• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:58 PM

Sermon Details

21/10/2022

آداب صاحب المقام الأعلى

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

آداب صاحب المقام الأعلى[1]

من يريد أن يكون له مقاماً أعلى عند الله، فلا بد أن يكون أكثر تطهراً وأكثر صفاءًا ونقاءًا في معاملته مع الخلق، وفي معاملته مع الحق سبحانه وتعالى.

وعندنا في الدين أربع مقامات، مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، ومقام الإيقان.

مقام الإسلام للمسلمين، وهؤلاء الذين يؤدون الأعمال الظاهرة التي يأمرنا بها الإسلام.

ومقام الإيمان للمؤمنين، وهؤلاء الذين يزيدون على الأعمال الظاهرة بتحضير النيات الطيبة في القلوب عند كل عمل يتوجهون به إلى حضرة علام الغيوب سبحانه وتعالى.

إتقان العمل

مقام الإحسان للمحسنين، وهؤلاء الذين يتقنون كل عمل يعملونه لخلق الله أو يعملونه لله،  لكن الذي لا يتقن الأعمال التي لله كالصلاة وتلاوة القرآن فليس له في هذا المقام، وهو غير أمين، قال صلى الله عليه وسلم:

{ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ }[2]

وقال:

{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ }[3]

لابد من إتقان العمل سواء يعمله لنفسه أو يعمله لغيره أو يعمله لله، فتكون طبيعته إتقان أي عمل يقوم به، وماذا يعني إتقانه؟ يعني يعمله كما تفيد بذلك التعليمات المختصة بهذا العمل، إذا كان هذا العمل من أعمال الدنيا فينظر للمواصفات القياسية التي ينبغي أن يكون عليها هذا العمل بعد تمامه ويراعيها، ولا يترك واحداً منها، والتي نسميها بلغة القوم (الجودة) فيراعي الجودة في هذا العمل.

وإذا كان عملا من أعمال الآخرة فينظر للمواصفات القياسية لهذا العمل في كتاب الله، والمواصفات التي أدى بها هذا العمل سيدنا رسول الله، لأن هذا التطبيق العملي لهذه المواصفات النظرية، والمواصفات التي أدى بها هذا العمل أصحاب رسول الله، ومن بعدهم الصالحين والأولياء إلى يوم الدين، حتى يكون ماشياً على النموذج القويم.

هذا لمن يريد أن يصل لقول الله: ” إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” (195البقرة).

اليقين

الدرجة الأعلى من هذه هي درجة الإيقان، وهذه للموقنين الذين يعملون العمل وهم يشهدون أن الله يطلع على باطنهم وظاهرهم، ويعلم نواياهم وخفاياهم، ويحسنون النوايا والطوايا مع إحسان العمل، لأن الله جعل الأجر على قدر النية، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى }[4]

الإنسان يأخذ على قدر نيته، فأي إنسان في أي درجة من هذه الدرجات بدايته تطهير القلب بالكلية نحو جميع البرية، ونحو رب البرية.

تطهير القلب بالكلية نحو جميع البرية من الحقد والحسد والغل والطمع والشُح والكُره، وغيرها من هذه الصفات التي تجعل الإنسان تُغلق أمامه أبواب الترقي في الدرجات عند رفيع الدرجات، الإمام أبو العزئم رضي الله عنه وأرضاه يقول في ذلك:

ألا من يكن في قلبه بعض ذرة

من الكِبر والأحقاد ما هو ذائق

من كان عنده ذرة في قلبه من الكِبر والحقد أو الحسد لن يذوق أبداً طعم الإيمان ولا حلاوة الإيمان، ولا يأخذ نصيباً من الله عز وجل في مقام الإحسان أو في مقام الإيقان.

ولذلك تجده يُصلي ويقول لك: لا أشعر بخشوع ولا بخضوع ولا بلذَّة في الصلاة، وكل ما غاب عني يأتيني في الصلاة، وهذا لأنك لم تعقل الأساس، والأساس هو حضور القلب، وحضور القلب لا يتم إلا بعد تصفية القلب بالكلية.

سلامة القلب

يقول الله عن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام: ” إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (84الصافات).

شرط الدخول على الله في الصلاة أو تلاوة كتاب الله أو في ذكر الله أو في أي عمل تتوجه به إلى الله أن يكون القلب سليماً، وليس بينه وبين أي إنسان من المؤمنين والمؤمنات أي شائبة من الغش أو التدليس أو ما شابه ذلك.

فلا بد للإنسان المؤمن أن يُطهر القلب بالكلية مما سوى الله سبحانه وتعالى، وهذا جهاد الصالحين الذين يريدون أن يكونوا صالحين لتنزلات فضل الله، ولحضرة كمال الله.

