا وجدي، ولولاهم ما كنت مسلماً أنت ولا قومك.
كانت في غاية الشجاعة في هذا الموقف العظيم، فيزيد تأثر وأمر بأن يرجعوا إلى المدينة المنورة.
جاءوا إلى المدينة المنورة، والناس كلهم كانوا متأثرين بالطريقة التي مات بها الإمام الحُسين وقومه رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، لأنها طريقة غير مقبولة بالكلية حتى من الكافرين، فالرجل خيركم بين ثلاثة أشياء، فاختاروا حتى ولو واحدة منهن، لكن لهم قلوبٌ أشد قسوة من الحجارة والعياذ بالله تبارك وتعالى.,
ولذلك عندما دخل الكوفة أخذ نساء أهل الكوفة يصيحون ويبكون والرجال كذلك، فسيدنا علي زين العابدين كان لا يزال ضعيفاً فقال: ماذا تصنعون؟ ألستم الذين قتلتمونا؟!.
فقابلهم أهل المدينة بحزن شديد ووضع يليق بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلما وصلت السيدة زينب وكما قلنا كانت شجاعة ولا تخشى في الله لومة لائم، والناس يذهبون إليها ليواسوها ويعزوها، فوالي المدينة أرسل ليزيد وقال له: لن يستقر الحكم لنا في المدينة إلا إذا خرجت زينب من المدينة، فقال له: خَيِّرها تختار أي مكان وتذهب إليه، فكان من فضل الله على أهل مصر أنها اختارت مصر.
وصلها أن أهل مصر يحبون أهل البيت ويحبون النبي صلى الله عليه وسلَّم، وأنهم قومٌ كرام السجايا، فقالت له: سأذهب إلى مصر، وأخذت معها أولاد أخواتها كلهم، لأن أولادها الذكور ماتوا كلهم أمامها في كربلاء أيضاً، فكان لها ثلاثة أولاد ذكور ماتوا كلهم أمامها في كربلاء مع سيدنا الحُسين وأولاده.
فجاء آل البيت جميعاً إلى مصر، وكان من يحكم مصر في هذا الوقت صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، واسمه مسلمة بن مُخلَّد، وكان رجلاً صالحاً، فلما سمع بمجيئهم خرج لاستقبالهم عند بلبيس، وبلبيس كانت هي الطريق للقادم من غزة ثم العريش ثم الفسطاط وهي عاصمة الدولة المصرية، وهي القاهرة حالياً.
وأقامها في بيته، فجعل لها مكاناً مخصوصاً في بيته أقامت فيه، وتفرغت لطاعة الله وعبادة الله سبحانه وتعالى.
وكان لكل والي مجلساً من الأعيان يسمى الديوان يستشيرهم في الأمور المهمة، فالتماساً لبركة السيدة زينب كان يطلب منها أن تحضر المجلس ولكن من وراء ستار، وتشير عليهم بالرأي الذي فيه الصواب، ولذلك يسمونها رئيسة الديوان، واسمها صاحبة الشورى لأنهم كانوا يستشيرونها في الأمور المهمة.
بعض الصوفية هداهم الله يؤلفون روايات وينسجونها وليس لها أساس – وهذا الكلام مكتوب في الكتب ويحتاج للإزالة – فيقولون: هناك ديوان للصالحين، وهذا الديوان يُعقد في كل أسبوع في غار حراء، ويحضره حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، ويجتمع فيه الأولياء كلهم، ورئيسة هذا الديوان السيدة زينب، فهل هذا الكلام يصدقه العقل؟ ولنفرض أن هذا الديوان موجود، فهل السيدة زينب ترأس مجلس فيه حضرة النبي؟! أو تكون رئيسة مجلس فيه سيدنا الحُسين؟! ولكن هذه خرافات.
ولكنها كانت رئيسة الديوان الذي كان يعقده الوالي في بيته، وهذا الديوان كان لكبار الدولة ليستشيرهم في الأمور المهمة، وكان تحضر من خلف ستارة، ويطلبون منها أن تُدلي برأيها، لأنها كانت معروفة بالحكمة ورجاحة الفكر والعقل، فهذا ديوان السيدة زينب.
أما الديوان الآخر الذي يتكلمون عنه، وتجد كل أصحاب الموالد يقولون أن الديوان يُعقد كل ليلة جمعة، ويصدر أحكام، ويحكم العالم كله، فيقول: هذه الدولة ستنتصر، وهذه الدولة ستنهزم، فمن أين جاءوا بهذا الكلام؟!! هذه خرافات وخزعبلات ونحن لا نقبلها بالكلية، ونحاول أن نرشد الناس ولكن بالحكمة، وطبعاً أصحاب الموالد لا تستطيع إقناعهم، ولكننا نرشد الناس العلماء الحكماء، حتى يفهموا الحقيقة في هذا المجال.
عاشت السيدة زينب في هذا البيت حوالي سنة، ثم جاء أجلها، فدفنت في غرفتها في بيت الوالي الذي كانت تتعبد إلى الله تعالى فيه، وبيت الوالي هو الذي أصبح مسجدها الموجود الآن وهو مسجد السيدة زينب رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وأين زوجها؟ تركته في المدينة، لأن الحكم كان شديداً، فحكموا أن يفرقوا بينها وبينه، يعني لا يذهب معها زوجها، وهذه أيضاً كانت شدة شديدة تعرضت لها في حياتها، أن زوجها يكون في المدينة، وهي هنا وحدها.
السيدة زينب كانوا يسمونها عقيلة بني هاشم، ولماذا هذا الإسم؟ لأنها بعد الحسن والحُسين كانت الملجأ لآل البيت في الإستشارات، فكانوا يذهبون إليها يستشيرونها في كل الأمور الهامة.
وكانوا يسمونها بأُم العواجيز، لأن بيتها كان مليئ بكبار السن العجزة والمرضى لتطعمهم، في الفترة التي قضتها في مصر.
توفت في الخامس عشر من رجب سنة احدى وستون من الهجرة، ولذلك يعقدون مولدها ليكون في شهر رجب في ميعاد الوفاة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بها وبالصالحين أجمعين، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] جامع الترمذي ومسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها