Sermon Details
آداب السالكين في طريق رب العالمين[1]
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم – الحمد لله الذي أكرمنا وكرمَّنا بحبيبه ومصطفاه، سيدنا محمد آله وصحبه، وعرَّفنا بمن والاه من العارفين الصادقين، والأئمة الوارثين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين، والصلاة والسلام على الدوام على الحبيب المصطفى، صلاة نُرفع بها إلى أعلى مقامات القرب من الله في الدنيا، ونكون بها من الوجهاء عند حضرته يوم الزحام، نحن وأحبابنا وأبناءنا وبناتنا وزوجاتنا وإخواننا المسلمين أجمعين.
لزوم الأدب
وجدنا في سيرنا في طريق الله أن أهم ما ينبغي أن يهتم به المريد السالك، وأن ينتبه إليه العارف الواصل، وأن يحافظ عليه العارف المتمكن، هي الآداب التي وردت في الكتاب، والتي رُويت عن النبي الكريم الأواب، والتي كان عليها الأصحاب، ومن اهتدى بهديهم ومشى على دربهم إلى يومنا هذا، ولذلك كانوا يقولون: ((الزم الأدب ولو رُقيت إلى أعلى الرتب)).
فكنا بفضل الله علينا نبحث في كتب الصالحين، وفي تفسيرات القرآن المبين، وفيما ورد في السُنَّة الصحيحة عن سيد الأولين والآخرين عن شذرات من الأدب ونتبعها ونمشي عليها.
لأنه ربما أخطأ الإنسان في أدب من الآداب كما قيل: (فيُرد – والعياذ بالله – إلى اسطبل الدواب) وهو ربما يظن أنه لا يُخطئ، ويظن أنه على صواب، ولكنه لم يزن نفسه بموازين أولي الألباب.
فالآداب هي التي عليها المعوَّل في الحصول على فضل الله، وفي الترقيات في مقام القرب عند الله، وفي كل أمر يُكتب للإنسان فيه خيرٌ أو ثوابٌ أو حسناتٌ عند الله.
أدب نبينا العظيم
وانظروا إلى سيد المؤدبين صلى الله عليه وسلم، فهذا نبي الله موسى يطلب من الله طلباً عظيماً، وموسى نبي الله لا يطلب من الله طلباً إلا ويعلم أن الله يُمكنه تحقيقه: ” وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ” (44فاطر) وأنه يستحق الحصول عليه، فقال: ” رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ” (143الأعراف).
والخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام أراد أن يكشف الله له عن حقائق الأشياء، وأسرار الكائنات التي بها أتم خلق هذه الكائنات، فقال: ” رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ” (260البقرة).
لكن الحبيب صلى الله عليه وسلَّم كشف الله له الحجب كلها، الحجب النفسية، والحجب الروحية، وفي الملكوت الأعلى الحُجب الجلالية، والحُجب الكمالية، لأنه أخذه ليكشف له بدون طلبه: ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” (1الإسراء) نحن الذين سنريه بدون طلب.
وأعطاه الله الآيات التي بها يرى، فأعطاه سمعاً من سمعه، وبصراً من بصره، فأصبح يسمع بسمع الله، ويُبصر ببصر الله ما شاء الله له أن يكشفه له من مكنونات خلق الله في السماوات وفي الأرض وفي الملكوت، وفي عوالم الله العُليا التي لا ينبغي لنا أن نتحدث عنها لعُلو مقامها وارتفاع شأنها.
ومع أن الله أباح له الرؤيا، إلا أن الله مدحه وأثنى عليه بالأدب العالي الذي تحلى به في مواجهة ذي الجلال والإكرام: ” مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ” (17النجم).
لم يلتفت يميناً ولا شمالاً ولا شرقاً ولا غرباً، مع أنه في الملكوت الأعلى لا يوجد يمين ولا شمال ولا شرق ولا غرب، ولا ليل ولا نهار ولا ساعة ولا دقيقة ولا ثانية، انعدم الزمان، وانعدم المكان في حيطة الحنان المنان تبارك وتعالى.
