Sermon Details
مراتب القلب
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
قلنا أن قلب الإنسان هو حقيقة الإنسان التي تحمل المعاني الغيبية التي لا تظهر في جسم الإنسان، والمعاني الغيبية كالعقل والروح والسر والخفى والأخفى وغيرها من هذه الحقائق الغيبية لا يُوجد لها أي مكان في جسم الإنسان، ولكنها تقع في حقيقة الإنسان وهي قلب الإنسان.
وقلب الإنسان من عالم الملكوت وجسم الإنسان من عالم المُلك، أي العالم الأرضي الذي نحن فيه، فكل الحقائق التي من عالم الملكوت لا تُرى بعين الحس، وإنما تُرى بعين البصيرة لمن فتح الله له بصيرته ونوَّر سريرته، كل هذه الأشياء الملكوتية تقع في مملكة القلب.
أما الأشياء المادية فهي كلها تقع في جسم الإنسان، والله سبحانه وتعالى رتَّب الوجود كله درجات ومراتب، فهناك مراتب للوجود كله، لكن هذا العلم من علوم المكاشفات لا يُوجد في كتب ولا في مؤلفات، ولا يستطيع أن يتحدث عنه حتى العارفين ولو بالإشارات، وإنما يكون إلهاماً، والإلهام يتلقاه القلب من الله سبحانه وتعالى مباشرة.
والقلب وهو الحقيقة الملكوتية النورانية في الإنسان جعل له الإمام أبو العزائم رضي الله عنه مراتب سبعة، فيقول: مراتب القلب سبعة: الفؤاد والعقل والِحجر والحِجى واللُّب والجنان والسويداء، وهي أعلى مراتب القلب.
والحقيقة أن الإمام أبو العزائم رضي الله عنه ذكر هذه المراتب كما ذكرناها الآن ولم يفسرها، لأنها أشياءٌ لا تدركها العقول الجسمانية، ولكن تحتاج إلى العقول الوهبية.
1- الفؤاد:
الفؤاد هو الجزء الرفيع من القلب، وهو برزخٌ بين القلب والجسم، فالقلب يتلقى من عوالم الملكوت ومن عالم الغيب ما يرد إليه من العلوم والفوائد والمعارف، ويُنزلها على الفؤاد والفؤاد يُنزلها على عالم الجسم.
والجسم بما فيه من الحواس، وما فيه من الآلات يتلقى المعارف من عالم الكون، هذه المعارف ينقلها الفؤاد أيضاً إلى عالم القلب، فالفؤاد هو البرزخ يعني المعبر بين الجسم وبين القلب.
2- الحِجر:
أما الحِجر فهو المقام الذي يمنع الإنسان من تعاطي ما يليق به من الأفعال والأقوال، ومن الوقوع في الشرك والضلال، وهذا مقام اسمه الحجا أو الحِجر، وهذا مذكورٌ في سورة الفجر: ” وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ” (1-5الفجر) يعني الإنسان الذي له حِجر وهو المُكَوِّن النوراني في قلبه، هذا المُكَوِّن هو الذي يمنعه من المعاصي، ويمنعه من المخالفات، ويمنعه من الوقوع في الضلال فضلاً من الله تبارك وتعالى.
3- الحِجى:
أما الحِجى فهو جانب الفطنة الذي يكون في جانب الإنسان، ويظهر أثره على جسم الإنسان، فهو يمنع الإنسان من السقوط عند المجادلة مع أي شخص آخر، لأنه يُورد عليه من الفطنة ومن الذكاء ما يجعله يستطيع أن يجادل بذكاء ودهاء فلا يسقط، وهو أيضاً الذي يميز به الإنسان بين الأشياء المتماثلة، شيئين يماثلوا بعض ويضاهوا بعض، ما الذي يفرق بينهما؟ يحتاج هذا إلى فرط الذكاء وشدة الذكاء، وهذا الذكاء وهذه الفطنة له مقامٌ مخصوصٌ في قلب الإنسان.
