Sermon Details
المرض التاسع: الكِبْر
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله والصلاة والسلام على سيد رُسل الله وأنبياء الله، وآله وصحبه ومن والاه، وعلينا معهم أجمعين آمين يا رب العالمين.
أشد آفات القلوب فتكاً بالإنسان هي آفة الكِبْر، والكِبْر أن يرى الإنسان نفسه أعظم من غيره وأفضل بشكل عام، أو في أي أمر من الأمور.
والتكبر على العباد عظيم، لأنه عندما يستعظم الإنسان نفسه يستحقر غيره، وربما يجره ذلك إلى أنواع المعاصي كما جرَّ إبليس إلى مخالفته الأمر الإلهي، فالسبب الأساسي الذي أودى بإبليس موارد التهلكة هو كِبره، والذي يقول الله تبارك وتعالى حاكياً عنه: ” قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ” (12الأعراف).
المتكبر دائماً وأبداً يرى في نفسه أنه خير من غيره، ولذلك إذا كان الكِبْر في نفسه ولم يظهر على أعضائه وجوارحه يُسمى الكِبْر، فإذا ظهر ما في نفسه على جوراحه وفي سلوكه يُسمى التكبُّر، وكلا الأمرين يؤدي بالإنسان إلى حيث يكون مُبعداً عن الله وعن حضرة الحبيب والمقربين من عباد الله.
علامات الكِبر
وللكِبْر علامات يراها الإنسان في المريض بهذا الداء، منها:
أن يمشي الإنسان يتبختر، يعني يظهر عليه الخُيلاء والبطر، ويتمطَّى يعني يمشي وكأنه يريد أن يخرق الأرض، ويختال ويُعجب بنفسه، وكل هذه الأوصاف مكروهة لقول الله تعالى: ” وَلا تَمْشِ فِي الارْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الارْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ” (37الإسراء) وقال في هؤلاء صلى الله عليه وسلَّم:
{ يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ }[1]
وفي رواية أخرى:
{ يَبْعَثُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسًا فِي صُوَرِ الذَّرِّ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ، فَيُقَالُ: مَا هَؤُلَاءِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ فِي الدُّنْيَا }[2]
وقال الصِدِّيق رضي الله عنه: (لا يُحقِّرنَّ أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير).
ذمّ الكِبر
ولذلك فإن الله عز وجل ذمَّ الكِبر في كتابه الكريم، وفي أحاديثه القدسية، فقال تعالى:” سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ” (146الأعراف) والآيات هنا يُقصد بها الآيات في السموات والآيات في الأرض الدالة على قدره الله: ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ” (190آل عمران).
وقال الله تبارك وتعالى في وصفٍ أشنع وأفظع: ” كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ” (35غافر).
وبيَّن أنه عز وجل لا يحب من يتصف بوصف الكِبْر، أي يرى نفسه خيراً من غيره فقال: ” إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ” (23النحل) وقال صلى الله عليه وسلَّم: يقول الله تعالى:
{ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ }[3]
والكبرياء يعني جلال الله، والعظمة يعني قدرة الله وجمال الله وكمال الله، فلا ينبغي على أي إنسان أن يتَّصف بصفة الجلال الإلهية على المساكين، ولا بصفة العظمة على الفقراء والمستضعفين، لأن هذه أوصاف إلهية، وإنما طوبى لمن كان في دنياه يمشي مسكيناً كما قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَة }[4]
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع).
وقال أحد الصالحين: رأيتُ الإمام عليٍّ رضي الله عنه في المنام، فقلت له: يا أبا الحسن عِظني، قال لي: ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله، وما أحسن تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل.
وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلَّم أن الجنة مُحرَّمة على من كان في قلبه بعض ذرة من الكِبْر، والجنة هنا جنة الزخارف وجنة المعارف وجنة اللطائف وكل الجنان المعنوية والحسية، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ }[5]
وقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ }[6]
يعني لا يزال الرجل يُعلي من شأن نفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم من العذاب، وفي ذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ألا يا حبيبي بالذل ترقى وتُرفعن |
وبالزهد تُعطى ما له تتشوق |
ألا من يكن في قلبه مثقال ذرةٍ |
من الكبر والأحقاد ما هو ذائق |
لا يذوق أي أمر في طريق الله سبحانه وتعالى.
التواضع لله
ولذلك كانت بداية الصالحين مع المريدين الصادقين أن يبدأوا بتخليصهم أولاً من مرض الكِبْر حتى يتمكنوا في التواضع الذي هو خُلُق سيد الأولين والمرسلين، وهو خُلُق النبيين والصالحين.