ولم يلتفت إلى كل ما عرضه عليه مولاه، لأن أدبه العالي الذي أدبه به الله أن لا ينظر إلى شيء سواه، لا يريد من الله إلا حضرة الله تبارك وتعالى.
فلا يلتفت إلى مشتهيات النفس، ولا إلى مطالب الروح، ولا إلى شواغل العقل والفكر، لا يلتفت بكل حقائقه إلا إلى خالقه وبارئه سبحانه وتعالى.
ما الذي فاز به حضرة النبي في هذا الذي ذكرناه؟ الأدب: ” مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ” (17النجم).
كذلك سخَّر الله تبارك وتعالى له كل ما في السماوات وما في الأرض، سر قوله سبحانه: ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ” (64النساء) فسخَّر له السماوات، وأشار إلى القمر بأصبعه، فانشق عند إشارته نصفين بأمر من يقول للشيء كن فيكون.
وكانت الأرض طوع أمره، عندما لحق به سُراقة بن مالك في حادثة الهجرة، يأمرها أن تأخذه فتنشق وتأخذه، وبعد أن يتوب يأمرها أن تتركه، فتتركه، ويتكرر هذا الأمر ثلاث مرات.
وسخَّر الله تبارك وتعالى له الجبال، حتى أن أُحد وغار حراء وغار ثور لهم مع حضرته أحداث تحتاج إلى وقت طويل لسردها، فقد ورد في بعض الأثر أنه عندما خرج مهاجراً من بيته في مكة إلى المدينة، وأراد أن يذهب إلى غار حراء الذي كان يتعبَّد فيه لله، قال الغار: يا رسول أخاف أن ينكشف أمرك على ظهري، فيعاقبني الله تبارك وتعالى على ذلك، فناداه جبل ثور وقال: إليَّ يا رسول الله.
أمورٌ مقدرة، لكن لنا فيها عبرة:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاولِي الابْصَارِ ” (13آل عمران).
أما جبل أُحد فعندما وقف عليه هو وصحبه الكرام اهتزَّ من الفرح، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
{ اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ }[2]
وقد قال صلى الله عليه وسلَّم في عبارة عجيبة وغريبة يحاول العلم الحديث الوصول إليها الآن، ولكن ليس معه الأدوات التي يستطيع أن يقيس بها هذه المشاعر الجمادية، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ }[3]
أي يبادلنا مشاعر الحب، وأين مشاعر الحب في الصخر أو في الجبل؟!، لكن الحبيب صلى الله عليه وسلَّم كشف الله له عن هذه المشاعر في الجمادات، فأنبأ عنها حتى نعلم أن الله رَزَقه حب كل الكائنات، حتى الجمادات، حتى الحيوانات، حتى الحشرات … كل شيء في ملك الله وملكوته رُزق حب سيد السادات صلى الله عليه وسلَّم.
فسخَّر الله تبارك وتعالى له كل شيء، حتى الريح سخَّرها الله على أعدائه في غزوة الأحزاب في الليل البهيم، فأمر الله النجوم أن تُطفئ أضواءها حتى يكون الليل دامساً، والرياح أن تُقوِّي سيرها، فهدمت على الكافرين المعسكرين خارج المدينة خيامهم ومعسكراتهم، وفكَّت قيود جمالهم وأفراسهم، فأخذت تجري كالمجنونة تدوس كل من لقيها، وهم لا يرون أحداً فظنوا أن المسلمين هجموا عليهم، فأمسكوا بالسيوف وأخذوا يضربون بعضهم، كل هذا بتسخير الله عز وجل هذه الكائنات لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
نبياً عبداً
ومع ذلك لم يقف عندها!، فعندما جاءه الأمين جبريل ومعه مَلَكٌ من الملائكة المقربين المكرمين، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ:
{ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ جَلَّ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، أَوْ نَبِيًّا مَلِكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا }[4]
يعني إن شئت أعطاك مع النبوة الملك، كما أعطاها لداود وسليمان، بل أكثر، ويكون لك الصولجان ويكون لك التاج، ويكون لك الحكم على كل من في الأرض، وإن شئت العبودية، فاختار أن يكون نبياً عبداً.