4- اللُّب:
أما اللُّب فهو جوهر القلب وحقيقته الباطنة، أو حقيقة القلب التي يتم بها الإدراك والتمييز، يُدرك بها الأشياء ويميز بها بين صور الأشياء.
5- العقل:
العقل شرحناه قبل ذلك، وقلنا أن العقل جوهرة نورانية جعلها الله عز وجل في القلب، تتلقى من الله العلوم الإلهية، وتنزلها إلى العقل المطبوع الموجود صورةٌ له أو مقرٌ له في رأس الإنسان، وليس هو المخ ولا المخيخ، ولكنها أجهزة ربانية نورانية تتصل بأنوار قدسية ربانية، لا تطلع عليها الأجهزة الطبية، ولا حتى الأجهزة الكشفية الحديثة، لأنها أمورٌ إلهية.
6- الجَنان:
أما الجَنان فهو جوف القلب الذي يتسم بالإرادة، وهو الذي يُعطي الإنسان الجرأة عند اتخاذ القرار، والجُرأة عند المنازلة والصراع والحروب، والثبات في المواقف المختلفة، كل ذلك يأتي من الجنان الذي هو لُب وقلب الإنسان.
علامة استنارة القلب
متى يعلم الإنسان صاحب هذا القلب أن قلبه قد استنار بنور الرحمن؟ إذا كان صاحب هذا القلب همه الأكثر في عبادة الله وطاعة الله، وأكثر كلامه في الثناء على الله والاستغفار لله، إذا كان على هذه الحالة نعلم أن قلبه استنار بنور الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان قد تغلب عليه الحياة الملكوتية من طاعة الله وذكر الله والاستغفار لله، وهذا يكون علامة على رضا الله عنه وقربه منه.
أما إذا غلبت عليه الحياة الحيوانية، وليس له همٌّ إلا في الطعام والشراب والنكاح والشهوات وما شابه ذلك، دلَّ ذلك على أنه ساقطٌ من عين الله تبارك وتعالى: ” إِنْ هُمْ إِلا كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ” (44الفرقان).
وإذا غلبت عليه الحياة الشيطانية، يعني كان كل همه في الكيد والتفرقة بين الناس، والمشي بينهم بالغيبة والنميمة، والسعي لعدم الإصلاح بين المتآخين، بل إيقاظ نار الفتنة والخصومة بينهم ويتلذذ بذلك، فيتلذذ إذا وجد الأحباب أعداء، ويتلذذ إذا وجد بين الإخوة خصومة شديدة ويُلدُّون في هذه الخصومة، إذا كان على هذه الحالة فهو والعياذ بالله شيطانٌ وأضل: ” شَيَاطِينَ الانْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ” (112الأنعام) بدأ الله بشياطين الإنس.
أيضاً للإنسان علامة في نفسه يعلم بها أن قلبه قد طهُر لله، وأن الله عز وجل راض عنه، إذا ترك العيوب وبعدها ترك الذنوب، وكانت دائماً طاعاته وأعماله في مرضاة علام الغيوب، وهذا الذي يكون في هذا الحال ينظر بعين القلب، والذي ينظر بعين القلب، علامته في نفسه أن ينظر إلى عيوب نفسه، فمن نظر بعين قلبه ينظر إلى عيوب نفسه.
ومن لم يكن قلبه أُضيئ بنور الرحمن ينظر إلى عيوب غيره، ومن ينظر إلى عيوب غيره فاعلم أنه في هذا المقام بعيد عن حضرة الرحمن سبحانه وتعالى، لأنه لو كان قريب من الله يكون دائماً نظره إلى عيوب نفسه فيُصلحها، ويُجملها ليكون مقبولاً عند ربه، لأن الله جميلٌ يحب الجمال، ولذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: ((عيون الرأس إن فُتحت رأت عيوب الغير، وعيون القلب إن فُتحت رأت عيوب النفس فداوتها، فرأت الجمال الإلهي)) وهذه علامة يجدها السالك في نفسه ليتأكد أنه على وفق مراد الله تبارك وتعالى.