فهذا الإمام الغزالي رضي الله عنه عندما دخل طريق القوم، وكان عالماً مشهوراً في كل أنواع العلوم، ويحضر مجلسه ما يزيد عن العشرة آلاف نفس، أمره شيخه أن يخلع ملابس السيادة التي يلبسها ويلبس ملابس عادية بل وأقل من العادية، وأن يحمل على ظهره سقاءاً ويذهب إلى الأسواق ويسقي الناس فيها الماء لوجه الله عز وجل.
فإذا عُرف في بلد تركه وذهب إلى بلد آخر حتى عوفي من مرض الكِبْر، وعوفي من الزهو والخُيلاء، وتم له التواضع، وهو بداية السالكين إلى طريق الله، فأمره بالعُزلة في المسجد الأموي بدمشق.
وكذلك سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وأرضاه عندما كان مارَّاً بالطريق ورآه رجل يشتغل بتجارة الذهب والجواهر يُسمى عبد الوهاب الجواهرجي، فقال له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أتبعك، قال: إن كنت تريد أن تتبعني فاترك كل ما في يدك وتعالى، فترك تجارته وذهبه وذهب إليه، ولكن هذا التاجر في عنفوان تجارته يكون له زهوٌ بما معه من مال، واختيال بما يرد عليه من خيرات الله تبارك وتعالى، فأراد أن يخلصه من ذلك، وكان قد بنى زاوية ليصلي فيها هو ومريديه، وأنشأ لها بئراً وعليه ساقية يديرها ثور لتُخرج الماء للمريدين ليتوضؤوا ويغتسلوا.
فقال له: عليك أن تريح هذا الثور إذا تعب وتدير الساقية، وهو رجلٌ مُرَفَّه ولكن لا بد من ذلك لمن أراد السلوك القويم والمنهج الحكيم الذي كان عليه ولا يزال أتباع الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم.
وعندما حدثته نفسه ذات مرة كيف يعمل هذا العمل؟! فما استتم هذا الخاطر إلا والشيخ سيدي أحمد البدوي أمامه وقال له: عُد إلى تجارتك فلا حاجة لنا بك، فاعتذر له وقال: عُذراً يا سيدي، ولما رأى خضوع نفسه قال: نريد أن نرقيك في طريق التواضع إلى الله، عليك أن تغسل وتنظف دورات المياه للمصلين.
وهكذا كان الإمام الشعراوي رضي الله عنه وأرضاه، وكان يسكن بجوار الإمام الحسين، وكان ينتفض في منتصف الليل ويذهب إلى دورات المياه التي في جامع الحُسين ويغسلها جميعها بنفسه، مع أن هناك خدم وعمال موكلين بذلك، لكن لأنه يرى أن في ذلك غاية التواضع لله.
وعندما دُعي إلى جامعة القاهرة لإلقاء محاضرة جامعة حضرها أكثر من أربعة آلاف شخص، وتجلى الله عليه فيها، وكان هناك كثير من الملحدين، فردَّ عليهم ردوداً نالت إعجاب واستحسان الحاضرين، ومكث في المحاضرة لمدة أربع ساعات، وعند رجوعه في سيارته قال لابنه وكان معه وسائقه، أريد أن أدخل الخلاء في أي مسجد مفتوح، فوقفوا أمام باب مسجد فدخل وأطال، فلما أطال دخلوا لينظروا ماذا يصنع؟ فوجدوه قد خلع جُبته وعمامته ووضعها في وسط المسجد، وأخذ ينظف دورات المياه بالمسجد، فقال له ابنه: ما هذا يا أبي؟ قال: إن نفسي حدثتني بعد المحاضرة بأني أصبحتُ شيئاً فأحببت أن أعرفها نفسها.
وهذه سُنَّة عن صحابة النبي المجتبى أجمعين، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمر المنادي أن ينادي بالصلاة جامعة، فحضر الناس وصعد المنبر ثم قال: إني كنت أرعى الغنم لقراريط – يعني ملاليم – من الأجر لأناس في مكة، وكنت أُسمَّى عُميراً، والآن أصبحت وليس فوقي أحدٌ إلا الله، وأُسمى أمير المؤمنين ثم نزل، فقالوا: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن نفسي حدثتني بأني أصبحتُ شيئاً فأردتُ أن أعالجها وأُذكرها بحقيقتها قبل الدخول في دين الله تبارك وتعالى.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه رُؤي ذات يوم آتياً من البادية يحمل حملاً من الحطب على ظهره حتى دخل السوق ورآه الناس أجمعين، وكان من أثرياء أهل المدينة في ذلك الزمن، فقالوا: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إن نفسي حدثتني أني صرتُ شيئاً فأحببتُ أن أُعرفها حقيقتها فصنعتُ هذا الصنيع حتى ترجع إلى حقيقتها إن شاء الله.