لم يختر الدنيا بما فيها من أعلى المناصب، والحراس والجند والوزراء والقادة والمال والخزائن، ولكن اختار العبودية، ثم علل اختياره فقال:
{ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ }[5]
وآداب الحضرة المحمدية لو أخذنا في سردها إلى يوم الدين ما انتهينا من جزء منها أو بعضها، حتى نعلم جميعاً أننا أتباع خير نبيٍّ أدَّبه الله، وينبغي أن يكون خير ميراث نرثه من رسول الله هو الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله، والأدب مع الأحباب في الله، والأدب مع جميع خلق الله.
مرض العجب والكِبر
وكان في عصره صلى الله عليه وسلَّم ظهرت طائفة من العُبَّاد، يقومون الليل، ويصومون الدهر نهاراً، ويتلون القرآن على الدوام، ولكنهم يرون أنفسهم أفضل من كل الأقوام، وهذه نكبةٌ شديدة لمن أُصيب بهذا الداء وهو مرض الغرور والكِبر، نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ والسلامة، لأنه مرض إبليس.
حتى أن رجلاً منهم عندما كان صلى الله عليه وسلَّم بعد غزوة حُنين يوزع الغنائم على المسلمين، وكان يُعطي كثيراً لمَن لم يدخل بشاشة الإيمان في قلبه ليتألفه، فهذا ليس مقياساً، وإن كان من المؤمنين الصادقين يُعطيه على قدر حاجته، وإن كان من المؤمنين المحسنين يكله إلى إيمانه، ويجعل غنيمته فتحٌ من الله، وإكرامٌ من الله، وتجلياتٌ وفيوضاتٌ من الله، فلا يُعطيه من لعاعة هذه الحياة، لأن الفتح من عند الله أعظم من كل الدنيا وما فيها، فجاءه رجل من هؤلاء العُبَّاد الذين أشرنا إليهم، فقال: يا محمد اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم:
{ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ }[6]
وسوء الأدب في الخطاب من هذا الرجل يدل على هشاشة القلب، وبُعده من الكريم الوهاب، لأن أول أساس القرب من الله الحديث المهذب، وهو قريب من الله، قريب من رسول الله، لا تقول قولاً إلا كما قال الله: ” وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ” (24الحج).
لا يخرج منك إلا الكلم الطيب، والكلام البلسم الشافي من جميع الأدواء المعنوية، فمن كان حزيناً تُخفف عنه الحُزن، ومن كان مريضاً تجعله يصبر أو يرضى بما قدَّره الله له وعليه، وهكذا.
وننظر إلى الخطاب مع سوء الأدب وأمام المسلمين الصادقين، لنعرف سمات هؤلاء الجاهلين الذين جعلوا أنفسهم في هذا العصر وفي كل عصر هم ولاة أمور المسلمين، وهم الذين يجب أن يُؤخذ عنهم الدين.
{ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ }[7]
وفي رواية أخرى:
{ إِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمُرُوقِ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ }[8]
وانتبهوا، يظنون أنه لا أحد أبداً يعبد عبادتهم، ولذلك اغتروا، ولما اغتروا انضروا، وخرجوا من إجماع المسلمين، لأن أهم ما أسَّس عليه النبي هذا الدين الأدب، والجمال في هذا الأدب في التعامل مع المسلمين أجمعين، فلا فظاظة ولا شدة ولا خشونة في المعاملة، بل الرقة والشفقة والعطف والحنان والمودة على الدوام، فهذه صفات حضرة النبي وأصحابه العظام: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ” كمن نراهم الآن: ” لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ” فإن أخطأوا: ” فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ” وإياك أن تترك المشورة ” وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” (159آل عمران) حتى يشعروا أن لهم كيان ويُؤدوا ما عليهم نحو حضرة الرحمن تبارك وتعالى.
فكان صلى الله عليه وسلَّم يبين لأصحابه هذه الآداب بفعله، ويحثهم عليها بقاله، وكانوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يجدِّون في الجهاد للتخلق بهذه الآداب مع الله، ومع نبي الله، ومع أحباب الله، ومع خلق تبارك وتعالى أجمعين.