شعب القلب
ومن هنا نجد أن للقلب ثلاث شعب، شعبة توصله إلى الله، وشعبه توصله إلى رسول الله، وشعبة توصله إلى عمل دنياه.
والقلب يقوم بالجميع في وقت واحد، ولا يطغى واحد على واحد، فما كان لله يواليه على الدوام، وما كان نحو رسول الله صلى الله وسلَّم يسعى فيه أبداً حتى يكون على ما يرام، وما يحتاجه من أمور الدنيا يسعى فيه كما أمر الله في قرآنه، وكما كان الحبيب صلى الله عليه وسلَّم في هديه، وكما كان الصحابة الهادين المهديين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين في كل أحوالهم، فقد كانوا كما قيل في شأنهم:
في الليل رهبان بذكر إلههم |
سكارى حيارى في شهود وفي ذكر |
تراهم نهاراً كالسباع شهامة |
كما أمر الرحمن في طلب البر |
في النهار يسعون في السعي على معاشهم والأحوال التي بها تتم حياتهم، وفي الليل يجعلون ولو وقتاً منه مخصصاً لطاعة ربهم.
كان سيدنا عمر رضي الله عنه – وهو من أقطابهم – لا ينام ليلاً ولا نهاراً إلا قليلاً، يغفو غفوة بعد الظهر إلى قبل العصر، فقيل له: يا أمير المؤمنين لِمَ لا تُعطي جسمك حظه من النوم، فقال رضي الله تبارك وتعالى عنه: ((إذا نمت نهاراً ضيعت رعيتي، وإذا نمت ليلاً ضيعتُ نفسي، فجعلتُ النهار لرعيتي، وجعلتُ الليل لربي تبارك وتعالى)).
فالنهار للسعي على المعاش تماماً بتمام، وهم في هذا السعي كالأسود التي تجالد بصراع وبقوة في سبيل نيل لقمة حلال التي هي أساس صلاح العبادات، وقبول الدعاء عند رب البريات تبارك وتعالى.
وفي الليل يجعلون منه ولو وقتاً يكونون فيه في حال قرب من الله للمناجاة، إن كان في تلاوة كتاب الله، أو في ذكر الله، أو في الاستغفار لله، أو في تلاوة بعض فصول العلم النافع الذي به يتعرف على دينه، ومن يفعل ذلك يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ }[1]
علامة حب الله للعبد أن يجد عنده في نفسه رغبة في زيادة المعرفة بدين الله تبارك وتعالى، لا ليقول، ولكن ليعمل به ليكون من العلماء العاملين.
حياة القلب
وما أجمل هذه الحكمة جليلة القدر التي ساقها لنا الإمام أبو العزائم رضي الله عنه حيث يقول: ((قلب المؤمن زينة الرحمن، فهو كالبستان غرسه الملك المنان، حفظه من الشيطان، ومن زَرع زرعاً سقاه، ومن صنع معروفاً أبقاه، ومن زَيَّن موقعاً وقاه)).
إذا أراد الإنسان أن يُحيي قلبه، فماذا يفعل؟ حياة القلب لا تكون إلا بمجالسة أهل الذكر وأهل الفكر وأهل الشكر، واستجلاب نور القلب يكون بخلوة ولو قليلة مع مجاهدة النفس، فإذا صاحب الإنسان الصالحين وجالسهم على الدوام، وجعل لنفسه خلوة ولو قليلة يناجي فيها الله تبارك وتعالى، وجاهد نفسه في ترك المعاصي بالكلية، هناك يحتيي القلب، وإذا احتيا القلب، فإن صاحبه قلبه لا يموت أبداً.
كان الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه إذا نام يسمع كل من حوله قلبه وهو يقول الله الله الله، كأنه ورث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في قوله:
{ تَنَامُ عَيْنِي، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي }[2]
وكان لا ينام إلا إذا حضر عنده قارئٌ يقرأ في كتاب لله حتى يستغرق في النوم، وكان أحياناً يستغرق في النوم فيتوقف القارئ، فيقول له: أكمل، وكان أحياناً يُخطئ القارئ في لفظة أو حرف فيُصحح له وهو نائم، وهذا دليلٌ على أن قلبه قد احتيا، ومن احتيا قلبه يكون حتى وهو نائم في ذكر دائم لله سبحانه وتعالى على الدوام.