ولذلك الذي ينجو من مرض الكِبْر لا بد أن يتصف بفضيلة التواضع فهي العلاج لهذا الداء، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[7]
وخُيلاء يعني يتباهى ببذلته أو ثيابه أو عباءته أو غيرها، وقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا }[8]
وبطراً يعني اختيالاً وحباً للظهور، وقال صلى الله عليه وسلَّم محذراً من هذا الصنيع:
{ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }[9]
بينما يقول صلى الله عليه وسلَّم في خُلُق التواضع:
{ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ }[10]
وقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ التَّوَاضُعُ لا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمُ اللَّهُ }[11]
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (إنكم تغفلون عن أفضل العبادات، قالوا: وما هي؟ قالت: التواضع).
والتواضع سُئل فيه الفضيل فقال رضي الله عنه: (أن تخضع للحق وتنقاد له، حتى ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته) يعرف الحق ويخضع للحق ولو جاء على لسان أي إنسان.
وقال يحي بن معاذ: (التكبر على الذي يتكبر عليك بماله تواضع) يعني من تكبر عليك بماله تتكبر عليه وتُظهر التيه وعدم الرغبة في شيء من عنده فإن هذا تواضع في حينه وفي وقته.
ولذلك دخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فكتبها هارون الرشيد بيده لإعجابه بها رضي الله عنه.
صور المتكبرين
والمتكبرون في هذا الزمان لهم صور جديدة، فمنهم من يظن أنه بإمكانه الوصول إلى المعرفة والصواب ومعرفة الصواب من الخطأ دون الانقياد للرسل والكتب السماوية – وما أكثرهم في زماننا هذا – فيستكبر أن يكون تابعاً للأنبياء والمرسلين.
ومنهم من يظن أنه عارف بكل أنواع المعارف، ويتباهى بذلك ويفتخر بذلك، ولا يترك الأمر لأهل الاختصاص، فقد قال الله تعالى: ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ” (43النحل) وأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل علم وفي كل مهنة، فعلينا أن نسلم لهم إذا كان معهم العلم الصحيح والخبرة الطيبة.
وشر أنواع الكِبْر في أي زمان ومكان الكِبْر الذي يمنع الإنسان من الاستفادة بالعلم وقبول الحق والإنقياد له، كمن يجلس أحياناً في مجالس العارفين ويظن أنه في غنىً عن حديثهم فيشغل نفسه بهاتفه المحمول، أو يشغل نفسه بالحديث مع جاره، ويقول إن هذا الكلام للحضور وليس لي، ويظن أنه وصل واتصل، ولكنه وصل إلى سقر والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومن الناس من يظن أن الشريعة وُضعت لعامة الناس رادعاً اجتماعياً وحضارياً، وأنه من الخاصة ومعه عقله رادع فلا يحتاج إلى الشريعة ولا إلى القوانين لغروره وكِبره في نفسه، نسأل الله عز وجل الحفظ من ذلك أجمعين.
أسباب الكِبر
كيف ينشأ الكِبْر والتكبر في الإنسان؟ ينشأ الكِبْر والتكبر عندما يبدأ الإنسان يستعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا إذا كان يعتقد أن لها صفة كمال، إما في الدين وإما في الدنيا، والكمال في الدين في العلم أو العمل، كأن يرى أنه ليس له نظير في العلم الديني، أو ليس له مثيل في العبادات والعمل الصالح الذي يتقرب به إلى مولاه، مع أنه لا يدري القبول، ولذلك قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (الجاهل يهتم بالإقبال، والعالم يهتم بالقبول) فما دام الإنسان لم يدر بعد هل قُبل عمله أم لم يُقبل، فلا يظن أنه خير من أحد، لأن الذي يظن أنه خير منه ربما قد يكون الله قد قَبل عمله وردَّه هو.
رُوي أن رجلاً في عصر موسى عليه السلام كان عابداً وذهب إليه رجل ليتوب، هذا الرجل كان يُدعى في وقته بأنه أفجر الناس في زمانه، وقال للعابد: أريد أن أتوب، فقال له: لن يغفر الله لك، لأنه رأى نفسه أنه عابد ولا يليق به أن يجلس مع هذا، فأوحى الله إلى نبي هذا الزمان أن قُل لهذا العابد: استأنف العمل أنت وهذا الرجل، فإن الله قَبِل عمله ولم يقبل عملك.
لأن القبول ليس له إلا وجه الله: ” إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ” (27المائدة).
والكمال في الدنيا قد يكون في النسب أو في الجمال أو في القوة أو في المال أو في كثرة الأنصار.
أولاً: العلم
العالِم الذي اغتر بعلمه دينياً، ما السبب الذي أوصله إلى ذلك؟ السبب بأنه يكون قد اشتغل بما يُسمى علماً في نظر الناس، لكن العلم الحقيقي في نظر رب الناس هو الذي يورث الخشية والتواضع دون الكِبْر، لقول الله تعالى: ” إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ” (28فاطر).