ولذلك من الأسباب التي دعت الخلق من بعد النبوة يبحثون عن الصالحين، لأنهم أخبر الناس وأقدر الناس علماً بالآداب التي يحبها الله، والآداب التي يحبها رسول الله، فنصحبهم لنتعلم منهم هذه الآداب العظيمة.
العبادات الإسلامية نستطيع أن نتعلمها من أي إمام حصَّل علوم الشريعة في أي مسجد، والتشريعات الإسلامية من زواج وطلاق وميراث تجدها عند كل قاض في أي محكمة، وعند كل محام يحامي في هذه النواحي الشرعية، لكن هذه الآداب أين نجدها؟ لا نجدها إلا عند الصالحين والعارفين الذين تهذبوا على أيدي صالحين، ويُهذبوا أحبابهم كما تهذبوا على أيدي السابقين، فيورثونهم ما ورثوه من هذه الأخلاق الحميدة، وهذه الآداب الكريمة الواردة عن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
أنواع الآداب
هذه الآداب منها آداب عامة لكل المسلمين، ومنها آداب خاصة للسالكين، ومنها آداب لخاصة الخاصة من الأفراد العارفين الذين يبغون الوصول إلى الكمال لمقاربة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
الآداب العامة يجب علينا كلنا أن نعرفها، وهذه أشار إلى بعضها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في حديثه الجامع:
{ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ }[9]
جملة الأحاديث في هذا الباب جمعها الإمام أبو طالب المكي في كتاب (قوت القلوب)، وأوصلها إلى أربع عشرة خصلة ينبغي أن يكون تعامل المسلمين مع بعضهم بها على الدوام، وينبغي على أحبابنا في مجالسهم كل مرة أن يأخذوا خُصلة من هذه الخصال.
من هذه الآداب أدب السلام، ويكفي فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
{ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ }[10]
نحن نحتاج إلى أدب السلام، وإلى بقية الآداب الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في هذا الباب.
أما أدب السالكين، فهو السمع والطاعة للمرشد الصادق الأمين، كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم مع حضرته في كل وقت وحين، وأن نعرض عليه جميع أمورنا، ونأخذ برأيه بعد أن نواري نفوسنا، فلا يقول لنا رأي ونتركه ونأخذ برأي أنفسنا، لكن: ” فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” (65النساء).
وأكثر وقوع الأفراد المحيطين بنا من هذا الباب، يأخذ الأمر الصريح فنفسه تقول له: يقصد كذا ويقصد كذا، وتظل هكذا حتى تجعله يخالف ويجتهد في غير المطلوب، وهذا الاجتهاد الموصل إلى البعد والعياذ بالله عن حضرة الله تبارك وتعالى، وعن القرب من سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.
أدب الصِدِّيق في طاعته للنبي صلى الله عليه وسلَّم
اُنظر إلى الصِدِّيق رضي الله عنه كيف ثبَّت الله تبارك وتعالى به الدين بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى الرفيق الأعلى لتمسكه بكل ما أوصى به سيد الأولين والآخرين.