أدوات تحصيل المعرفة في الإنسان
الأمر الآخر الذي نحتاجه هو أن الله عز وجل جعل أدوات المعرفة في كتاب الله ثلاث، فقال سبحانه: ” إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ” (36الإسراء).
أي أن الإنسان يجمع المعارف من الأكوان، إما بالحواس الخمس التي جعلها الله تبارك وتعالى فيه، وهي الذوق واللمس والسمع والبصر والشم، وهي تجمع للإنسان معارف عن طريق هذه الحواس.
وإما أن يسمع الإنسان أو يقرأ وتنتقل هذه المعارف إلى عقله، فتكون المعارف عن طريق العقل، وإما أن يصل للإنسان إلهامٌ من الله إذا صفا إلى قلبه.
فالمعرفة إما حسية وإما عقلية وإما قلبية إلهامية، فالمعرفة الحسية كما قلنا تعتمد على الحواس، ويشترك فيها جميع الناس.
والمعرفة العقلية هي التي تنقلها الحواس إلى العقل، ويفكر فيها العقل، قد يشترك فيها جميع الأنام، ولكن يختلفون بينهم بحسب العقائد التي تكون في قلوبهم، فإنهم يشكلون هذه المعارف العقلية بحسب فِطرتهم ودينهم ومذاهبهم التي يخضعون لها.
أما المعرفة القلبية فتكون معرفةٌ إلهامية، والمعرفة الإلهامية لها طريقين:
أولاً: إذا صفا الإنسان وتعبد لله فإن الله عز وجل قد يُلهمه بأسرار العبادات التي يعبدها لله، فإن الشريعة جاءت بطريقة العبادات، ولكن الحقيقة تأتي بأسرار هذه العبادات، يعني كمثال: لماذا جعل الله الصلوات خمس؟ ولماذا سمى هذا الصبح؟ وهذا الظهر؟ وهذا العصر؟ وهذا المغرب؟ وهذا العشاء؟ ولِمَ اختلفت الركعات فكان الصبح ركعتين والمغرب ثلاث والباقي أربع؟ هذه تحتاج إلى إلهام من الله يقذفه في قلب العبد ليعلم حكمة هذه الأحكام التي من أجلها فرضها علينا الله تبارك وتعالى.
كذلك إذا حجَّ بيت الله، يعلم لماذا كان الطواف سبعاً؟ وكان السعي سبعاً؟ وكان رمي الجمرات سبعاً؟ ولِمَ كان الطواف بهذه الكيفية؟ ولِمَ كان السعي بهذه الكيفية؟ وكيفية الأعمال الشرعية في الحج يُظهر الله تبارك وتعالى له أسرارها، وهذا علمٌ اسمه (حكمة الأحكام).
ولا يصل الإنسان إلى القرب من الحاكم تبارك وتعالى إلا بمعرفة حكمة الأحكام، ثم يعمل بهذه الأحكام بإخلاص وصدق وصفاء نية، فيهب الله له من عنده عطاءاً لدُنيِّاً يعلمه حكمة هذه الأحكام ليزيد في عبادته، ويتلذذ بها ويجد لها أثراً طيباً في نفسه على الدوام.
ثانياً: يُلقي الله عز وجل عليه إذا زكت نفسه ونمى فؤاده وصفا قلبه قبساً من علوم المكاشفة، وعلوم المكاشفة يعني علوم الحقائق العالية كحقائق عالم الملكوت التي لا يراها إلا الإنسان الذي صفت مرآة قلبه، وفتح الله عين قلبه:
قلوب العارفين لها عيون |
ترى ما لايراه الناظرون |
وأجنحةٌ تطير بغير ريش |
إلى ملكوت رب العالمين |