ثانياً: العبادة
وقد يكون السبب لكِبْر هذا العالم – وهذا لعدد كبير من هؤلاء – أنه قد بدأ تحصيله للعلوم قبل أن يهذب نفسه ويزكيها ويطهر قلبه، فإن العلم لا يكون إلا بعد تزكية النفوس: ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ” (14-15الأعلى).
أما العابد الذي يظن أنه لا يساويه أحد في عبادته، فيظن أنه أعلى من الناس شأناً، ويجب على الناس احترامه والقيام له وأداء مصالحه وخدمته، وأن يتنازلوا له عن بعض الثمن في البيع والشراء، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان جالساً بين صحبه الكرام وذكروا رجلاً وقالوا: ما رأينا مثله في عبادته وطاعته لله تبارك وتعالى، وبينما هم يتحادثون إذا بالرجل يأتي فأشاروا إليه وقالوا: هو ذاك الرجل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاًقال:
{ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ سَفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى الْمَجْلِسِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقُلْتَ فِي نَفْسِكَ حِينَ وَقَفْتَ عَلَى الْمَجْلِسِ: لَيْسَ فِي الْقَوْمِ خَيْرٌ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ فَخَطَّ خَطًّا بِرِجْلِهِ، ثُمَّ صَفَّ كَعْبَيْهِ فَقَامَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى هَذَا فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَقَتَلْتَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ: وَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَهِبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى هَذَا فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا، وَأَخَذَ السَّيْفَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَرَجَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: أَقَتَلْتَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَهِبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى هَذَا فَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ لَهُ إِنْ أَدْرَكْتَهُ، فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَلَمْ يَجِدْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَتَلْتَ الرَّجُلَ؟ قَالَ: لَمْ أَدْرِ أَيْنَ سَلَكَ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا أَوَّلُ قَرْنٍ خَرَجَ فِي أُمَّتِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَتَلْتَهُ مَا اخْتَلَفَ فِي أُمَّتِي اثْنَانِ }[12]
فهذا جرَّه هذا الكِبْر إلى أنه رأى أنه خير الناس، وهذا ما انتهى إلى أحفاده وتلاميذه وهم الخوارج، فهم يظنون بعباداتهم وتلاوتهم للقرآن أنهم الأوصياء على هذا الدين، ولا تصح الفتوى إلا منهم، ولا يصح الأخذ إلا برأيهم، وهم كما قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ الْخَوَارِجُ هُمْ كِلَابُ النَّارِ }[13]
وهؤلاء القوم يظهر عليهم مرض الكِبْر من العبادة لله، لأنهم لم يعبدوا الله على يد عارف بالله يزكي نفوسهم أولاً ثم يعبدون الله فيتحققون بقول الله: ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ” (14الأعلى) وبعد ذلك: ” وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ” (15الأعلى).
ثالثاً: الحسب والنسب
الأمر الثالث الذي يسبب التكبر أو الكبر هو الحسب والنسب، كمن يفتخر بآبائه وعائلته وأجداده، وخاصة من يفتخر بأنه من آل بيت النبي، فيرى أن الناس كلهم موالي وعبيد له ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم، وثمرته على اللسان التفاخر بذلك، فيقول: أنا من آل بيت النبي، ونحن من ذرية الحسن أو الحُسين أو غيرهم، والحسب في الإسلام هو التقوى، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلا إِنِّي جَعَلْتُ نَسَبًا، وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ فَأَبَيْتُمْ إِلا أَنْ تَقُولُوا: فُلانُ بْنُ فُلانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلانِ بْنِ فُلانٍ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ }[14]
وروى سيدنا أبو ذر رضي الله عنه أنه كان بينه وبين رجل من المسلمين حبشي أسود اللون مشاحنة، فعايره بأمه، وفي رواية قال له: يا ابن السوداء، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلَّم فغضب غضباً شديداً، وقال له :
{ يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ }[15]
فما كان من أبي ذر رضي الله عنه إلا أن ذهب إلى الرجل وأصَّر على أن يضع خده على الأرض، وأن يطأ الرجل بقدمه على خده اعتذاراً على ما سببه له من أذى، ولكن المسلمين تعلموا الذوق السديد من الحبيب صلى الله عليه وسلَّم، فرفع الرجل رجله تجاه وجهه ولكنه لم يُنزلها على خده براً بيمينه وأخذاً بما علَّمه نبيه صلى الله عليه وسلَّم من الذوق الرفيع.
وقال صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالدِّينِ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيًّا بَخِيلًا جَبَانًا }[16]
ورُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{ انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الْإِسْلَامِ، قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوْ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ }[17]
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ |
على الهُدى لمن استهدى أدلاء |
فخذ بعلم تعش حياً به أبداً |
فالناس موتى وأهل العلم أحياء |