آداب سماع العلم

كثير من الأحباب يجلسون في درس العلم وهم سارحين، أو يجلسوا وهم مشغولون، ولذلك لو سألت واحداً منهم: ماذا سمعت اليوم؟ يقول لك: لا أتذكر فأنا كنت مشغول بكذا، وإلى متى هذا الشغل؟ فأنا وأنت منتظرين النداء: ” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ” (27-28الفجر) فماذا تقول عندما ترجع؟ هل تقول: كنت أجلس وأنا سارح، أو كنت أجلس وأنا أفكر، أو كنت أجلس وأنا مشغول، هل تقول كما قال الله في جماعة: ” شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ” (11الفتح) قال له الله: اتركهم فهم: ” يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ” (11الفتح).

وحتى يعني الجماعة الذين يسجلون، يسجلون ليس على النهج الذي عرفناه في كتاب الله، والذي عرفناه عن الصالحين من عباد الله، فالذين يسجلون حالياً يسجلون بآلة صماء مصنوعة من معادن الأرض، فآلة التسجيل هذه الموجودة، أو حتى لو يسجل بكاميرا أو بموبايل فكلها آلات صماء.

لكن ربنا قال في المؤمنين: ” بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ” (49العنكبوت) ليس في هذه الآلات الصماء.

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم عندما كان ينزل عليه الآية من القرآن أو الآيات، ويقرأها عليهم صلى الله عليه وسلَّم، كان بعضهم يحفظها من أول مرة، وبعضهم يحفظها من المرة الثانية، وآخرهم كان يحفظها بعد ثلاث، وكان النبي يتلو الآية أو الحديث ثلاث، لأنه كان يحب الوتر.

الكتاب الذي في قلوبهم جاهز، كتاب نظيف ليس فيه كتابة، لأن العين تكتب في القلب ما تراه، وتكتب فيه الأذن ما تسمعه، ويكتب فيه اللسان ما ينطق به، وتكتب فيه اليد ما تلمسه، وتكتب فيه الرجل ما تمشي إليه، وتكتب فيه البطن ما تشعر به من لذة أثناء الطعام والشراب، ويكتب فيه الفرج ما يشعر به عند الوقاع أو النكاح، أين يُكتب كل هذا؟ في القلب.

فإذا كان القلب مشغول، ومملوء بالكتابة، فهل تستطيع أن تكب عليه مرة ثانية؟ لا، متى تستطيع؟ عندما تمسح هذه الأشاء كلها: ” يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ” (39الرعد) يثبت آيات الله وأحاديث رسول الله وأقوال الصالحين من عباد الله، وهذا ماكان يمشي عليه أصحاب حضرة النبي والسلف الصالح أجمعين.

الإمام الاشافعي رضي الله عنه وأرضاه كان رجلاً فقيراً لا يستطيع أن يشتري الكتب، لأنه لم يكن معه مال، فكان يذهب إلى الوراقين وهم أصحاب المكتبات والأكشاك الذين يكتبون الكتب، لأنهم كانوا يكتبوها أي ينسخوها لأنه لم يكن عندهم مطابع، ويبيعوها، فيقول للبائع: أعرني كتاب كذا أنظر إليه وأنا بجوارك، فينظر في الكتاب من أوله إلى آخره وبعد ذلك يقول له: الحمد لله لقد حفظتُ هذا الكتاب.

حفظه من أول نظرة، لماذا؟ لأن القلب طاهر نظيف ومتعلق بحضرة اللطيف سبحانه وتعالى، فأي شيء من الله أو من رسول الله أو من الصالحين من عباده الله، فعلى الفور: ” أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الايمَانَ ” (22المجادلة).

وكذلك علوم الإيمان، وكذلك أحوال أهل الإيمان أين تُكتب؟ في قلوبهم فوراً، فلا أذهب أسمع هذا الكلام وأنا قادم من القهوة، فلن أسمع شيئاً ولن أستفيد شيئاً، ولا أذهب أسمع هذا الكلام وأنا متشاجر مع زوجتي وقالت لي كذا وقلت لها كذا وحدث شجار بيننا، لأنس سأجلس والشرائط التي بداخلي يديرها القلب فأجلس وأنا مشغول: ماذا قالت لي؟ وماذا قلت لها؟ وكان ينبغي أن أقول لها كذا وتقول لي كذا، فهل سأسمع شيئاً من الحاضر؟ لا.