أراد قومٌ أن يمنعوا الزكاة من الأعراب الجفاة، وكانوا حديثي عهد بالإسلام، فقال رضي الله عنه:
{ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا – يعني معزة صغيرة – كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا }[11]
فأراد أن يُثنيه سيدنا عمر رضي الله عنه على أن يؤخر الحرب، لأن الدولة لا زالت ناشئة، فلما أكثر عليه ثار وقال: ما هذا يا عمر بن الخطاب، أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام، والله لا أترك أمراً عاهدني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
هؤلاء القوم جيشوا جيوشاً واقتربوا من المدينة، فقيل لأبي بكر: إن الجيوش اقتربت من المدينة فماذا نفعل؟ قال: والله لأحاربنهم حتى ولو تخطفَّت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
حتى لو خطفوهم فلن أنثني عن الحرب، وبسر تصميمه هذا حقق الله له النصر على المرتدين، وأخضع الجزيرة العربية كلها للإسلام، لماذا؟ لتمسكه بعدم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلَّم لهوى النفوس التي حوله، ولم يكن عنده نفس، ولكن النفوس التي حوله حاولت تغيير ما به، ولكنهم لم يستطيعوا لذلك سبيلاً، قال محي الدين بن عربي رضي الله عنه: (لو ظهرت روح أبو بكر الصديق، لهزمت جيشاً بأكمله) روحه قدر جيش كامل، وإن كان جسمه ضعيف، لكن المهم الروح، الإمام الشافعي كان يقول:
عليَّ ثيابٌ لو يُباع جميعها بفلس |
لكان الفلس منهن أكثرا |
وبينهما نفسٌ لو يُقاس ببعضها |
نفوس الورى، كانت أعز وأكبرا |
المهم النفس التي بداخل الجسم، فهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الرسول صلى الله عليه وسلَّم كان قد كون جيشاً لتهذيب وتأديب الروم جهة مُؤتة في بلاد الشام، وأمَّر على هذا الجيش أُسامة بن زيد، وكان عمره سبع عشرة سنة، وكان من جملة هذا الجيش أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، جنود تحت إمرة أسامة بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، فجاء البعض بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى وألَّحوا على أبي بكر أن أسامة صغير السن وطلبوا أن يعزله ويعين غيره، فقال: والله لا أنقض أمراً حزمه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وحاولوا معه المستحيل لكنه رفض.
يُعلِّمنا كيف يصل المريد الصادق إلى فضل الله ورضوان الله، بهذا الأسلوب الذي كان عليه الصديق رضي الله عنه.
ولما أراد الجيش أن يتحرك مشى يودعهم، وأسامة راكباً فرسه، فقال: يا خليفة رسول الله، إن شئت ركبت، وإلا نزلت أنا، قال: لا تنزل ولا أركب، وما عليَّ أن أغبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة.
ما هذا الجمال؟! انظروا إلى الجمال وحلاوة الإيمان، ثم قال: يا أسامة أتأذن لي في عمر بن الخطاب يبقى معي ليعينني على أمور الدولة!، فلم يقُل: أنا رأس الدولة فآخذ عمر، لكن الأدب العالي يستأذن قائد الجيش.
ولا نستطيع الإحاطة في هذا الوقت القليل بما كان عليه هذا الأستاذ النبيل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من آداب عالية، ولذا خصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بوراثته وخلافته، وقال:
{ مَا صَبَّ الله في صَدْرِي شِيْئَاً إِلَّا وَصَبَبْتهُ في صَدْرِ أَبِي بَكْرٍ }[12]
فكان أبو بكر لا يخالف رسول الله ولا يعصى له أمراً، ولا يجتهد بنفسه ولا بهواه فيما أمره به، ولو كان حتى أمراً عادياً، لأنه يعلم أن الخلاف إتلاف، وأن سماع الطاعة هو السبب الرئيسي لجلب هذه البضاعة؛ بضاعة الرُقي، وبضاعة القرب من الله، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ” وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لاتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ” (66-68النساء).
النفس تقول للإنسان: الشيخ طلب منك كذا وربما نسي، لكن ألم يعرف في قرآن ربنا: ” وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ” (64مريم) إن هؤلاء لا يعقدون أمراً إلا بإذن من الله، ويذكِّرهم به الله تبارك وتعالى على الدوام، فلا يفعلون شيئاً إلا طبقاً لمراد الله، وأنت لِمَ تتدخل وتغير مراد الله؟! وتجتهد بنفسك شفقة على هذا كما تظن، أو أن رأيك هذا أوجه من هذا الرأي كما تظن، وهذا الأمر الذي يقع فيه الكبار، لأن الصغار يطيعون دائماً، نسأل الله تبارك وتعالى الحفظ من ذلك على الدوام، يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
أطعتُ رسول الله حباً لوصله |
فأشرف بي ربي على حضرة القدس |
وأشهدني ملكوته وجماله |
وأشرق في قلبي ضياء من الشمس |
ويقول:
على الجمر قف إن أوقفوك تواضعاً |
يكن لك برداً بل سلاماً برحمة |