تزكية النفس

فماذا نفعل؟ لا بد قبل السماع من تزكية النفس، فكيف نزكي النفس؟ بالأعمال الصالحة كالإكثار من الاستغفار، والتوبة إلى العزيز الغفار، والإكثار من الأعمال الصالحة، فيذهب الإنسان ولوح قلبه ممسوح.

فكان هذا النهج الذي كنا نمشي عليه، أن الإنسان يزكي نفسه قبل السماع، يعني أنا ذاهب اليوم لأسمع درساً في المكان الفلاني، فلا بد أن أستعد من قبلها، فأحيي بعض الليل خالصاً لله، وحتى زوجتي التي بجواري لا تعرف ماذا فعلت؟ وأُصلي الفجر في جماعة في بيت الله، وأجلس إلى وقت شروق الشمس مع حضرة الله، ومع كتاب الله، ومع الأذكار الواردة عن حضرة رسول الله، ومع الصلاة على نبي الله ومصطفاه، فأشغل نفسي بمثل هذه الأشياء.

الورع

وقبل ذلك كله أُحكم الأساس فلا يدخل الجوف إلا المطعم الحلال، وأتورع فيه ورع الصالحين كما ورد عن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم، حيث قال صلوات ربي وتسليماته عليه:

{ وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ }[5]

فأنا حتى لو عملت الطاعات كلها وقمت الليل وصمت النهار وتلوت الأذكار، لكن لا أتورع في اللقمة، فإن اللقمة الحرام ستفسد كل ما في باطن القلب، وتملأه ذنوب وآثام، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا }[6]

فما فائدة هذه العبادة؟! حتى ولو كانت في شهر رمضان فهي غير مقبولة أيضاً، مثلا شخص في شهر رمضان وهو في الطريق عرج على بائع خضار أو بائعة خضار وأخذ شيء بدون إذن البائع فهو حرام لأن هذا المال لا يحل إلا بطيب نفس، وصيامي كله ضاع لأنه لن يُقبل وقيامي كله ضاع لأنه غير مقبول: ” إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ” (27المائدة).

لكن لو أخذته برضا البائع فلا شيء في ذلك، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ }[7]

يحكي مولانا الشيخ محمد علي سلامة رضي الله عنه وأرضاه عن رجل من الصالحين في ناحية مركز إسنا التابع لمحافظة الأقصر، كان اسمه الشيخ أبو عسكر، كان يمشي ذات يوم في طريق زراعي فوجد جاموسة تركها صاحبها تأكل في فول جاره، فقال للرجل: الفول يأكل الجاموسة، والصالحون لا يتكلمون كلاماً عفواً، بل كل كلمة لها وزن، وبمجرد أن مشى خطوتين انتفخت الجاموسة وماتت، فجرى الرجل وراءه بالعصا وقال له: أنت الذي أمتَّ الجاموسة، قال: لم أميتها ولكنك أطعمتها حرام، فقال له: أنت تأكل منه، قال: أنا آكل منه ولكن صاحب الشأن راض ومستريح، ولو قالوا له: الشيخ فلان أكل، سيقول: هنيئاً مريئاً، لكنك تأكل بدون رضاه.

فالمال أهم شيء فيه هو طيب النفس، كذلك عندما يشتري بعض النساء وبعض الرجال شيئاً، ويقولون للبائع بكم هذا البلح؟ يقول مثلاً: بخمسة عشر جنيها، فيقول له: يكفي عشرة، فيرفض البائع، فيضع العشرة جنيهات في يد البائع ويتركه ويمشي، هل هذا يصح؟ أصبح هذا البلح حرام لأنه غير راض، أنت لم يعجبك السعر لا تشتري واتركه وابحث عن غيره، لكن لا تأخذ شيء إلا برضا نفس، ستقول: إنها شطارة، الشطارة ليست في مثل هذه الأمور، الشطارة في إتِّباع شرع الله والمشي خلف حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنِ اشتَرَى ثَوبًا بِعَشَرَةِ دَراهِمَ فِي ثَمَنِهِ دِرهَمُ حَرامٌ لَم يَقبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلاةً ما دامَ عَلَيهِ }[8]

إذا دخل الحرام على الحلال أصبح كله حرام، ولذلك أصحاب حضرة النبي كان يقول إمامهم الصدِّيق رضي الله عنه: (كنا نترك سبعين باباً من الحلال، مخافة الوقوع في بابٍ واحدٍ من الحرام)

وهذا إسمه الورع، فيترك السبعين كلهم لأنه ما سيفتحه منهم يكون حراماً، الشيخ بن سيرين رضي الله عنه وأرضاه كان تاجراً في السمن، واشترى سمناً ذات مرة، والأولاد الذين يعملون عنده ملؤوا أربعين وعاء، وكانوا يسمونه حِبّ يعني أربعين حِبّ، وبعد قليل جاءه ولدٌ منهم وقال له: يا شيخ فأرة دخلت في أحد هذه الأوعية، فقال له: أين هو؟ قال: لا أعرف، فقال له: إذاً نُريق السمن كله، لأننا بذلك سنبيع حراماً للمسلمين، ولأنه عمل هذا العمل جاءه سيدنا يوسف في المنام وقال له: افتح فاك ووضع فيه لسانه وأخذ يحرك لسانه في فمه، فقام من نومه وهو يجيد تأويل الأحلام وتفسير الأحلام، ولم يقرأ كتب ولم يأخذ فيها محاضرات ولم يأخذ فيها دراسات، وإنما هبة من الله، لماذا؟ لأنه تورَّع عن الحرام في هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلَّم مبيناً أعبد الناس:

{ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ }[9]

فأحياناً البعض يعطيه واحد شيء ويقول له: اعطه لأخيك فلان، فنفسه تحدثه: إن أخي فلان غير محتاج لهذا الشيء، أنا سآخذه، فهذا أصبح حرام، فإذا كان ماشياً في طريق الله فيُقطع عن طريق الله ويعود للخلف، فأحياناً يقول: سأقول له: إن فلان كان قد أرسل لك شيئاً وأنا أخذته، فماذا يقول له؟ سيستحي، ولكنه أخذها بغير رضا نفس، ويكون قد أخذ شيئاً حراماً، فيُقطع من طريق الصالحين فوراً وفي الوقت، لماذا؟ لأن أساس هذا الدين المطعم الحلال.

وهذه أمانة، واحد كلفك بأمانة فلا بد أن توصل الأمانة، وإياك بعد أن توصل الأمانة تقول: يا فلان لو أنك تستغني عنها فأنا أريدها، فسيستحي منك ويقول لك: خذها، وربما يكون يريدها، لأن شرط المؤمنين العفة كما كان المهاجرين الأولين.

عفة الصحابة الأولين

لماذا مدحهم الله؟ ولماذا مدحهم رسول الله؟ للعفة التي كانت عندهم، يُعرض عليه المال ويُعرض عليه النساء ويُعرض عليه التجارة، يقول له: بارك الله لك في بيتك، بارك الله لك في مالك، بارك الله لك في زوجك، ولكن دُلني على السوق.

أنا لا أريد أن أُنزل نفسي لهذه المرتبة، أنا أُحافظ على عزة المؤمن، لأن الله وضعنا كلنا في مرتبة العزة: ” إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” (65يونس) وقال لنا: ” وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ” (8المنافقون).

فاجعل نفسك عزيزاً على الدوام، واعلم علم اليقين أنك لو احتجت أي شيء بصدق فإن الله عز وجل يضعه في يدك قبل أن تلفظ شفتيك بالسؤال لله تبارك وتعالى، لأن هذه معاملته مع الصالحين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين، فلن ينتظر حتى تطلب أو تقول: أنا أريد كذا يا رب أو تُلح ما دمت على منهج سيد الأولاين والآخرين صلى الله عليه وسلَّم.

فالإنسان أهم شيء يحافظ عليه أولاً هو الورع، وإياك أن تستقل بشيء في هذا الأمر، مثلاً وجدت على الأرض قلم، وأنت تعرف أنه قلم فلان، فتقول له: يا فلان أنا وجدت قلمك ولكني سآخذه، وهذا لا يجوز، ولا نستسهل بهذه الأمور، لأنه لا بد من رضا النفس، حتى في الأمور التي لك، فأنت الذي اشتريت ذهب زوجتك، وأنت الذي دفعت المهر، لكن منعك الله سبحانه وتعالى أن تأخذ شيئاً من هذا إلا برضاها: ” فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ” (4النساء).

لكنك لو وضعتها في الأمر الواقع، إما أن تعطيني هذا الذهب، أو تذهبي إلى أبيك فأنا لا أريدك، فهل ستعطيه لك بطيب نفس؟ لا، أو تقول لها: إما أن تعطيني ما ادخرتيه من المال أو لا تبقي معي في البيت، فهل يوجد طيب نفس هنا؟ لا، كان مالك ثم أصبح ملكها وانتهي الأمر، فلا تأخذه منها إلا بإذنها.

البعض إذا رفضت يضربها ضرباً مبرحاً ويأخذه منها غصباً عنها ويقول لها: اذهبي إلى بيت أبيك، فهذا ملكي أنا، وهذا أسلوب ليس في دين الله، ولا يرضى به عاقل في واقع هذه الحياة، لأن هذا مال لا بد فيه من تحري الحلال وأن يكون عن طيب نفس.

سيدنا رسول الله كان أحياناً في الغزوات تأتيه الغنائم، فكان يوزع الغنائم في البداية جزء منها على المؤلفة قلوبهم، وهم المؤمنون حديثاً ليثبت ويرسخَّ الإيمان في قلوبهم، فبعضهم بدأ يطلب من الغنائم، واحد منهم اسمه حكيم بن حزام رضي الله عنه، وكان من حكماء العرب، يقول:

{ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى }[10]

يعني لا تأتني وتطلب مني مرة ثانية، لأنه ربما يكون هناك من هو أولى منك، وأنا أعطيتك مرة لأتألفك فأريد أن أعطي غيرك، أو أُعطي الفقير المحتاج.

عزة المؤمن

فماذا يكون المؤمن دائماً؟ يكون عزيزاً، ومعه عزة النفس، تُعرض عليه الدنيا بما فيها فيأباها، لأنه يريد ما عند الله: ” وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِلابْرَارِ ” (198آل عمران).

فإذاً لا تستهين بهذه الأمور الصغيرة، حتى ولو كان كتاب أو مجلة، مثلاً أعطاني أحد كتاب وقال لي: خذ هذا الكتاب وأعطه لفلان، فنفسك تقول لك: أقرأه أولاً، وعندما تأخذ لتقرأه تنسى أن تعيده لصاحبه، فهنا أصبحت سرقة لأنك أخذته بغير إذنه، لكن لو أردت قراءته قل له: اتركه معي لأقرأه وأعيده لك مرة ثانية.

ولذلك لو لاحظتم لو إنسان أخذ كتاب بغير رضا نفس لا ينتفع به، وقد يضع الكتاب في مكان وينساه ولن ينتفع به، ولكنه باء بإثمه، لماذا؟ لأن الدين حرَّم الطمع.

مثلاً: زرت إنسان وقلت له: هذه العلبة التي تضع فيها المناديل تعجبني جداً، فيقول له: خذها، ولكنه غير راض نفسياً، فأصبحت هذه العلبة حرام، وقس على ذلك سائر الأمور.

فأهم شيء للإنسان في البداية الورع، والورع أساسه أن يقضي على آفة الطمع التي عنده في هذه الدنيا الفانية، فكل ما فيها لا يستحق.

وفي أي شيء يطمع الإنسان؟ يطمع في فضل الله، يطمع في كرم الله، يطمع في نظرات رسول الله، يطمع في ما أعطاه الله للصالحين، فإن عطاءاته لا تنفد تبارك وتعالى.

لكن الطمع فيما في أيدي المؤمنين والمسلمين أو فيما طلب مني أن أوصله لأحد من أحبابنا المتقين، فهذا لا يجوز أبداً في دين الله تبارك وتعالى.

وهذه الأمور كثير من الناس يستهينون بها، ولكن عقابها شديد، ما عقابها في كتاب الله؟ ليته يدفع ثمنها أو يُسجن أو يعذب في جسده، لكن عقابها: ” فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ” (77التوبة) فوراً تأتيه هذه العقوبة، وهذه لا يشعر بها إلا خاصة المتقين والأولياء والصالحين، لأن المؤمن دائماً وأبداً يُظهر جمالات سيد الأولين والآخرين، وهو صلى الله عليه وسلَّم كان العفَّة كلها والعِزَّة كلها، فلا يطمع إلا فيما عند مولاه تبارك وتعالى.

بعد ذلك يجهز نفسه أي يزكيها، ويذهب ليسمع الكلام، والكلام سيُكتب في صدري، ولا يُمحى بعد ذلك أبداً، ويخرج منه على قدر ما تستطيع الجوارح والحقائق من العمل، حتى أعمل به لأفوز بقول الحبيب صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ أَوْرَثَهُ الله عِلْمُ ما لَمْ يَعْلَمْ }[11]

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] بنها 25 من ربيع الأول 1444هـ 21/10/2022م

[2] مسند أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه

[3] شعب الإيمان للبيهقي والطبراني عن عائشة رضي الله عنها

[4] البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[5] معجم الطبراني ومسند البزار عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

[6] معجم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما

[7] سنن الدارقطني ومسند أحمدعن أنس رضي عنه

[8] سنن الدار قطني ومسند أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقيل اللفظ لابن عمر

[9] سنن ابن ماجة والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه

[10] البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه

[11] حلية الأولياء لأبي نعيم وأحمد عن أنس رضي الله عنه

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid